الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحن العرب
. . .
إني لأسألُ نفسي، كما يسألُ كل عربي نفسه:"إلى أين يسار بنا تحت لواء هذه الحضارة البربرية الحديثة؟ " وجواب هذا السؤال يقتضي العربي منا أن يلمح لمحًا في طوايا النفوس وخبايا السياسات، ويقدمَ الحذر بين يديه، ليكون على بينة من رأيه ومن مصيره أيضًا. ولعل القارئ قد فوجئ لإقحام هذا الوصف للحضارة الحديثة بأنها حضارة بربرية، ولكن لا يعجل بالعجب مما لا عجب فيه فإنه حق بيّن لا تخطئه العين البصيرة.
نعم! إنها حضارة لم يوجد لها مثيل بعدُ في التاريخ كله منذ كان آدم إلى يومنا هذا. حضارة قد نفذت إلى أسرار المادة فكشفت عنها كشفا يسَّر للبشرية أن تقبضَ على زمام الحياة وتصرِّفها في حيث شاءت وإلى حيث تريد، وجعلت الإنسان يشعر شعورًا لا خفاءَ فيه بأنه قادر على أن ينشيء التاريخ إنشاءً، ويبني الوجود بناء جديدًا، ويملأ ظلام الليل وضياء النهار حياة وقوة وجلالا، وينفث في الأشباح روحًا ويكسوها لحمًا ويعطيها من مقدرته ما يجعلها كائنًا متصرفًا بشيء أشبه بالعقل والإرادة. ونعم! إنها حضارة قد قامت أركانها على علم جم يعجز المتأمل عن إدراكه وبلوغ آفاقه، علم تدسس إلى ضمير الأرض والسموات فاسترق السمع إلى نجواه وإلى خواطره فقبس منها قبسًا مضيئًا أنار ظلمات هذا الوجود الَّذي لا يعلم ما انطوى عليه إلا الله الَّذي يعلم الخبءَ في السموات والأرض. ونعم! إنها حضارة أزرت بالحضارات كلها وجعلتنا نشعر بالقوة التي طواها الله في هذا "العالم الأصغر" حتَّى مكن له أن يكون سيد "العالم الأكبر" غير منازع.
نعم: إنها حضارة مجيدة عاتية، أحيت الإنسانية ورفعت شأنها، ولكنها على ذلك كله حضارة بربرية طاغية قد امتلأت فسادًا وجورًا وحماقة وفجورًا،
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 720)، إبريل 1947، ص: 439 - 441
حضارة بربرية رفعت الإنسانية من ناحية العقل، ولكنها قتلت ضميرها ومزقت شرفها، وجعلتها تشعر بقوة غير شريفة ولا صالحة ولا أمينة في أداء حق الإنسانية عليها.
والعربي منا إذا نظر اليوم فينبغي أن ينظر أولا إلى هذه "البربرية" من الناحية التي لها مساس به وبحياته وبتاريخه على هذه الأرض، ليعلم إلى أين تريد هذه الحضارة أن تسوقه؟ وأي بلاء تريد أن تبتليه به؟
إن تلك الدول التي صارت دولا في تاريخ هذه الحضارة البربرية وبمعونتها تريدنا على أشياء وتريد بنا أشياء لابد لكل عربي أن يراها بعين لا تغفل. هذه الدول التي ادعت ولا تزال تدعي أنها خاضت غمار الحرب المبيدة الثانية دفاعًا عن حرية البشر في الحياة، وعن رفع مستوى المعيشة في هذه الأرض، ترتكب كل يوم من ضروب الخيانات والغدر والنذالة ما لم يشهد التاريخ مثله، كما لم يشهد مثل حضارتها هذه البربرية.
هذه أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا جميعًا ولا نستثني تزعم كل يوم أنها تغضب للحق، حق الناس في الحرية، وتثور استنكارًا للمظالم التي تفرض على الشعوب العاجزة عن دفع الظلم، وأنها تحوط الإنسانية من أن يدنسها باغ أو طاغ بجبروته وبطشه، وهي جميعًا لا تزال تملأ جنبات الأرض عجيجًا وضجيجًا إذا رأت ضيما أصاب شعبًا من الشعوب، وتتنبل كل منها بالدفاع عنه وبالذياد عن حقه المهتضم، ونرى أمريكا خاصة ومن دونها جميعًا تذيع بين الناس وتشيع أنها حامية الحضارة، وأنها حامية الناس من البغي، وأنها لم تخض غمار الحرب إلا لهذا وحده: أن تحمى الحضارة من الدمار، وأن تحمى الناس على اختلافهم من البغي. وكذلك تفعل بريطانيا أيضًا، وهكذا تزعم روسيا، وهكذا تتبجح فرنسا.
