الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأزهر
الأزهر -كما يجب أن نعرفه- إن هو إلا تاريخ مصريٌّ عربي إسلامي كاملٌ متتابعٌ قد امتدَّ على مَدْرَجةِ التاريخ ألف سنة يجدِّد فيه ويتجدَّد به، ويعيشُ عيشه هذا في التاريخ كالمدد المتلاحِق الذي يستفيضُ بمادَّته لينشيء القوةَ في رُوح الجيش المرابط وأعصابه وأفكاره وأعماله المجيدة. وهذا التاريخ العجيب الذي لا يزال حيًّا في هذه الأرض، هو كالتاريخ الإسلامي والعربي كله مجهولٌ متروك لم تَنفُضْ عنه الحياةُ العربية الجديدةُ غُبار السنين المتقادمة والأجيال المتطاولة التي تعاقبت عليه بالنسيان والإهمال والهجر. وإذا نظرنا إلى الأزهر على مقتضى هذه النظرة وبسبب من هذا الرأي -علمنا أنه كهذا التاريخ الإسلاميّ قد تعاورته القوَّة والضعف، وحزَّت فيه سِيما العلم ومِيسم الجهل، وتغلغل فيه النبوغ الفذُّ السامي والنبوغ الشاذُّ النازلُ: النُّبُوغُ السامي الذي ارتفع بروحانية الشعوب الإسلامية وأخرجها من سُلطان الشهواتِ والجهالات، فمدَّتْ بذلك سلطانها على جزء عظيم من العالم، والنُّبُوغُ النازل الذي هَوَى بروحانيةِ هذه الشعوب إلى الجَدَل والفُرقة والمذاهب والآراء الخاضعة لسلطان الشهوات العقلية المريضة، فقلَّصتْ ظِلَّ هذا السلطان عن هذا الجزء العظيم من العالم.
والأزهرُ -كان- مجْتَمَع القُوى المختلفة التي عملتْ في إنشاءِ الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة التي عاشَتْ في التاريخ الماضي وملأته بالألوان المختلفة من مميزات هذه الشعوب الإسلامية المتباينة، والمتباعدة في مطارح الأرض ما بين الصين إلى المغرب الأقْصى، واستمرَّ على ذلك مئات من السنين تتلوها مئات، وكذلك مهدت هذه السنين للشعب العربي المصري في هذا العصر -عصر النهضة الجديدة في الشرق- أن يكونَ هو قِبْلَة الأمم العربية والإسلامية. وذلك لأن روح الشعب المصري، وثقافته الموروثة في تفكيره وأخلاقه وطباعه، وحضارته القديمة التي تبرَّجتْ على ضفاف النيل -هذه كلُّها ليست إلا خلاصة
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 356)، 1940، ص: 741 - 744
هائلةً مصفّاة من أرواح الشعوب الإسلاميَّة كلها وثقافاتها وحضاراتها. وكان الأزهر هو المصدر الذي استمدَّتْ منه مصر هذا الفيض العظيم الجاري في أودية التاريخ المتقدِّم، لأنه هو كان الجامعة الوحيدة في هذه الديار، وكان أكبر جامعة وأعظمها في سائر الديار العربية الإسلامية. وبهذه الخلاصة التي اجتمعت في الأزهر، ثم انتشرت منه في أرجاءِ مصر قديمًا وحديثًا استعد الشعب المصري بطبيعته لأمر مقدور، هو أن يكون زعيما للشرق في عصر النهضة الجديدة، لأن كل شعب من الشعوب العربية والإسلامية يرى في هذا الشَّعْبِ صورة من نفسه مكملة بألوان أخرى من صور سائر الشعوب التي تمتُّ إليه بسبب من الدين واللغة والحضارة والثقافة والفكر والدم.
ونحن نأسف إذ نرى الناس إنما ينظرون إلى الأزهر نظرةً محدودةً ضيقة لا تتراحب ولا تنفذ إلى حقيقة هذا التاريخ القائم في أرض مصر. فهم يعدُّونه معهدًا دينيًّا، ويكون تفسير كلمة الدين هنا على غير الأصل الذي يعرف به معنى الدين في حقيقة الفكرة الإسلامية التي ختم الله بها النبوَّات والأديان على هذه الأرض. وهذا المعنى الجديد المعروف في زماننا لهذه الكلمة كلمة "الدين" ليس إسلاميًّا، لأنه لا يلائم روح الإسلام في شيء. . . كلا، بل هو يهدمُ أعظم حقيقة حية أتى بها هذا الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعل الذين آمنوا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ويجعلهم الوارثين. وهذه الحقيقة الحية الجميلة هي جعل كل عمل من أعمال الإنسان المسلم في الحياة عبادة تقربه إلى الله. . . فليس البيْع والشراءُ، أو تدبير أمور الناس في الملك، أو العلم والتعليم، أو تربية الولد، أو الخدمة التي يؤديها الرجل لمن يخدمه ليست كل هذه الأشياء الاجتماعية في منزلتها من الدين الإسلامي. . . إلا كالصلاة والصيام والزكاة وسائر الأعمال التي يفهم بعض الناس الآن أنها هي الدين حسبُ. فالأزهر الإسلامي هو الذي تتمثَّل فيه حقيقة الإسلام -أو يجب أن تتمثل فيه هذه الحقيقة-، وتاريخه الماضي كان صورة صحيحة للحياة الاجتماعية الإسلامية بكل ألوانها وأنواعها، مع ما كان قد عرض فيها من العيوب التي أدركت الشعوب