الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نافقَاء اليَربُوع
لي صديق، أطال الله بقاءه، يعيش في الدنيا وهو خارج منها. هذا غاية نَعْته وصِفته:"يعيش في الدنيا" وهو حريص عليها، لا حرصَ البخيل الذي يجمع المال، ولا حرصَ المستمتع المستهتر باللذات، ولا حرص الطامح الطامع في الخلود، كلا هو حرصٌ على حِدتِه وعلى حِياله لا يُشبهه في الناس إلا القليل. هو حِرصٌ على التعجُّب منها ومما فيها، وهو حرصٌ على النظر في الأشياءِ والحيرة في فهمها، واضحة كانت أو مبهمة، وهو حرْصٌ على استيعاب الحياة كما هي عند الناس من نُظرائه ومن غير نظرائه. ولا يخرجُ من كل هذا الحِرْص الشديد على الدنيا التي تحت عينيه إلا بطول التساؤل وبتنازُع الحيرة، وبالخوف مما كان ومما لم يكن. هذه واحدةٌ.
وعجيبٌ أنه أبدًا مولَعٌ بهذا الحرص وَلوعَ المحب بحبِّ جديد. وهو نفسه يعلم أنه حرص عقيم لا يجدي عليه شيئًا في معرفة الدنيا ولا في التثبُّت من شيء من أحوالها، ولكنه يزدادُ به على الأيام وَلُوعًا وكلفًا وغرامًا حتى يستهلك نفسه في السؤال والبحث والتقصّي عن أشياءَ لا تغني عنه شيئًا، ولا يغني عقله في إدراكها، ولا يغني قلبه في الإيمان بشيء منها. وهو يأبى أن يُلْقى عن كاهله هذا العبءَ الثقيل الفادح، وإن كان يثق كل الثقة بأنه شيء لا جدوَى من حَمْله، ولا من الصَّبر على بلواه. هذه ثانيةٌ.
وثالثة الأثافي، كما قال أسلافنا، أنه إنسان حيٌّ النفس قابلٌ للتلقِّي، فكل شيء من حوله يثير في نفسه الفضول، وينشُر عليه ذلك الحرصَ الشديد على المعرفة، مجديةً كانت أو غير مجديةٍ، لا يبالي، فإذا هو كالمغموم إذا اعترضه ما يعوقُه عن الاستقصاءِ. وأشدُّ من ذلك هولًا أنه لا يكادُ ينسى شيئًا مما ائتمنَته نفسه على استقصائه، إذا قطعه ذلك العارض البغيض إلى نفسه، فإذا عادَ إلى
(*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 698)، نوفمبر 1946، ص: 1269 - 1270
ما لابدَّ له منه عاد أشدَّ رغبة في النفاذِ والاستقصاءِ والبحث. فهو بذلك مُعَانٌ على الحرصِ على الدنيا وما فيها بالذي انطوت عليه جوانحه، وبالذي فطرت عليه نفسه، فهو لا يرى خلاصًا، أو لا أرى أنا له خلاصًا، من هذه العادة المتمكنة، أو هذه الخصلة الكامنة في أعمق أعماق طبيعته.
فهو بهذا الذي وصفت: "يعيش في الدنيا"، ولكنه "خارج منها" بشيءٍ آخر، وإن كان متصلا بهذا كله أشد الاتصال. فهو لا يكادُ يعبأُ بنفسه شيئًا، بل هو لا يعرف أن له نفسًا موجودة، أو أصحُّ من ذلك أنه يشك كل الشك في وجود نفسه، فهو أبدًا مختلَسٌ من نفسه بالبحث عن نفوس الناس. وهذه مَثْلبة الفضول، فإنها تمنعُ المرءَ عن التأمل في نفسه، فإذا أراد أن يتأملها فكأنما يتأمل شيئًا غريبًا ليست بينه وبينها وشيجةٌ أو آصِرةٌ أو عاطفة. ومن أجل ذلك تراه يدور من حياته هو في مثل الحلقة المفرغة لا يدري من أين بدأ ولا أين انتهى، ولا يعرف أهذا هو الحق في فهم نفسه أم الحق سواه. ويذهب ويعود في البحث ولكنه لا ينتهي إلا إلى شيء واحد هو أنه لا يدري.
