الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسانية النبيلة لتصرخ من وراءِ أسوار التاريخ تريدُنا أن ننقذ أنفسنا من أوهام (القرن العشرين)، ومن خرافاته الجميلة المزينة بالعلم، المثيرة باللذة، المندلعة بألسنة من نيران الشهوات والأهواء، الصاخبة بعبادة الأوثان التي تجُولُ في أدمغةِ البشر حاملة نَدَّها وبخورها ومجامِرها وطيبها، وكل ما ينفذ عطره إلى أعمق الإحساسات يثيرها لتقديس البشرية المتجسدة بلذاتها وشهواتها.
يجب -في هذا الزمن- أن نتحرر من أباطيل القرن العشرين وأباطيل القِدَم معًا، يجبُ ألا نعرف الحاضر بأنه هو الحاضرُ وكفى، ولا الماضي بأنه هو الماضي وحسْبُ، يجبُ ألا نَتعبَّدَ بشيء من كليْهما، يجبُ أن نأخذَ الحاضر والماضي بالعقل والعلم والفضيلة، وما لم يكن كذلك مما مضى ومما حضر فهو نَبذٌ يجب أن ننبُذَه ونتجافى عنه، يجب أن نتحرر، يجب أن نتحرَّر. . .
إننا الآن أممٌ تريد أن تسيرَ إلى غاياتها في إبداعِ حضارتها التي سترث جميع الحضارات التي سبقتها، والحضارةُ التي تأتي من التقليد ليستْ حضارة، وإنما هي تزييفٌ وكذبٌ ووثنيةٌ جاهلية تنحدر إلى هذا الزمن عن السلالات التي قال الله فيها:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟ ! } .
لن نبلغ شيئًا حتى تكون (الحرية والحب) نقييْن طاهرين مبَرَّأين كاملين متواضعيْن، فهما القوة التي تسير بهما الحضارة إلى مجدها وروائعها. إذا عرفنا الحرية وجرتْ في دمائنا فيومئذ تتهدّم كل هذه الأباطيل التي تعوقنا وتقف بين أيدينا من قمامات الرذائل الإنسانية التي قُذِفتْ في طريقنا من أباطيلِ الماضي وترهات القرن العشرين! !
الفن الفرعوني
والأستاذ سلامة موسى قد بنى نقده على ما يسميه (العقائد المجزومة)، وعلى عقيدته في (القرن العشرين)! ! ونحن -مع الأسف- لا نبني أبدًا كلامنا على (العقائد المجزومة)، ولا على التعصب (للقرن العشرين)، لو رجع
الأستاذ إلى المقالين اللذين نشرناهما في الرسالة عدد 344 و 345 عن محاضرة الدكتور طه، ولو رجع خاصة إلى حديثنا عن (الفن) ما هو، وكيف هو؟ وعن الفنان وعمله في فنِّه -لعرفَ أن دعوتنا كلها مبنيةٌ على تحرير أعمالنا من قيود الماضي والحاضر معًا على أساس من العقيدة والعلم والفضيلة، فلا يُزرِي عندنا بالقديمِ قِدَمه، ولا يُوغل في الجديد جدّته. وإن القول في (القديم والجديد) على اطلاع اللفظ، وجعله لفظًا تاريخيًّا زمنيًّا محصورًا باليوم والسنة، إن هو إلا تلذذ بالكلام كما يتمطق آكل العسل بعد أكله من تَحَلُّب الريق وشَهْوة الحُلْو، ولو كان في هذا العسل السم الناقع.
إن حديثنا عن الفن الفرعوني، وأنه لا يصلح أن يكون شيئًا يستمد منه الفنان في زماننا، لا يمت بصلة إلى الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ سلامة موسى في فهم كلامنا، لأننا نظرنا إلى شيء واحد، وهو تحرير الفن من التقليد. ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحى كما يقول الأستاذ سمة من فنون غيره بل إن الفنان عندنا هو القلب النابض الذي يفضى إليه الدم الخاص الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، والفن إن هو إلا نتيجة من نتائج الاجتماع الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، والعقائد التي تسيطر على الشعب وتملأ قلبه بالإيمان بها والفكر فيها. فإنْ لم يكن الفن ناشئًا من ثَمَّ، فاعلم أنه ليس بفن وإنما هو كذا مضرَّج بتحاسين قوس قزح، وما أسقط الفن الرفيع في زمانه وفي بلادنا إلا أنه نتاج العقول المزيفة بالتقليد والخيال المدلل بالسرقة. وهذا الهمج الهامج من الفنانين والأدباء والشعوب والعلماء أيضًا ممن يعيشون بأدواتهم تحت جناح الليل الأسود وفي ستره، ثم يقبلون على الناس إذا أصبحوا فيقولون أين كنتم؟ يقولون: كنا نستوحي، ثم يخدعون الناس بزيفهم وبهرجهم لأنهم لا يعلمون من أين يأتي هؤلاء هذا الوحي. ولو علموا أنما وحيهم وحي اللص الذي يبدع له المال، وإنما دبيب واستخفاء وحرص، و"طفاشة" تهشم بها أقفال خزائن بعض الناس، يستخرجون كنوز غيرهم ليتنبّلوا بزينتها وجمالها.
الحرية هي أصل الفن كما بينا، وكما هو ظاهر كلامنا وأما الاستيحاء من
فنون القدماء لإنتاج فن لا يتصل بمدنيته بسبب إلا القدم والوراثة وتاريخ هذه الأرض، فهو إبطال للفن ومعنى الفن وقيمة الفن، وإلا فما الذي فعله الأستاذ المثال القدير "مختار" إلا أن نقل صورة لا معنى لها في عقائد الشعب المصري الحاضر، هي صورة أبي الهول، وليس فيها معناه القديم الباسط ذراعيه في جوف رمال الصحراء هناك، ثم ماذا؟ ثم فعله بعد أن كان باسطًا متطامنًا، ثم ماذا، ثم ألصق إلى جانبه فتاة تضع يدها على رأسه. . . سبحان الله هذه نهضة مصر، وهذا هو فن القرن العشرين! !
إذا كان الأستاذ سلامة موسى أو غيره يريد أن يناقشنا في هذه الآراء. فليناقش على أساس واحد، هو أساس الفن، وما هو، من هو الفنان. أما (القرن العشرون)، وأنظمة مكافحة الأوبئة، والنظام الاقتصادي، والعلوم، وما إلى ذلك، فليس له مدخل أو سبب في الطبيعة الفنية، وتقدير الآثار الفنية، وهل يمكن أن تكون فنًّا إذا كانت تقليدًا واستيحاء وتشاكلا ذكيًّا بارعًا؟
كل فن يأتي من التقليد واستيحاء فنون الناس، وكل فن يتولد من شهوة التقليد وبلادة العزيمة وعبودية الروح، فهو فن كالمولود السِّقط في آخر تسعة أشهر من حمله. . . فيه صورة الحي ولكن ليست فيه الحياة، فيه قوة المشابهة للحي ولكن ليست فيه قوة استمرار الحي على الحياة.