الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ساق حديثاً فيه أن يهوديين قبلا يده صلى الله عليه وآله وسلم ورجله!
قلت: ومع أن الحديث في ثبوته نظر كما سبق بيانه في موضعه (ص14) فهل يريد الشيخ في ذلك أن يشرع للناس أن يًقبِّل المريد رجل شيخه أيضاً اعتماداً منه على فعل اليهوديين؟! فإن قيل: لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقرهما على ذلك فيقال: أثبت العرش ثم انقش، فالحديث لم يثبت كما ذكرنا، ولو ثبت، فليس يجوز قياس المسلم على اليهودي، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فلئن أقر صلى الله عليه وآله وسلم اليهوديين على تقبيل رجله، فلا يلزم منه إقرار المسلم على مثله لأنه عزيز وذاك ذليل صاغر، فأي قياس أفسد من هذا على وجه الأرض أن يقاس المسلم على الكافر، والعزيز على الذليل؟! ولو جاز فلا يجوز لأي شيخ أن يقيس نفسه على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيجيز لها ما جاز له صلى الله عليه وآله وسلم! لأنه من باب قياس الحدادين على الملائكة! أو هو على الأقل قياس مع الفارق!
"نقد نصوص حديثية"(ص 75)
[313] باب حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهل ثبت هذا عن بعض الصحابة وعن الإمام أحمد
؟
سؤال: سؤال آخر عن مسألة التبرك بآثار الرسول سواء متصلة كشعره أو منفصلة كثيابه أو المنبر، يُروى عن ابن عمر أثر أنه كان يتبرك بمنبر الرسول، كذلك عن الإمام أحمد: ذكر الذهبي هناك في معرض الاحتجاج على الحنابلة بأنه كان يتبرك بشعرات الرسول، كذلك بمنبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فما أدري هل صحت هذه الأسانيد عن ابن عمر أولًا ثم عن الإمام أحمد، ثم ما الموقف الصحيح في هذه؟
الشيخ: أما عن الإمام أحمد فلست أدري؛ لأن ما يذكر في مناقب الأئمة
والحفاظ لا شك أن علماء الحديث لا يعنون برواية هذه المناقب كما يعنون برواية الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسانيد الصحيحة، وهم في الأغلب يذكرون المناقب معلقة دون ذكر إسناد ما مثل هذه المناقب، وعلى ذلك فلا نستطيع أن نثبت أو أن ننكر وندع الأمر هكذا معلقًا حتى يتسنى لنا الوقوف على إسناد يمكن تطبيق قواعد علم الحديث عليه، ثم لا يترتب من وراء ذلك أي فائدة شرعية تذكر، وما هذه المناقب التي تذكر في بعض التراجم عندي إلا كمثل ما يروى عن بني إسرائيل، وقد تعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول:«بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» وقال في بعض الأحاديث الأخرى: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» (1) لأننا قد نصدق بشيء وهو كذب، أو نكذب بشيء وهو صدق.
وهكذا أنا أقول بالنسبة لبعض المناقب، فضلًا عن المثالب فلا نقف عندها كثيرًا إلا إذا جاء شيء منها
…
بالسند الذي نصحح به الحديث أو نحسنه على الأقل، حينذاك نقول: ثبت هذا أو لم يثبت، أما ما أشرت إلى بعض ما جاء عن بعض الصحابة فلا شك أن بعض ذلك ثابت صحيح عنهم، وما تبرك بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرقه صلى الله عليه وآله وسلم وخلطها إياه بطيبها هذا مما لا شك فيه لوروده في صحيح مسلم، ولذلك فلا يستطيع حديثي عنده إلمام بالروايات وبنقلها تصحيحًا وتضعيفًا أن ينكر وقوع مثل هذا التبرك من بعض الصحابة لبعض آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد وفاته.
لكننا نرى نحن أن هذا الحكم ينبغي سده من باب سد الذرائع؛ لأن الذين
(1) السلسلة الصحيحة (6/ 1/712 - 714).
كانوا يفعلون ذلك هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين عرفوا التوحيد بمعانيه الصحيحة، ولا يدور في الذهن أنهم يمكن أن يقعوا في شيء من الغلو في النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف هؤلاء المتأخرين الذين جاءوا فقد
…
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلوًا كثيرًا وفي صور شتى، فلا نستطيع أن نقيس الخلف على السلف فلئن ثبت كما ذكرنا عن بعض الصحابة ذلك فهو حكم ومن أحسن أحواله أن يقال بأنه جائز، والأمر الجائز إذا خشي أن يترتب من ورائه فساد في العقيدة أو القلوب فيجب إيقافه من باب سد الذريعة.
ولعل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان ينظر هذه النظرة البعيدة حينما حج في خلافته ونزل منزلًا من تلك المنازل فرأى بعض الناس ينحون منحًى عن الجادة وعن الطريق، فلما سأل إلى أين هؤلاء يذهبون؟ قيل له: بأن هناك مصلًى صلى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم يقصدون الصلاة في هذا المصلى، فقال رضي الله تعالى عنه: من أدركته الصلاة من شيء من هذه المصليات التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فليصلّ ومن لا فلا تفعلوا فإنما أهلك من قبلكم اتباعهم آثار أنبيائهم.
فهذا الاتباع كان سببًا في وقوع الفساد
…
بالنسبة لمن كان قبلنا من اليهود والنصارى، فلا غرابة ولا جرم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» فعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصح أمته بهذا الحديث إذا بهذه الأمة من على فيه وقال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
واحكم بما شئت فيه مدحًا فاحتكم
فهذا في واد، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا تطروني كما أطرت النصارى .. » في واد آخر،
ومنشأ هذا الغلو ينشأ من فهم هذا الحديث بمعنًى واسع أكثر مما يدل عليه الحديث بتمامه؛ لأن هذا الحديث يمكن تمريره وتفسيره بأحد معنيين:
الأول: لا تطروني: لا تبالغوا في مدحي، وهذا مفهوم عنده، ولكن لا تبالغوا، فهذا هو المعنى الأول.
المعنى الآخر، وهو الذي يبدو لي: أنه ينهى أمته أيضًا من باب سد الذريعة أن يمدحوه عليه الصلاة والسلام بشيء من عند أنفسهم خشية أن ينحرف بهم المدح عن العدل وعن كلمة الحق، هذا المعنى هو الذي سيترجح عندي أولًا بالنظر إلى تمام الحديث حيث قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم» وكأن سائلًا سيسأل: فماذا وكيف نقول وكيف نمدح؟ فأجاب الرسول عليه السلام كما هي عادته ولا غرابة في ذلك، فإنه كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 - 4)«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد-إذًا-فقولوا: عبد الله ورسوله» لا تزيدوا في مدحي على ما مدحني ربي تبارك وتعالى، وليس المعنى إذًا: لا تبالغوا وإنما لا تمدحوا إلا بما جاء في الكتاب والسنة.
والذي جعلني أميل إلى هذا المعنى الثاني هو أن علماء الحديث ذكروا هذا الحديث في باب: تواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [وإذا أخذنا] الحديث بالمعنى الأول لم يتفق الحديث مع الترجمة ولم يترجم الباب لهذا الحديث؛ لأنه أن يُقال
…
لا تبالغ في مدحي فهذا واجب، بينما الباب تواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يليق بهذا التواضع إنما هو أن يقول عليه الصلاة والسلام: لا تمدحوني ولا تقولوا شيئًا إلا عبد الله ورسوله؛ لأن الله عز وجل هكذا وصفه عليه الصلاة والسلام.