الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرأي العام
كتب الأستاذ "الزيات" في العددين الماضيين من الرسالة كلمتين جليلتين، إحداهما عن "التبشير" والأخرى عن "فقهاء بيزنطة": أي فقهاؤنا وعلماؤنا. وهما تنزعان جميعًا إلى بيان أصل واحد، وهذا الأصلُ هو غفلتُنا وإهمالنا، ثم غثاثة آرائنا وضآلتُها، وهذه مردّها إلى عِلل كثيرة قد توغَّل داؤها في أعصاب الأمم الإسلامية، حتى صار الدواء لها باطلًا أو كالباطل، وذلك لغلبة الجهل علينا، وفي الجهل العناد، وفي العناد المكابرة، وفي المكابرة اللجاجة، واللجاجة أمٌّ ولودٌ كل أبنائها أباطيل، ومَنْ طَلَب علاج الأباطيلِ وترك أمهاتِها تَلِد، فقد جعل علاجَه باطل الأباطيل.
وهذه الأمة المصرية وسائر الأمم الإسلامية قد خضعت من قرون طويلة لسيطرة الجهل وبغيه، وامتدت عليها حقبٌ طويلة أظلّتها بالغفلة والنسيان والموت، وحجبت دونها شمس المعرفة ونور العلم، حتى انحنت على أساطير التراب تجدُ فيها كل معاني الفكر والعقل والقوة، وصار همُّها الأرضَ وما تنتج مما يكفي شهوات النفوس المشتغلة باللذة، أو يردُّ مسغبة النفوس المحطَّمة بالعمل. ثم جاءت الذئابُ الذكية العاقلة المدبّرة، فعرفت صيدها وقالت له: اعمل عَملك، فهذا طريقُك، ولكنها خشيتْ أن تتمزَّق الظُّلَلُ وتسقطَ الحُجُب، وتهبَّ تلك القوة العلوية الرابضة في دمِ الإنسان، فترى أشواقَها فتندفع إليها اندفاعَ الوحش المجوَّع في مَهوى الريح التي تحملُ أنفاسَ فريسته، وعندئذ تعجزُ الحيلة في دفع هذه القوة وردّها إلى ما كانت عليه تحت أطباق الخمول والخمود والغفلة. وعمِلَ ذكاءُ الذئاب عمله، ورأى أن قمع القوة العلوية بالاستبداد والفجور في الاستبداد هو الشر عين الشر، وأنه كقمع البخار في قماقم الحديد ومن تحتها جاحم من النار يتضرم، فما يعقب إلا الانفجار والتصديع والأذى.
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 353)، 1940، ص: 620 - 622
فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفًا يكفل لهم معها أمرين:
الأمر الأول: التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوأ أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشأوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهده كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقررون أصولًا تؤدى بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهد جيلًا يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل، ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع.
والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم -بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك- في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام -أي أهله- عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية، وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيدًا يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت مستقر ماض على أسبابه إلى النهاية غير مختلف ولا متنافر.
وقد كان من نتائج هذين الأمرين العظيمين -حين استيقظنا وأبصرنا- أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المفضية إلى الغايات، وعاون ذلك ما ورثناه من الجهل الداعي إلى العناد والمكابرة واللجاجة، فاستشرَى داء العصبية وأصبح العمل عندنا لا يكون عملًا حتى يحاول أن ينقُض كل ما سبقه من العمل، وتعاقبت على الأمة أطوارا بعد أطوار ولا تزال في عهد الإنشاء، ولا تزال اللجان تجتمع عامًا بعد عام لتقرر وتضع، وليس إلا التقرير والوضع وَحَضَانة المذكرات! !
وكذلك اختل نظام الرأي العام. وهو لا يكون إلا من اشتراك الجماعة في الأصول الثقافية كلها، واختَل أيضًا مكوِّن الرأي العام، وهو الصحافة وما ينزل في