ولكن -هذه فلسطين فلذة أكباد العرب قد شهدت أنذال الأمم يطأون ديارها منذ سكنت الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها سيلا منذ ذلك اليوم يريدون أن يجلوا العرب عن بلادها ليحتلوها وينشئوا في ربوعها دولة يهودية، فإذا بنا نرى أمريكا تعينها بالمال واللسان والقلب، ونرى بريطانيا تغريهم
بما يريدون وتصبرُ على إذلالهم لها صبرًا لم يعرفه قط تاريخ بريطانيا التي كانت تسمى رجال العرب المجاهدين "رجال العصابات"، ونرى روسيا وفرنسا تلوذان بالصمت المطبق لا تقول ولا تنبس ولا تتحرك دفاعًا عن الحضارة، ولا دفاعًا عن الهضيمة التي تراد بالإنسانية، كما تحركت من قبل.
وهذه تونس والجزائر ومراكش تجرى فيها المذابح الوحشية التي لم يعرف التاريخ مثلها. فتسيل دماء أربعين ألف عربي ما بين عشية وضحاها، بين سمع سفراء الدول وبصرها، فلا نرى أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا تثور أو تغضب أو تقول، وتمضي فرنسا الباغية تنفذ سياستها في تدمير شعوب برمتها. تدمر حضارتها وماضيها وقواها وتستل الأرواح من أبدانها بالسلاح غدرًا وغيلة، وتمتهن الرجال وتسب الأديان وتفتك بالأحرار، ويرى ذلك ويسمعه سفراء أمريكا وبريطانيا وروسيا المدافعات عن الحرية وعن الحضارة وعن الإنسانية.
نعم، وهذه فرنسا أيضًا تقيم الولائم للسباع والوحوش في جزيرة مدغشقر، فتفتك بأهل الجزورة فتكا لا رحمة فيه ولا هوادة والعالم كله يسمع، والإشاعات تتناقل خبر المجازر وتسميها "إخماد ثورة" وتقف بريطانيا صامتة عليها الوقار، وتدير أمريكا ظهرها قد شغلتها هيئة الأمم المتحدة التي تنظمها للدفاع عن حريات البشر ورد البغي عنهم! وتنكب روسيا على إصلاح معايش خلق الله ورفع الضَّيْم عنهم بالمساواة بينهم في حقوق الحياة!
وهذه بريطانيا ترتكب شر الأفاعيل في السودان وفي إفريقية، وتقول لأمريكا وفرنسا وروسيا إني أريد أن أكفل لهؤلاء الناس استقلالهم، أريد أن أرد عنهم اعتداءَ بني جلدتهم الطامعين في استعمارهم، وأريد أن أترفق بهم حتَّى أرفعهم من حضيض الجهالات لكي يصبحوا شيئًا في تاريخ هذه الإنسانية، فهي تقتل منهم كما تقتل السائمة، وتدعهم عراة بل تجبرهم على أن يظلوا عراة ليخرجوا لها من ثمرات الأرض ما يرفع مستوى معيشتهم. وتعرف ذلك أمريكا وفرنسا وروسيا فيقولون لها أن نعم، ولك الشكر، ونعم ما تفعلين!
وهذه أمريكا تنطلق من معزلها مرة واحدة لتقول للعالم إني أحمي الضعفاء وأجبر كسر المحتاجين، وأعين على نوائب الحق، وأدفع الظلم عن الناس، وأرفع الضيم عن المضيم، وترى كل هذا ويراه سفراؤها ورجال جامعاتها في الشرق، فلا تكون نصرتها لنا إلا بأن تذهب إلى جزيرة العرب وإلى إيران وإلى بلاد كثيرة من بلادنا لتأخذ البترول، وتقول لنا سأعطيكم من المال مبلغًا ضخمًا ترفعون به مستوى معيشتكم، فلا تحملوا المصالح الأجنبية في بلادكم على محمل سيء أيها الرجال العقلاء. أما مسألة مصر والسودان، وأما مسألة مراكش وتونس والجزائر وهذه المذابح والمجازر، وأما مسألة فلسطين وما فيها من الجور والبغي والعدوان والنذالة، وأما مسألة العراق وسائر البلاد العربية، فذلك كله أمور تتم على وجه آخر إذا جاء حينها، وأنا لا أستطيع أن أتدخل في شئون الدول، بل الأمر كله متروك لهيئة الأمم المتحدة إن شاء الله، فاطمئنوا.
