الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة تقال
. . .! !
أخي الأستاذ علي الطنطاوي
سلام عليك. يقال في المثل: "كُرْهًا تَرْكَبُ الإبلُ السَّفَرَ" وقد استطعت أنت أن تُكْرِه القلم إلى ما أردت أن أنزهه عنه. فلولا ما أضمرتُ من قديم المودة لك، ولولا ما عرفت من صدقك، ولولا أننى أجلك عن أن تكون عجولا إلى غير صواب، ولولا أنى أكره أن تأخذ عني شيئًا لم أقله بلسانى، لولا ذلك كله، لكان أبغض شيء إلى أن أستكره نفسي على غير ما رأيتُ أنه أجمل لي وأصون. وإنك لتعلم، أيها الصديق القديم، أنى أكره أن أزداد من الشر، أو أن أتزود من لجاجة الباطل. والكتابة في زماننا هذا شر مستحكم، وباطل لجوج متوقح. وقد اقتحم وَعْرَها من لا يحسن المشى في سهولها، وتشهَّاها من لو أنصف نفسه لحال بينها وبين ما تشتهي، واتخذها صناعة من لو عقل لأعفى نفسه من مزاولتها. ولكن هكذا كان، ورحم الله الطائى إذ يقول لمحمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر، إن الجهالة أُمُّها
…
وَلودٌ، وأمُّ العلم جَدَّاء حائلُ (1)
أرى الحَشْوَ (2) والدهماء أضحوا كأنهم
…
شعوب تلاقت دوننا وقبائلُ
غَدَوْا، وكأن الجهل يجمعهم به
…
أبٌ، وذوو الآداب فيهم نَواقِلُ (3)
وأنت تعلم أن من أنصب النَّصَب، أن تتصدى لإفهام من لا يفهم عنك،
(*) الرسالة، السنة العشرون (العدد 979)، إبريل 1952، ص: 383 - 384
(1)
الجداء: التي جف لبنها، لكبر سنها. والحائل: التي لا تحمل.
(2)
الحشو: مَن لا خير فيه، ولا عنده عقل يميّز به شيئا عن شيء.
(3)
نواقل: جمع ناقلة، وهي شِبْه الزيادة يلحق بالصميم ولا يحتاج إليه.
فإذا بلغ الأمر أن تراه ينتصب لجدالك، فاذكر قول من قال: إذا أردت أن تفحم عالما فأحْضِرْه جاهلا. وقد لقيت أنا من شر ذلك ما لقيت، فآثرت أن أسلك سبيلى لا يشغلنى عنه متعلق بأذيالى، إرادة أن يصرفني عن الوجه الذي أردت.
ولقد قرأت كلمتك في الرسالة، فأسفت أشد الأسف، لأني عرفت منها أنك لم تقرأ ما كتبتُه في مجلة "المسلمون" وفي أربعة أعداد منها. ولو كنتَ قرأتها لما كتبت ما كتبت، لأني لا أشك في ذكائك وحسن فهمك، فأنا لم أتعرض في شيء منها لبنى أمية أو بنى العباس، ولا لحكمهم، ولا لسياستهم؛ فعجبت أشد العجب كيف يمكن أن تكون معى أو على في أمر لم أقل فيه كلمة، ولا يعلم أحد ممن كتب رأيي فيه، ولا كيف أقول إذا أنا تعرضت للبيان عنه؟ فمن أجل ذلك عجبت، لأنك لم تنصف على عادتك من الإنصاف.
وأنا محدثك باختصار عن هذا الذي كتبته. أصل ذلك كله أنى رأيت من كتب من المُحْدَثين في شأن تاريخ الماضين من أسلافنا، يكتب أو يتحدث بأسلوب أقل ما يقال فيه أنه مشوب بالحماقة الشديدة، مختلط بالجهالة المتراكبة، في معرفة أصول التاريخ، مغموس في حمأة من الافتراء والتطاول، مستنقع في أهواء سيئة رديئة. وزعمت أن للناس أدبا وأسلوبا في كتابة التاريخ، وأن للمسلمين خاصة أدبًا وأسلوبًا في التاريخ ينبع من أصل دينهم، في العدل، وفي حسن النظر، وفي الأناة في طلب الحق، وفي كف اللسان عن التهجم بالقول السئ على عباد الله بلا بينة، وفي التناهي عن اقتفاء المرء ما ليس له به علم، وفي التثبت من الأخبار قبل تصديقها. وهو أدب كما تعلم كان قديما في كتبنا، ولكن حضارة هذا القرن قد نشرت وباء شديد الفتك، ذهب بأكثر هذا الأدب، وأخذت في طريقى أضرب المثل على هذا بكاتب رأيته لم يتورع عن سلب الناس دينهم، ولم يخش الله في نفي الإسلام عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تصوير أعمالهم بصورة أعمال المنافقين، وفي أخذ الروايات الباطلة وجعلها دليلا على الغميزة في إيمانهم، وفي رد الروايات الثابتة الصادقة بروايات كاذبة ادعاها مدع من الرافضة، إلى غير ذلك مما سأبينه فيما أكتب في مجلة
"المسلمون" وزعمت أن هذا ليس ديدن هذا الكاتب وحده، بل صار ديدنا لأكثر من يكتب الآن في شيء من تاريخ هذه الأمة المسلمة، حتى صار الطعن في صحابة رسول الله أمرًا مرتكبا بلا حذر.
وما دمت لم أزد في كلامي على هذا، فلست أدري بعدُ ما الذي يحملك على أن تخذلني أو تنصرني في أمر لم أنطق بعد فيه بكلمة! نعم! قد يكون رأيي فيما أبديت أنت فيه رأيك، مخالفا لك، ولكني لم أتكلم بعد فتعرف حجتى فيه. بل لعلى إذا كنت لك مخالفا، ثم عرضت عليك خلافي لك، أن تكون أسرع إلى موافقتى شك إلى الخلاف عليّ، حين ترى فيما أقول صوابا يرضيك. أليس هذا جائزا، وممكنا أيضًا؟ فإذا رأيتنى بلغت في سياق مقالاتى في "المسلمون" إلى ذكر دول الإسلام، فعندئذ فقل، فأنا أقبل منك ما تقول. واعلم أنى لا آنف أن أصير إلى الحق إذا عرفته. ولقد عشت على هذه الأرض زمانا طويلا، واعتقدت منذ عقلت آراء كثيرة، ثم تبين لي أن الحق في خلافها، فرجعت عنها جملة، ولم أبال بما كنت أرى. ولعلك أنت خاصة تعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرك.
وأنا أحب أن ترجع إلى ما كتبته في مجلة "المسلمون" ولا تأخذ كلام أهل اللجاجة، فإنهم أوهموك، فيما أظن، أنى قلت شيئا، والحقيقة أنى لم أقل بعد فيما تناولته أنت شيئا، وأنا أعيذك أن تتورط، في هذا الشر الذي نجاهد جميعا في دفع الناس عنه، وهو أخذ الأقوال بلا بينة، وبلا حجة، وبلا برهان. ولك مني تحية كنت أحب أن تبلغك، على غير هذه الراحلة المكرهة على ارتكاب طريق دنسته الأقدام، والسلام.