الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" فمن أعدى الأول؟ " فأما المؤمن الغافل عن الأخذ بالأسباب، فهو يذكر بها، ويقال له كما في حديث الترجمة " لا يورد الممرض على المصح " أخذاً بالأسباب التي خلقها الله تعالى، وكما في بعض الأحاديث المتقدمة:" وفر من المجذوم فرارك من الأسد ".هذا هو الذي يظهر لي من الجمع بين هذه الأخبار وقد قيل غير ذلك مما هو مذكور في " الفتح " وغيره. والله أعلم.
"الصحيحة"(2/ 659 - 660).
[432] باب الجمع بين حديث: «لاعدوى ولا طيرة»
وحديث: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»
سؤال: الجمع بين حديث: «لا عدوى ولا طِيَرة ولا هامة ولا صفر» ، وحديث:«فر من المجذوم فرارك من الأسد» ، لأنه كثير من الناس يسألوا عن هذا؟
الشيخ: من مزايا القرآن الكريم وكذلك كلام الرسول الأمين: بأنه يخرج من مشكاة واحدة، وهو كما قال تعالى في القرآن الكريم:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 1 - 4)، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامه يوحى إليه من السماء كالقرآن، والفرق بين القرآن الكريم أنه لفظه ومعناه من رب العالمين، أما أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام فهي معانيه من وحي السماء، من هذا الجانب الحديث يلتقي مع القرآن، لكن يفترق عن القرآن من حيث أن اللفظ لهذه المعاني هو من ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام، أما القرآن فهو كلام الله، فهو كلامه ومعناه، أما حديث الرسول عليه السلام فاللفظ منه والمعنى من ربه تبارك وتعالى؛ ولذلك فهو من حيث الحيثية معصوم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا
مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42).
بناء على ذلك: كما أن الله عز وجل شهد لكلامه وهو القرآن تلك الشهادة المسطورة في القرآن ألا وهي قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82)، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، ولكن لما كان من عند الله فلن تجدوا فيه اختلافاً قليلاً فضلاً عن أنكم سوف لا تجدون فيه اختلافاً كثيراً.
كذلك ينبغي لكل مسلم أن يعتقد في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا تناقض فيه ولا تضارب ولا اختلاف؛ لأنه كما ذكرت آنفاً هو من الله معناه ولفظه عليه الصلاة والسلام منه، ثم هو في لفظه معصوم، يؤكد لكم هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر، الشك الآن مني (1)، المهم أن الحديث يدور على أحد عبادلة الصحابة، فهو إما عبد الله بن عمرو بن العاص وإما عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال:«كنت في مجلس فيه المشركون، وكنت أكتب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، فقالوا له في ذلك المجلس: إنك لتكتب عن محمد ما يتكلم به في ساعة الرضا والغضب» ، صار في نفسه شيء، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر له هذه الشبهة الشركية، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال له وقد وضع إصبعه على فمه الكريم وقال له:«اكتب فوالذي نفس محمد بيده لا يخرج منه إلا حق» (2).
ولكن حينما ترد بعض الأحاديث تبدو لبعض الناس خاصة إذا كان من الذين
(1) هو عبد الله بن عمرو.
(2)
صحيح الجامع (رقم1196).
لم يؤتوا حظاً كبيراً من العلم، فيتوهمون التعارض بينهما، ثم يكون عاقبة ذلك بالنسبة إليهم أن يَشَكُّوا في كل من الحديثين، أي: في ثبوتهما، وبالتالي أن يضربوا أحدهما بالآخر، فيقعون في الضلال الكبير؛ حيث أعرضوا عن حديث الرسول عليه السلام وهو صحيح.