كنتُ على وشك أن أكتب شيئًا حين أسرع هذا الصديق إلى التلفون ليسألني هل قرأتَ جريدة "المصري"، وما جاء فيها من الذي سمّته "النص الحرفي لمشروع اتفاقية صدقي - بيفن، ولبروتوكول الجلاء والسودان": وذلك في عدد الأحد 10 نوفمبر سنة 1946، وكنت قد فرغت لساعتي من قراءته ومن التعجب لما جاء فيه. وأنا لا أستطيع أن أطمئن إلى نصٍّ مخْتَلس لا أدري أحقٌّ هو أم باطل، ولكني قرأته فإذا لم يكن هو النص فكأنه هو، لأنه أشبه مُعْوَجٍّ بحقيقة العوَج. ولا أظن أن الإنجليز يبلغ بهم صدق الطبيعة أن يقولوا في السياسة شيئًا على وجهه وعلى استقامته. فلذلك خُيّل إليَّ أن في هذا النص طرفًا من الحقيقة الدالة على طبيعة الاعوجاج في ألسنة هؤلاء الساسة الإنجليز، ولست أعجل إلى مثل هذا النص المختلس فأقول في عبارته قولا، فإن العجلة في مثل هذا شيءٌ لا غناء فيه، كما لا غناءَ لك في إقناع الإنجليز بأن الحق الذي لك هو حقك، إذا كان الإنجليزي يرى أنه ليس حقًّا لك، وإن ظاهرتْك الدنيا كلها على حقك.
ونحن منذ كانت سنة 1919 أخذنا نجهل كيف يعامَلُ هؤلاء الناس، فإن ذلك الخَطَل الذي ضَرَب على آذاننا وأبصارنا وقلوبنا، والذي يسمونه "المفاوضة" قد جرَفنا في عُباب مُتلاطم من الحيرة والضلال، فما نكاد نبصر ولا نعي ولا نعقل شيئًا من حقيقة هذا الشعب الإنجليزي أو ساسته الذين يتصرفون في أمور الدنيا كأنهم وارثوها وأصحابها الذين تلقَّوا مقاليدها من يَدِ الله القدير العزيز. وكنت أظنُّ أن التجارب قد حنَّكت رجالنا فعرفوا مواعيد هؤلاء القوم، وأدركوا كيف تكون مواثيقهم منذ علا أمرهم في الأرض، وكيف كان تاريخ معاهداتهم منذ كان لهم شأن في هذه الدنيا يكتبون من أجله المعاهدات. بيد أن ذلك لم يكن، لأن رجالنا يستضعفون أنفسهم، ويظنون أن هذا الشعب لا يمكن أن يظفر بحقه إلا بمداورة الإنجليز والترفق في معاملتهم، حتى ينالوا من أيديهم ما تيسَّر! وهذا عجبٌ! بل هو غفلةٌ، بل هو كدْح أحمقُ في سبيل لا شيء. فقل لي بربك كيف يستطيع إنجليزي أن ينزل لنا عن شيء هو يريدُ أن يؤمن بأنه حقٌّ له، وإن كان حقًّا موروثًا متحدّرًا مع أصل البشرية كلها، وهو الاستقلال والحرية! . . . .
خلق الله في دوابّ الأرض دابة يسميها العرب اليَرْبُوع تكثر في بلادهم، وهي نوعٌ من الفأر قصير اليدين جدًّا، وله ذنب كذنب الجُرَذ يرفعه صُعُدًا، وفي طرفه شبه النّوَارة ولهذا اليربوع أسلوب فردٌ في حياطة نفسه وأموره، حتى إنه يتخذ لعشيرته رئيسًا يقف حارسًا على جِحرَة اليرابيع يحميها، فإذا قَصَّر في الحراسة، وهجم على اليرابيع من جراء غفلته وإهماله هاجمٌ أفزعها أو أضرَّ بها، انقلبت على ذلك الرئيس فقتلتْه وأقامت غيره مقامه. ويتخذ كل يربوع منها جِحرَةً يلوذ بها، ويجعلها سبعةً لها سبعة أبواب. فيبدأ أول ما يبدأ بالجحر الذي يسمونه "الرَّاهطَاء" فيغطيه بالتراب حتى لا يبقى منه إلا على قدْر ما يدخل الضوء منه إلى جحره هذا، ثم يحتفر جحرًا يسمونه "الحَاثِيَاء" يحثو عنده التراب برجليه ليخفي مدخله ثم يحتفر آخر يسمُّونه "الدَّامَّاءُ" لأنه يُدَمِّمه بتراب نَبيثَته (1) حتى لا يَنْفذَ
(1) النبيث: التراب الذي يستخرجه من الحَفْر.