هكذا يرى العربي فعل هذه الدول القائمة على الحضارة والمدافعة عن تاريخ الإنسانية وعن شرفها وعن حريتها: فإذا رأتنا نقول لها الحق، غضبت وزعمت أننا قوم نتعصب على الأجانب بجهلنا وغباوتنا وحماقاتنا الموروثة، وصدقوا، فنحن جهلاء أغبياء، لأننا صدقنا يوما أن روسيا هبت لتدفع الظلم عن الطبقات المهضومة الحقوق، وأن بريطانيا ثارت لتدفع الشر عن الإنسانية المهددة بالجبروت والطغيان، وصدقنا فرنسا أنها هي الداعية إلى العدل والمساواة والإخاء، وصدقنا أمريكا أنها البريئة المدافعة عن حقوق البشر وتساويهم في هذه الحياة لا فرق بين صغير الأمم وكبيرها، أو ضعيفها وقويها، إننا جهلاء وأغبياء، لأننا أبحنا بلادنا للأجانب ليرفعوا لنا مستوى العلم والثقافة، ومستوى العيش والحياة، فأكرمناهم وآويناهم وخدعنا بهم، وحرصنا على أن نجعلهم لا يشعرون بأننا نريد أن نكون حربًا عليهم، فأنشأوا ما أنشأوا من مدارس ومتاجر وأوغلوا في بيوتنا وأراضينا فسرقوا منا قلوب أبنائنا وأموال أغنيائنا وفقرائنا، واستبدوا بالأمر دوننا، وتركونا لا نستطيع أن ننفذ في بلادنا ما تنفذه كل دولة من القوانين والأحكام. فإذا أردنا نحن أن نفعل شيئًا قليلا مما تفعله الدول لحماية أرضها وأموالها، ثاروا علينا من الشرق والغرب ومن يمين وشمال يرموننا بالتعصب،
ويمنون علينا أنهم هم الذين رفعوا مستوى معيشتنا، وهم الذين علمونا كيف نلبس وكيف نأكل وكيف نشرب.
فهل يحل منذ اليوم لعربي أن يصدق أكاذيب هذه الأمم الباغية في دعواها ومزاعمها؟ هل يحل لعربي أن يثق بأن أهل هذه الحضارة التي اشتملت على روائع الفن والعلم والفلسفة، قد صاروا حقًّا أهل حضارة تستحق أن تسمى حضارة لأنها قربت المسافات بالطائرة التي تخطف في جو السماء خطفًا، ومست موات الأرض فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وألقت السحر في بنان الإنسان فإذا هو طبيب يدفع عوادي الموت عن رجل في النزع ليس بينه وبين الموت حجاب؟ هل يحل لعربي أن يصدق شيئًا من هذا كله وهم يكذبون على خلق الله العرب ويغررون بهم ويخدعونهم ويقتلونهم ويذبحونهم بلا رحمة ولا شفقة ولا ضمير يفزع من كل هذه الجرائم البشعة في تاريخ الإنسانية!
تعس العلم وتعس الفن وتعست الفلسفة، وتعست هذه الحضارة البربرية، إذا كان هذا خلقها وهذا ضميرها! وما نفع العلم والفن والفلسفة إذا هي خلطت لنا نحن العرب بالكذب والوحشية حتَّى في الأعمال التي يصفونها بأنها علمية خالصة (1). إننا على ضعفنا وجهلنا وفقرنا أكرم نفوسًا، وأعلى أخلاقًا، وأنبل قلوبًا من أهل هذه الحضارة البربرية التي لا يثور أهلها إلا لحاجة في نفوسهم، والذين لا يفزعون مما ترتكب أيديهم من الوحشية في بلادهم وفي بلاد غيرهم من البشر.
ليعلم أهل هذه الحضارة في أوربة وأمريكا، وينبغي أن نعلمهم نحن في بلادهم وبين ظهرانينا أننا لن نهاب بعد اليوم أن نكاشفهم بعداوة عربية، لا كعداوتهم هم. تلك العداوة الممزوجة بالرقة والخداع والكذب والتغرير، إنها عداوة طالب الحق الَّذي ينتصف لعدوه من نفسه، وينتصف لنفسه من عدوه، والذي لا يغمط حقًّا ولا ينكر معروفًا، ولكنه لا ينسى أن عدوَّه هو عدوه!
(1) يحسن بالقارئ أن يقرأ مقالة في مجلة الكاتب المصري شهر إبريل سنة 1947 بعنوان "بين السياسة والعلم" للدكتور سليمان حزين، فهي تكشف عن استخدام العلم أحيانًا في أحط الأساليب السياسية (شاكر).
ولقد سمع أحد رجالنا، هو ابن شبرمة، يومًا عروة بن المغيرة وهو ينشد هذه الأبيات:
لا أتقى حسَك الضغائن بالرُّقى
…
فعْل الذليل، ولو بقيت وحيدا (1)
لكن أعد لها ضغائن مثلها
…
حتَّى أداوى بالحقود حقودا
كالخمر خير دوائها منها بها
…
تشفي السقيم وتبرئ المنجودا (2)
فقال: لله در عروة! هذه أنفس العرب.
فهذه نفوسنا، لن تهادن من يعادينا عداوة طويت على الضغائن الصغيرة المحتقرة، فإذا أنابوا وانتصفوا لنا من أنفسهم، وعرفوا قبح ما أَتَوْا وشناعة ما ارتكبوا، فيومئذ نصافحهم مصافحة العربي الَّذي لا يضمر الغدر ولا الغيلة ولا الفتك، ولا يعرف الكذب ولا المخاتلة.
(1) الحسك: نَبْتَة تضرب إلى الصُّفْرة ولها شوك يُسَمَّى الحَسَك أيضًا، لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس إلا مَنْ في رجليه خُفّ أو نَعْل، هذا هو أصل استعماله، ثم استعمل في الضغن والعداوة والبغضاء.
(2)
المَنْجُود: الَّذي أخذه الكَرْب حتَّى أشرف على الهلاك.