الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثرة تبديل المناهج وتغييرها عامًا بعد عام لغير ضرورة ملجئة في أكثر هذا التبديل والتغيير. ولابد أن تحزم وزارة المعارف أمرها على خطة واسعة متراحبة ترمي إلى أبعد مدى على أتم حذر، ليتسنى لها أن تمحو كل أخطاء الماضي التي لعبت فيها الأيدي الاستعمارية والسياسية بكل ما من شأنه أن يسلب الشعب قدرته على التحفز والتوثب والتجمع، وما ينشئه على الحرية العقلية والنفسية التي ترفعه إلى الدرجات السامية التي يجب أن يرقى إليها كل شعب يريد أن يتحرر ويسود ويفرض مدنيته على الأرض التي يعيش عليها.
وإذا أرادت وزارة المعارف ذلك الآن، فإن في همة وزيرها الذي لا يَمَلّ ولا يتأخر عن دواعي الوطن، إنفاذًا لهذه الإرادة. فوزير المعارف رجل معروف بالجد والإخلاص والمثابرة وقوة العزيمة، فلو اجتمع له كل أصحاب الرأي ممن يحب أن يساهم في شأن التعليم مساهمة الدرس والكفاح للمستقبل، لأمكنهم أن ينقذوا وزارة المعارف من البلبلة التي لا زالت تتساقط بها من ذلك العهد القديم المعروف بأغراضه في تحطم قوى الشعب تحطما استعباديًّا مستبدًّا. فنرجو أن يضمَّ وزير المعارف إلى رأيه جماعة من أصحاب التدبير السياسي للتعليم غير متقيِّد بشيء من الرسوم القديمة -وهو الرجل الحر- فإن القيود هي التي جعلتنا إلى هذا اليوم نسري في ظلام دامس من الأهواء التي غلبت على شأن التعليم فيما مضى.
تعليم العربية
وبهذه المناسبة أذكرُ أني قرأتُ في الأسبوع الماضي أيضًا كلمة عن أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، وأن الكاتب ردّ هذا إلى أسباب من المعلم والكتب وغير ذلك، وزعمَ أن أكثر كتُبنا لا يصلح لتعليم الناشئة لسانَ أمتهم. وإن يكن في هذا بعضُ الحقِّ فليس هو كلُّ الحق، فإن أسبابَ ضعفِ النشءِ في العربية ليس يُردُّ إلى المعلم والكتاب، بل مَرَدُّه إلى المنهج الذي يُقيِّد المعلم بقيود كثيرة ترفع عنه التبعة في نتيجة التعليم، ويقيد الكتاب بمثلها، ويُعطي النشء ما لا يَصْلُح عليه لسان ولا يستقيم به تعليم لغة.
فلو أنت نظرت لما رأيت شعبًا من شعوب الأرض المتعلمة، يفعَلُ بلغته
ما نفْعل نحنُ من التجاهل للآثار الأدبيةِ وقلّة الاحتفال بتزويد الناشيء بمادّتها التي تحفظها لتكون أبدًا على مدِّ الذاكرة وفي طلب اللسان، ولو أنت سألتَ أي مُتعلِّم من أهل الأمم الأخرى أن يُسمِعك من روائع شعر أُمته ونثرها وحديث بلغائها لاحتفَلَ لك بالكثير الذي تظنُّ مَعَه أنه إنما أعدَّ لك الجواب لعلمِه أنك قد أعددتَ له السؤال. فلو أنتَ جئت بعدَ ذلك إلى أحد المثقَّفِين المكثرين المتنفِّخين من المتعلمين عندَنا وسألته مثل ذلك لنَحا إليك بَصَرَه فأتأرَ (1) النظَر فابتسمَ فضَحكَ فاستهزَأ بك فولاك ظهره فمضى يعجب من غفْلتك وحماقتك وقلّة عقلك.
وإن بعضهم ليقول: ليس لنا ما لهم، أَين للطالب المصري أو العربي ما يغريه بالقراءة كما يغرى شكسبير وملتون وبيرون وشيللي وفلانٌ وفلانٌ من الشعراء والكتاب؟ بَلى أين؟ وإن يكن هذا كله حقًّا فافترضناه كذلك، فليس يكون لنا مثل شكسبير وأصحابه إلا باستيعاب قديم كتابنا وشعرائنا، والحرص على آثار مُحْدَثيهم، فإذا كان ذلك أخرج الشَّعْبُ يومًا أمثالَ هؤلاء لمن يلينا من أهل أمتنا. وإلا فإننا سائرون إلى ضعف أبدًا مادُمنا نرَى أن الطالب لا يطيقُ أن يستوعب من شعر البحترى إلا قصيدة واحدة ومن المتنبى مثلها، ثم يكون ذلك آخر عهده وأوله بدراسة الآثار الأدبية العربية.
إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة قديمها وحديثها هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. انظر إلى المنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ والبارودي والزيات وطه حسين، كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلّا لأنهم نشأوا وقد حفظوا القرآن أطفالًا فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرَّت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يكونوا اليوم إلا كما نرى مِن سائر مَنْ تخرجهم دور التعليم بالآلاف في كل عام ينقضي من أعوام الدراسة.
(1) أتأر النَّظَرَ: أحَدَّه.