الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غُبَّرات لا غُبارات
قال شيخُنا أبو عثمان الجاحظ في "كتاب الحيوان" يذكر ما يعرض للكِتابِ المنسوخ من آفات الناسخين:
". . . . ثم يصيرُ هذا الكتاب بعد ذلك لإنسان آخر، فيسير فيه الورّاقُ الثاني سيرةَ الورَّاق الأوّل، ولا تزال تتداوله الأيدى الجانية، والأعراض المفسدة، حتى يصير غَلَطًا صرفًا وكذِبًا مُصْمتًا. فما ظنكم بكتاب يتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله. . .، كتاب متقادِم الميلاد، دهري الصنعة".
ولم يزل أئمتُنا وعلماؤنا وأصحاب العقل من شيوخنا، يردُّون الكلام المنقول المكتوب إلى العقل -بعد التحري للفظه المكتوب- اتِّقاءً لما عرفوه من تحريف الناسخين، وانتحال المبطلين وغفلة الجاهلين. ونحن إنما نمضي على سنتهم -إن شاء الله- ولا نقف عند القول نخرُّ عليه تعبُّدًا لحرفه، وخضوعًا لنصِّه. ولئن فعلنا لمحق الله منا نصف العقل وبقى النصف الآخر متردِّدًا بين قال فلان وكتب فلان.
. . . وعلى ذلك، فقد صححنا قول ابن شبرمة في رواية صاحب العقد الفريد في العدد (347) من الرسالة، فجعلناه "ذَهَبَ العلم إلا غُبَّرات في أَوْعية سوء"، ورفضنا نص العقد وهو:"إلَّا غبارات". ثم رأيت في البريد الأدبى من الرسالة (349) كلمة الدكتور بشر فارس يردّ ما ذهبنا إليه بثلاثة براهين نثبتها بالترتيب من تحت إلى فوق:
الأول: أن الحرف (غبارات) قد وَرَدَ كذلك في جميع نسخ العقد الفريد المطبوعة، وكذلك في مخطوطة منه بدار الكتب يُظَنُّ أنها كتبت في القرن السادس.
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 350)، 1940، ص: 513 - 514
الثاني: أن هذا النص يصح لغة وأداءً وبيانًا. وإذا صحّ كذلك فمن الاستبداد أن يُرَدّ على الهوَى.
الثالث: مخالفة نهجنا في ذلك لنهج علماء الفرنجة (المستشرقين). وجوابنا على الترتيب من تحت إلى فوق:
إننا أَدْرَى بأساليب هؤلاء الأعاجم -الذين اتخذوا العربية عملًا من أعمالهم- من أن نخالفهم في الجيّد من مذاهبهم، فتحرير النص ومراجعته على جميع النسخ التي ذكر فيها وما إلى ذلك، عملٌ ضرورىٌّ لكل باحث. ولكن هؤلاء الأعاجم تقعد بهم سلائقهم عن معرفة أسرار العربية، فلم يتجاوزوا الوقوف عند النص المكتوب، وذلك لعجزهم عن بيانها. فلما عرفوا ذلك من أنفسهم، كان من أمانتهم أن يتوقفوا، فلا يقطعون برأي في صواب أو خطأ. وهي أمانة مشكورة لهم.
ولكن العربيّ إذا أخذ بأسبابهم، فلابُدَّ له من أن يهتدى بعربيته إلى ما عجزوا عنه بأعجميتهم، فكذلك فعلنا في كلمة ابن شبرمة وقلنا "إنه نصٌّ عربيٌّ مُظلم النور". وبيان ذلك أنه ليس من قياس العربية أن يجمع "غبار" على "غبارات" ولا غيرها من الجموع، وأن ابن شبرمة لم يُردْ تحقيرَ العلم نفسه فيجعل ما بقي منه "غبارًا"، وإنما أراد أنه بقي من العلم شيء هو من صحيح العلم، ولكنه وقع في صدور رجال من أهل الباطل يفتونَ الناسَ، يضِلّ بهم من يضِلُّ إذ يحسبونهم لا ينطقون بباطل ما داموا أصحاب فقه ودين وعلم. ولم تكن الشهادات وألقابها عُرِفتْ لعهد ابن شبرمة حتى تكون هي التي تقدر العلماء وتميزهم للناس، وإنما كانوا يتميزون بالعلم، فإذا لم يكن عندهم علم لم يعدهم الناسُ في العلماء. ثم إن الغبارَ لا يمكن أن يُوكى (1) عليه في وعاء حتى يصح أن يجعل -ما أغلقت عليه صدورهم من بقية العلم- غبارًا. فلو صح نص العقد لكان المراد تحقير العلم وأصحابه جميعًا.
(1) يُوكَى: يُرْبَط.
وأخيرًا، فنحن نرفض نص العقد من جهة بيان العربية وتحريرها، ونقول: إنه لا يصح أن يروى إلا هكذا: "ذهب العلم إلا غُبَّرات في أوعية سوء". وإذا كان الدكتور بشر أو غيره يريد أن ينحاز إلى رأينا بنص آخر. فلا بأس علينا أن ندله عليه فقد روى ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" -المطبوع في سنة 1346 عن نسختين قديمتين: إحداهما للإمام الشيخ الشنقيطي وعليها خطه في الجزء الأول منه (ص 153 سطر 6) بإسناده إلى محمد بن سيرين (وليس ابن شبرمة) قال: "ذهب العلم فلم يبق إلا غبرات في أوعية سوء". فهذا نص، وهناك نصوص غيره؛ فمن شاء أن يبحث فليبحث، ونصيحتنا إلى من عنده نسخة من العقد -أي الطبعات كانت- فليصححها بالذي أثبتناه، وما سوى ذلك، فهو -كما قال- أبو عثمان: غلط صرف وكذب مصمت. . . والسلام.