الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعتذر إليكَ
. .!
أكتب هذه الكلمة محزون النفس لشيء اجترمته، كان أولى بي أن أصبر حتى لا أزل عليه. وذلك أني قرأت كلمة في بعض المجلات يقول فيها كاتبها:"فإذا مُنِع الفقير حقه، فله أن يقاتل عليه، لأنه الله يأمر بقتال الباغين {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، ولا شك أَن مانع الحق باغ". فاحتملتنى العجلة وسوء الظن، أن أرى الكاتب قد استدل بالآية في غير مكان الاستدلال بها. فساء قولى في الرجل بين جماعات من الناس، إذ لم يقع لي إلا أن الآية في اقتتال طائفتين من المؤمنين ثم بَغْي إحدى الطائفتين على الأخرى. ولما سكن بى الليل أمس (السبت 12 جمادى الآخرة سنة 1371) حاك في قلبي شيء لم أدر ما هو، وألح على أنى اكتسبت في أيامى هذه إثمًا أخشى أن لا أفلت من عقابه. وارتفعت لعيني هذه الآية بختامها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، فرأيت من العدل والقسط أن أرجع إلى تفسيرها، وإلى أقوال الأئمة في قتال أهل البغي، فعرفت ما لم أكن أعرف، أن بعضهم قد استدل بها في مثل ما استدل عليه الكاتب الفاضل، وإن كان لطريقة الاستدلال عندهم نهج غير نهجه، وقيد فيما أطلقه. وإذا أنا قد ظلمته ظلما لا ينبغي. فلم أزل منذ تلك الساعة أستغفر الله لما فرط مني وما جرى من لسانى من الكلم السئ، واستغفرت له بما أسأت إليه بظهر الغيب.
فلما قرأت الرسالة في صباح ليلتي (الأحد 13 جمادى الآخرة)، كنت أوشك أن لا أحمل القلم مرة أخرى للرد على الكاتب الفاضل في مقاله:"أجل .. ذو العقل يشقى"(1). ولكني وجدت السبيل قد تيسر لي أن أعتذر من سيئة اكتسبتها في الإساءة إلى رجل بظهر الغيب، لنفس الداء الذي نهيت الأستاذ عنه، وهو العجلة. وأنا لم أقصد نُهْيَتَه إلا لما فيه خير له ولي إن شاء الله.
(*) الرسالة، السنة العشرون (العدد 976)، مارس 1952، ص: 304 - 305
(1)
مجلة الرسالة، السنة العشرون (العدد 975)، مارس 1952، ص: 273 - 274، والكاتب هو الأستاذ محمد رجب البيومي.
وقد تبين لي بعد قراءة كلمته أنى أخطأت أيضًا في الذي كتبت به إليه، فوقعت بما كتبت في نفس ما نهيته عنه. وما كان أغنانى عن هذه الخصلة السيئة التي تجلب على غضب أستاذ فاضل، لم أسمع به ولم أعرفه، ولا أظنه يعرفني. والأستاذ الفاضل بلا ريب هو عندي أكبر مما ظن في نفسه، وإذا كان هو قادرًا على أن يضن بكرامته، فالواجب علي أنا من قبله أن أضن بكرامته. وإذا كانت كرامته تأبى أن تنزل منزلة يُوَجَّه إليه من أجلها شيء يقدح فيها، فأنا أيضًا أنزهه عما ظن في كلامي من "الشتائم والتنقص والسباب". وإذا كان كلامي الطويل العريض، كما وصف، ليس فيه شيء يقنع المنصفين، وليس هو إلا فقرات مبعثرة مضطربة أسوقها مساقًا مهلهلا لا يعرف الدقة ولا الحدود، وإذا كان كل ما أقوله لا أبغي منه إلا إرسال الكلام في الهواء، وإذا كنت عنده لست مؤرخا، ولم أخط كتابا في التاريخ، وأني أدخلت نفسي في قوم لست منهم، فأظن أن واجبه على الأقل أن يلغى كل ما أقول بمرة، فإن من الشقاء له أن يتعقب كلام كاتب هذا شأنه.
وأنا لا أستطيع صادقا أن أُفْهِم الأستاذ الفاضل شيئا مما أقول، فقد عرفت هذا بالتجربة، وإذا كان مما يرضيه أن أقول له إني مخطئ في كل ما قلت قديما، وما أقوله الآن، وما سوف أقوله إلى أن يكف لسانى وقلمى عن اللجاجة وإرسال الكلام، فأنا أقول له: إني أخطأت، وسوف أخطئ، ولن يسمع مني إلا ما أنا مقر على نفسي بأنه خطأ محض. وأزيده أنى عاجز كل العجز عن مقاومة حجته، وعن دفع براهينه، وعن التصدى لما يحسنه من العلم. بيد أنى أعود فأسأله أن يتغمد سوء أدبى بفضله، وإذا كان قد استخرج من كلامي سبابا وشتائم، فأنا أعيذه أن يكون غرضا لها، وأعتذر إليه، وأستغفر الله مما أزلفت إليه من إساءة، وله أحسن الأسوة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن بعض السفهاء لم يتورعوا قط عن سبهم والطعن فيهم، بأقبح اللفظ. فأين يقع مثلي من هؤلاء! فإني مهما ملكت من السباب والشتائم والبذاءة وسوء الأدب، فلن أبلغ بعض ما بلغوا من هؤلاء الصحابة، فلا عليه مني ومن سبابي وشتائمي. وليعلم الأستاذ الفاضل، إن
كان لا يعلم، أن هؤلاء السفهاء في الدنيا كثير، فإذا كان يغضب لكل سفاهة من سفيه، فإن شقاءه سيطول بغضبه، فدع السفهاء وليقولوا ما شاءوا، وكن أنت ضنينا بكرامتك، فإنها أعز وأغلى من أن تبذل على الألسنة. وتقبَّل إن تفضَّلتَ عذري وشكري واحترامي وتقديري، وعجزي عن مخالفتك، وحبى لرضاك، وقد بلغت مني في مقالك ما شئت، وناصيتى بيدك، وفي المثل:"ملكت فأسجح"(1). فافعل مؤيدا منصورا، والسلام.
(1) يُضْرَب في العفو عند المقدرة. والإسجاح: حُسْن العَفْو.