الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإصلاح الاجتماعي
من عادتي -إذا ما استبهمَ علي نَفاذُ الرأي- أن أعدل بأفكاري إلى الليل، فهو أحصنُ لها وأجمع. فإذا كان الليلُ، وهدأتِ النائرةُ، وأَوَى الناسُ إلى مضاجِعهم، واستكنت عقاربُ الحياةِ في أجحارِها، تفلتُّ من مكاني إلى غرفتي أُسدِلُ ستائرها وأغلِّقُ أبوابها ونوافذها، وأَصنعُ لنفسي ليلًا مع الليل، وسكونا مع السكون، ثم أقعد متحفزا متجمعًا خاشِعًا أملأ عيني من ظلام أسود، ثم أدعُ أفكاري وعواطفي وأحلامي تتعارف بينها ساعة من زمان، حتى إذا ماجت النفس موجها بين المد والجزر، ثم قرَّت وسكنت، وعاد تيارها المتدفق رهوًا ساجيًا كسعادة الطفولة، دلفت إلى مكتبي أستعين الله على البلاء.
وأمسِ، حين أيقظني من غفوتي داعي "الرسالة" جمعت إليَّ ما عزمت على قراءته من الصحف والمجلات والكتب -التي هي مادة هذا الباب- وطفقت أقرأ وأقرأ، ولا أكتم أني كنت أقرأ في هذا اليوم -على خلاف عادتي في أكثر هذه الأيام- قراءة المتتبع اليقظ الناقد المتلقِّف لأضع يدي على أغزر الأصول مادة وأعظمها خطرًا وأشدها بِنية. . . . وأدسمها شحما، فإنّ حق القراء علينا أن نتخذ لهم صنيعًا ومائدة تكون أشهى وأمرأ وأقرب متناولًا وأردَّ على شهواتهم فائدة. فلما فرغت من إعداد ما أعددت لهم وأويت إلى ليلى المختلق المزيف، جعلت أستعيد في نفسي ما قرأت، وأين وقفت منه، وما تنبهت له مما تعودت أن أستشفُّه من وراء الألفاظ المعبرة، ومن تحت السياق المهدِف إلى غرضه -مما هو بأخلاق الكُتاب وعاداتهم ونوازعهم وخفايا نفوسهم ألصق منه بأغراض الكاتب فيما كتب. فما كدت أقدح الظلام بعيني وأفكر في هذا الأمر وأستدرجه إلى نفسي حتى رأيتني أكاد أنفر من مكاني لما عراني من سوء الرأي وقسوة الظن، فإن طول تغلغلي في معاني الكُتاب والشعراء، أو في معاني أنفسهم، يدلني على أن أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمه ليعبر عنه، غيو محتفل بما يقول، فكذلك يخرج الكلام متخاذلًا مفككا كأنه ناقة من وباء مرض، ويخيل
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 340)، 1940، ص: 62 - 64
إلي أن أكثر كتابنا إنما يتناولون المعاني والأغراض من عَيبةٍ (1) جامعة غير متخيَّرة ولا منتقاة ولا مصنفة، وأنهم إنما يعرض لهم اشتهاء القول فيقولون للشهوة المستبدة لا للرأي الحاكم، وأنهم إنما يكتبون ليبقوا كُتابًا في عقول الناس وعيونهم من طول ما تعرض عليهم المقالات متوجة بالأسماء مذيلة بها، وأن الكلام عندهم هو أهون عليهم من ضغطة النائم المتلفف زرَّ الكهرباء فإذا هو نور مستفيض. لابد للعرب والعربية أن يبرأ هؤلاء من أمراضهم ثم يقولون، وأن يعتدوا بجمهرة القراء اعتداد من لا غنى له عنهم ولا فقر بهم إليه، فبذلك أيضًا يصلح ما فسد من القراء الذين يقرأون الأسماء دون معاني هذه الأسماء. ويومئذ لا يشكو الكُتاب من بوار أسواقهم، لأنهم يعرضون للناس الحَسَن الذي ينشئ في القلوب الإحساس بالحُسن والرغبة في اختيار الأحسن، ويتشوق الناس الجميل لأنه جميل يسمو بالروح في سُبحات المثل الأعلى من الجمال الروحاني. . . ثم لا يجيزون إلا الجميل. وكذلك يترافد الكاتب والقارئ ويمدُّ أحدهما الآخر بأسباب حياته وخلوده لكن خوافق الأدب السامي الرفيع. هذا هو بعض الرأي أدعو إليه كتابنا، والأدب على شفا جرف هار إلى البوار والبلى والفساد.
* * *
والآن، وقد تحدَّثت النفس ببعض كلامها، أعود إلى "أدب الأسبوع" ويخيل إلى أن "وزارة الشؤون الاجتماعية" هذه التي استحدثت بعد أن لم تكن، قد كان من فضل اسمها أن أيقظ أكثر كتَّابنا إلى حقيقة ملموسة كانوا يَغُضُّون دونها أبصارهم لما تلبس صاحبها من لباس الخزي والعار: وهي بقاؤنا بين الأمم أمة لا قوام لها من نفسها وأصلها وتاريخها، وأن مركز مصر الاجتماعي والسياسي والشرقي أيضًا قد سما في ظن الناس ولكنه في حقيقته أقل مما يُحمل عليه من الزينة والتألق والزخرف المستجلب بالإيحاء وإرادة الاستغلال. فقد كتب الدكتور هيكل في "السياسة الأسبوعية" عدد (152) كلمة في "نهضة الإصلاح في مصر" استقصى بها تاريخها وقواعدها وأغراضها من عهد الثورة الفرنسية إلى هذا الوقت. وكذلك كاتب الدكتور "طه حسين" في "الثقافة" عدد (52) يقترح
(1) العَيبة: وعاء من أَدم يكون فيه المتاع.