وهناك علم في علم الحديث يعرف بعنوان: اختلاف الحديث، هذا فصل من فصول علم الحديث، ولكن بعض العلماء الأقوياء ألفوا كتباً في اختلاف الحديث، من هذه الكتب مثلاً: كتاب: «مختلف الحديث» لابن قتيبة وهو مطبوع أكثر من طبعة واحدة، ومن ذلك أيضاً «كتاب: مشكل» الآثار لأبي جعفر الطحاوي، وهما كتابان مهمان جداً؛ لأنهما يدربان طالب العلم على معرفة طريق التوفيق بين الأحاديث التي يبدو منها التعارض، يبدو ولا تعارض بينهما، والأمثلة في هذا النوع كثيرة وكثيرة جداً، حسبكم أن تعلموا ما سبق ذكره أن العلماء ألَّفوا كتباً في هذا المجال، وإنما يهمنا الآن الإجابة عن ذاك السؤال.
هناك الحديث المشهور: «لا عدوى» ، وهناك حديث آخر يبدو أنه معارض لهذا الحديث الأول وهو:«ارجع فإنا قد بايعناك» ، ولا بد من ذكر كل من الحديثين؛ حتى أولاً يتقوى في الظاهر التعارض بينهما، لكن في الحقيقة سنتمكن من القضاء على التعارض قضاء مبرماً، وأن نتفهم الصواب من المعنى المراد من كل من الحديثين معاً.
أما الحديث الأول: «لا عدوى» ، وهو فقرة وقطعة من حديث له تتمة:«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول» ، فلما تحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث كان في المجلس بدوي صاحب مال، فعرض عليه شبهة في قوله عليه السلام الذي فيه:«لا عدوى» ، قال: «يا رسول الله! إنا نرى الجمل الأجرب يدخل
بين الجمال السليمة فيعديها، فقال عليه السلام: فمن أعدى الأول؟»، انتهى الحديث الأول.
الحديث الثاني: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبايعه على الإسلام، وفي يده داء الجذام» ، وداء الجذام مرض معدي معروف، «فقال له عليه السلام: ارجع فإنا قد بايعناك»، يعني: لم يرد الرسول عليه السلام أن يصافحه وبايعه خلاف مبايعته لعامة الصحابة، حيث كان يبايعهم بالمصافحة، فجاء الرجل أيضاً يريد أن يبايع الرسول عليه السلام بالمصافحة، فاعتذر له وقال له:«ارجع فإنا قد بايعناك» ، من هنا جاء التعارض.
ولكن الحقيقة أن الحديث الأول لا ينفي العدوى، لكنه ينفي عدوى معينة موصوفة بصفة خاصة، ولا ينفي العدوى بصورة عامة، كيف؟
لما قال عليه السلام: «لا عدوى» تبادر إلى ذهن الأعرابي البدوي أنه ما يتبادر إلى أذهان كثير من الناس: إنه .. ينفي العدوى، ولذلك أورد الإشكال الذي هو يلمسه بيده ويراه بعينه، جماله السليمة التي كما جاء في بعض الأحاديث:«وبرها كالذهب» ، فإذا دخل فيها الجمل الأجرب سرى الجرب إلى بدنها وصار يعني رؤية مكربة جداً، فعرض على الرسول هذه الشبهة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم سلك معه سبيلاً حكيماً جداً، لم يقل له: أنت لم تفهم الحديث، لن تفهم قصدي ومرادي، وإنما قال له كلمة واحدة ليفهم مقصود الرسول عليه السلام، من باب: الإشارة تغني عن صريح العبارة، قال له:«فمن أعدى الأول؟» .
بهذا الجواب يمكننا أن نقول: وضع الرسول عليه السلام النقاط على الحروف كما يقال في هذا الزمان، فهو حينما قال:«لا عدوى» نفى العدوى التي
يعتقدها أهل الجاهلية، وهي: أنها تنتقل بذاتها، بمجرد مخالطة الجمل الأجرب الجمل السليم لا بد أن يعديه بجربه، فالرسول عليه السلام نفى هذا العقيدة الجاهلية، وهي عقيدة يمكن أن نقول: إنها رجعت اليوم في جاهلية القرن العشرين؛ ذلك لأن الأطباء لا أقول الأطباء الكفار فقط، بل وبعض الأطباء المسلمين الذين ليس عندهم الفقه الإسلامي الصحيح-،أصبحوا قد وقر في نفوسهم أن هيك طبيعة الداء أنه يعدي بذاته بطبيعته، والأمر ليس كذلك، هناك فرق كبير جداً بين العدوى وبين أسباب أخرى جعلها الله عز وجل أسباباً مطردة لا تختل إلا بصورة خارقة للعادة كالمعجرات والكرامات .. ونحو ذلك.
