الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر والشعراء
أخشى أن يكون أهمَّ أركان الشعر إحساسُ الشاعر بمعانيه إحساسًا كاملًا نافذًا متغلغلًا، لا يدعُ للمنطق العقلي المجرّدِ عملًا في تكوين شعوره. وليس معنى ذلك أن يَتَعرَّى الشعر من المنطق العقلي المجرد، بل معناه أن ينقلب المنطق العقلي -بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته- حاسة دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتصريفه في وجوهه على هُدًى لا يضل معه، فلا يشرُد عن الغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن الصور التي تنشأ لهذا الإحساس. وإذن فأكبَرُ عمل المنطق العقلي في الشاعر أن يُمِدَّ الإحساسَ، بما ليسَ لَهُ من الاستواءِ والاستقامةِ والسدَاد، وكذلك تتداعَى إليه الألفاظُ التي يريدُ التعبير بها مقترنًا بعضها إلى بعض، بحيث لا تخرج هذه الألفاظ في الكلام حائرة قلقة، تجول في عبارتها من انقطاع الرباط الذي يربطها بالمعاني التي أحسها الشاعر، فهاجتْه فغلبته فأراد التعبير عنها تعبيرًا صافيًا مهتزًّا متغلغلًا قويًّا، فيه صفاءُ الإحساس، واهتزازه وتغلغله وقوته.
وأداة المنطق العقلي هي اللغة، والعقل بغير اللغة لا يستطيع أن يستوى ويتسلسل ويتصل، ولا أن تتدفق معانيه في مجراها الطبيعي.
فالمنطق العقلي كما ترى هو خزانة اللغة التي تمول الإحساس، فهو يتقاضاها ما تستطيع أن تمده به من المادة التي تمكنه من الظهور والانتقال. فربما أخذ من اللغة ما هو "موصل ردئ" للإحساس، وربما أخذ منها ما هو "موصِّل جيد" يستطيع أن يسرى فيه إلى قارئه أو سامعه، فإذا عرفت هذا أيقنت أن الشعر يتصل أول ما يتصل بإحساس قارئه وسامعه، فيهزه بقدر ما تحمل ألفاظه من إحساس قائله. فإذا أَخفق أن يكون أثره كذلك، فمرجع هذا إلى أحد أمرين:
إما أن الشاعر لم يُوَفَّق إحساسُه في الاستمداد من لغته ما يطابق الإحساس ويكون "موصِّلًا جيدًا" له، لأن منطقه العقلي لم ينبذ إليه من مادته ما هو حق
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 347)، 1940، ص: 343 - 347
المعاني التي يتطلبها إحساسه، هذه واحدة. أو لأن مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى. ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيرًا من عامة الناس ليسوا شعراء، ومع ذلك فربما كان أحدهم أدق إحساسًا وأعمق وأعنف، ويكون إحساسه أحفلَ بالمعاني وأغنى، وإنما يقطعهُ عن الشِّعر هذه العلَّة، وهي فقر المنطق العقلي من اللغة التي هي مال له. أو انقطاع المنطق العقليّ دون الوصول إلى المنطقة التي ينقلب فيها هذا المنطق -بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته- حاسة دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتسديده للغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن معاني الإحساس، كما قدمناه آنفًا.
وأما الأمر الثاني -الذي يُخْفِقُ بسببه الشعر في التأثير- فمرَدُّهُ إلى القارئ أو السامع. فإذا كان إحساسُ السامع أو القارئ ضعيفًا بليدًا غثًّا، فمهما يَأتِه من شعر حافل قويٍّ عنيف دقيق العبارة عن إحساس شاعره -فهو لديه شيءٌ فاتِرٌ ضعيفٌ لا يهزُّه ولا يبلغُ منه ولا ينفذُ فيه، وهذا الضرب من العامة الذين لا يتأثرون بالشعر لا يُعتد بهم ولا ينظر إليهم، ولكن هناك ضربٌ آخر يكون بليغ الإحساس جيد التلقي، صالحًا للتأثر بما ينتقل إليه من هزة الإحساس فيهتزُّ لها ويطرب، وقد يكون مع ذلك خِلوًا من اللغة التي يعبِّر بها الشعر، إذ ليس له منطقٌ عقليٌّ سامٍ متخير للكلام يختزن اللغة لنفسه إذا فكَّر، ولفهمه إذا حُدِّث أو أُنشد؛ فهو ربما سمع الشعر الجيد فلم يبلغ منه المبلغ الذي أريد له هذا الشعر، وكثر هؤلاء في عصرنا هذا حتى سقط الشِّعر ولم يحفلْ به إلا قليلٌ؛ وهم لم يكونوا كذلك إلا لفساد التعليم وقلة احتفاله باللغة وبيانها وأسلوب مجازها، ولأن الجهلاء والسخفاء هم سوادُ الناس، وفساد الطبائع فيهم راجعٌ إلى هذين: فمخالطة الجهالة تورث الجهالة والخبال، وترك التعلُّم وسوء التعليم ذريعةٌ مفضيةٌ إلى الجهل والبلادة، فكيف -مع هذين- يخلص أحدهم من فقر العقل وبلادة التأثر بالشعر البليغ الحافل بالإحساس المشبوب العنيف؟
فأنت ترى: أن اللغة المتخيرة المرصدة للتعبير عن الإحساس تعبيرًا مسددًا