إنشاء "مدرسة المروءة". وجاء "الزيات" في ختام فاتحة "الرسالة" لعامها الثامن يشكو إلى الله: "إن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فَلَم يعودوا يدركون معنى الجميل، وإن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل، كان زعماءنا تفرقت بهم السبل بتفرق الغايات، فِلكُلّ غاية دعوة ولكل دعوة سبيل". وكل هذه تلتقي على أصل واحد، وهو أن الحياة الاجتماعية لا تزال تحبو في مدارجها، وأن "لين العظام" يُخشى أن يطول علينا بقاؤه في صدر الحياة حتى نقعد دون شبابها، وأن الإصلاح لابد أن يتعجل حدوثه. . . . ولكن كيف يكون ذلك؟ ! .
وقد ساق الدكتور طه حديثه عن المروءة ساخرًا من هذا الجيل الذي طبع على سفاسف الأخلاق، وتحطمت عنده مكارم الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضربًا من التجارة يلبِّسها الغش والخِلابُ والمواربة وتلقِّي التاجر للبائع بالدهان حتى يكون هو في باطنه أظلم شيء، وظاهره يتلألأ بمعاني الشرف والأمانة والنزاهة وإرادة الموافقة وتغليب منفعة المشتري على منفعته، وغير ذلك من حيل التُّجار والسماسرة. فأراد أن يمزح، فيدعو إلى اقتراحه إنشاء مدرسة للمروءة ليسخر من "تنازع الاختصاص" في وزارتنا بل في أعمالنا كلّها. وهذا كله في مدرجه جيد لا يحاول أحد أن ينازع عليه أو يختلف فيه، ولكن التهكم في هذا الدهر المائج بصنوف العذاب والبلاء لا يكاد يجدي شيئًا في الإصلاح. وهل يظن الدكتور طه أن كل هؤلاء الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة شؤونها ومرافقها وأسباب عيشها -لا يستشعرون من ذلك ما نستشعر، ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد؟ أجل؛ ولكنهم كالذي يصف هو فيما سبقَ من الحديث، فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كلُّ الطبيب هو بعض المريض! إن أعمال الإصلاح الكبرى لن تأتي من وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا وزارة المعارف، ولا غيرهما إذا بقى الشعب ينظر إلى هذه كلها ليرى ما تعمل. والرأي لا يمكن أن يتجه في هذا الأمر إلى تسديد وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وتوقيفها على ما يجب عمله باقتراحات ومذكرات وبيانات. . . . إلى آخر هذه الجموع. إن عمل الإصلاح الآن موقوف على شيء واحد، على ظهور
الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلوم يحمل في رجولته السراجَ الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى في اللغة "الإنسان". وليس ظهور هذا الرجل بالأمر الهين، ولا إعداده بالذي يترك حتى يكون؛ بل هنا موضع للعمل وللإنشاء. وكبرُ ذلك مُلقًى على الأدباء والكتاب والشعراء، وعلى كل إنسان يحترم إنسانيته؛ فالأدباء ومن إليهم قد وقع عليهم التكليف أن يرموا بما يكتبون إلى إيقاظ كل نائمة من عواطف الإنسان، وإلى إثارة كل كامنة من نار الهداية المحاربة التي لا تخمد، ولا يكون ذلك شيئًا إلا بأن يعدّ كل أحد نفسه كالجندي عليه أبدًا أن تكون حماسته هي روح الحرب فيه، فهو يمشي بها في كل عمل، ولو في نقل البريد من مكان إلى مكان. إذن فأول الإصلاح الاجتماعي هو إدماج عواطف الفرد في مصالح الجماعة على أَتم صورة من صور الحماسة أي القوة التي تنبعث من الدم لتطهير الدم؛ وهذا بعض ما نتوافى عليه مع الدكتور هيكل إذ يقول في مقاله الذي أشرنا إليه آنفًا "لم يفكر أحد في مشكلاتنا الاجتماعية واضعا نصب عينيه غاية قومية يريد أن يحققها، بل ترانا إذا فكرنا في الأمر كان الدافع لتفكيرنا فيه عواطف الشفقة أحيانا، والبر بالإنسان أحيانًا أخرى، وهذه عواطف قد تحمد في الأفراد، لكنها لا قيمة لها في حياة الجماعة ويوم فرض الله الزكاة في الإسلام وقرن بها الصدقة لم يقم الشارع ذلك على أساس العاطفة الفردية، بل أقامه على أساس النظام الاجتماعي".
والكتابة هي زكاة العلم، فيجب أن تقوم على هذا الأصل الفردى المتحمس المتدفق بتياره في أعصاب النظام الاجتماعي، فإذا اتخذها كتابنا على هذا وتكلموا بقلوبهم قبل ألسنتهم وأقلامهم كان ذلك قمينًا أن يبعث الرجل الذي سوف يضئ للحياة الاجتماعية سُدَف (1) الجهل والضعة والبغى والاستبداد.
(1) سُدَف: جمع سدفة، وهي الظُّلمَة.