مثلاً: شخص جوعان يأكل يشبع، ما نقدر نقول: ما يشبع، هكذا سنة الله في خلقه، إنسان عطشان يشرب ماء يرتوي، انتهى الأمر، لكن ليس كذلك مجرد ما إنسان سليم يخالط شخصاً آخر مريضاً بمرض يعدي، إنه لا بد هذا المرض أن ينتقل إلى هذا السليم، قد وقد، فحينما يقع المسلم في افتراض أمر في شيء خلقه الله لحكمة بالغة فيبالغ في هذا المخلوق ويصفه بما يخالف الواقع، حينئذ يكون قد وقع في الخطأ، وهذا ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى وما عليه كثير من الأطباء في هذا العصر كما ذكرت آنفاً، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال:«لا عدوى» ، أبطل عدوى الجاهلية، أي: التي تنتقل بذاتها، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لذات الأعرابي: أنت تقول كذا وكذا وقولك لا نرده؛ لأنه أمر مشاهد، ولكن من أعدى الجمل الأول؟ اللي هو بدأ يعدي في نظركم؟ الجواب: هو الله، إذن الأمر كله بيد الله تبارك وتعالى، فإذا فهم المسلم أن هناك عدوى في بعض الأمراض، وهذه حقيقة علمية، بل وشرعية لا يمكن إنكارها، أي: العدوى حقيقة شرعية قبل أن تكون حقيقة علمية؛ ولذلك لا يمكن إنكارها، فالذي ينصب عليه إنكار النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «لا عدوى» إنما هي عدوى الجاهلية التي كانوا يغفلون عن الله عز وجل، وأنه هو إن شاء أذن بذلك الداء بأن ينتقل إلى السليم من الداء أو لم يأذن.
هذا هو مقصود الحديث وهو قوله عليه السلام: «لا عدوى» ، فهو لا ينكر العدوى مطلقاً، ولا ينفيها مطلقاً، العدوى ثابتة كما قلت آنفاً شرعاً وعلماً، أما شرعاً فالحديث الثاني:«ارجع فإنا قد بايعناك» ، وعندكم حديث يعتبر من المعجزات العلمية الطبية النبوية، وهو ما يسمى اليوم بالحجر الصحي، حيث قال عليه الصلاة والسلام واضعاً الأصل للحجر الصحي الذي جاءنا من أوروبا وأوروبا أخذوه من ديننا، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا وقع الطاعون بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع الطاعون في أرض لستم فيها فلا تدخلوا إليها» (1)، إذاً لماذا نهى من كان في أرض الطاعون أن يخرج إلى أرض لا طاعون فيها؟ خشية أن ينقل داء الطاعون، هذا يسمى بالكوليرا مثلاً، وأمر من كان الطاعون في أرض غير أرضه ألا يدخل عليها خشية ماذا؟ أن يصيبه الطاعون، فإذاً هناك عدوى لا يمكن إنكارها شرعاً فضلاً عن تجربٍة وعلم.
ثم العدوى هذه يمكن أن تشاهدوها في غير الحيوان، وأعني بالحيوان الجنسين: الحيوان الناطق أو الإنسان، والحيوان الصامت وهو الدواب والحيوانات التي سخرها الله لنا، يمكن أن نرى العدوى في غير الحيوان، في بعض النباتات مثلاً، أو في بعض النتائج من بعض الحيوانات، مثلاً: البصل إذا بصلة واحدة فسدت تعدي من حولها، البيضة العفنة إذا وضعتها بين بيض سليم طازج اليوم، بعد أيام ثلاثة يسري إليها الفساد، هذه العدوى، هذه حقيقة لا يمكن
(1) مسلم (رقم5905).