منه عدُوّ، ثم ينشيء جحرًا آخر يقالُ له "العانقاءُ" يملؤه ترابًا، فإذا فجأه ما يخاف اندَسَّ فيه إلى عنقه. ثم يَحْفر "القاصِعاء" وهو جحرٌ يسدُّه سدًّا محكمًا لئلا يدخل عليه منه حيّة أو دابة. ثم يحفر "النافقاءَ" ويجعل على فَمه غشاءً رقيقًا، فإذا أُخِذ عليه بقاصعائِه عدَا إلى هذه النافقاء فضربها برأسه ونفق منها ومرق خارجًا. ثم يجعل سابع سبعةٍ جحرًا يقال له "اللُّغز" يجعله بين القاصعاءِ والنافقاءِ، يحفره مستقيما إلى أسفل، ثم يعدلُ به عن يمينه وشماله عُرُوضًا تعترض، يُغَمِّيه ليخفي مكانه بذلك الإلغاز، فإذا طلَبه طالب بعصًا أو سواها نَفَق من الجانب الآخر.
أفرأيت إلى كل هذه الحيطة وكل هذا التدبير! فإن تعجبْ فإنك واجد في الخُلُق الإنجليزي أكثر من هذا مداورةً وتَفَلُّتا وإلغازًا ومراوغه. والإنجليز أنفسهم يعلمون أنهم كذلك وأنهم يخفون في سرائرهم ما لو اطَّلعْت عليه لاستصغرت من احتيال هذه الدابة ما استكبرت. ومن أراد أن يدخل على الإنجليز جحرَتهم وقع في مَتاهة لا يدري معها من أين ولا إلى أين. فمن العجيب الذي لا ينقضي عجبه أن يظن رجالٌ من رجالنا أن في طوقهم أن يراوغوا الإنجليز فيستولوا على جحراتهم المحتقرة في طبائعهم وأخلاقهم وعقولهم.
إن معنى المفاوضة والمعاهدة بيننا وبينهم هي أن يسعى الإنجليز جهدهم حتى تطمئن إليهم، فإذا فعلت أخذوا بيدك وقادوك إلى مثل جحرة اليربوع، فيدخلون بك من واحدٍ إلى ثان إلى ثالث، حتى إذا خُيل إليك أنك قد تمكنت منهم "نفقوا" من نافقائهم بأسهل مما كنت تتصوَّر. وهكذا شهدنا وعرفنا وخبرنا منذ احتلّوا بلادنا في سنة 1882، فوعدوا الدنيا كلها -لا نحن وحَسْب- بالجلاء الناجز، ولكنه ظلَّ وعدًا إلى هذا اليوم.
وجاءونا اليوم يعدوننا أيضًا أن يَجْلوا عنا بعد عام أو عامين أو ثلاثة -أيُّ ذلك كان. فمن الذي يصدق هذه اليرابيع! ومن شفيعهم وضمينهم في كل هذا؟ أهو الخطُّ المكتوب، أم اللفظ المنطوق، أم سوابق العهود المؤكدة والمواثيق الغليظة! ! إنها لغفلةٌ أن يرى امرؤ نفسه أقدرَ على خديعة هذه اليرابيع من قدرتها هي على خديعته. وليس يعلم شيئًا من ظن أن الإنجليز ينفضون أيديهم من شيء
هو كائن في أيديهم. الإنجليز يرابيعُ بالطبع والممارسة، حتى إن "النفَاق" الذي علمته في أخلاق اليرابيع، قد صار أيضًا خُلُقا من أخلاقهم يشهدون هُم به على أنفسهم، ويشهدُ عليهم به تاريخهم منذ كان لهم التاريخ. وهذا النفاق المطبوع هو الذي جعلهم أقدر شعوب الأرض في كل شئون السياسة. وما مواعيدهم، ولا معسول ألفاظهم، ولا روعة دعوتهم إلى الحرية، ولا كمال إخلاصهم في تحرير الجنس البشري من غوائل النازية، ولا صبْرهم على المكاره في سبيل المثل الأعلى للإنسانية -كل ذلك ليس ببعيد عنا في زمن الحرب الماضية. لقد نطقوا بكل شيء، ولكنهم لم يحققوا شيئا مما نطقوا، فكيف نرضى لأنفسنا أن نؤمن بأنهم فاعلون معنا شيئًا لم يردهم خجل ولا حياء عن نكث مثله وإخلافه، بل أكبر من ذلك أنهم فعلوا نقيضه ودافعوا عن فعله بمثل القوة والبلاغة التي كانوا يزيّنون بها لأمم الأرض أن تُعينهم في أيام محنتهم وبلواهم!
ومن عجائب الإنجليز أنهم يعلمون علمًا ليس بالظن أنهم معتدون متغطرسون ظالمون، يأكلون الحقوق أكلا لا يرعون فيه حرمة ولا ذمة. ومع ذلك فهم من طول ممارستهم للنفاق قد انتهوا إلى أن أقنعوا أنفسهم بأن هذا الاعتداءَ وهذه الغطرسة وهذا الظلم ليس له وجود حقيقيّ، بل العكس هو الصحيح، وهو أنهم وحدهم دون سائر العالمين أهل العدل والنَّصَفة والتواضع، وأنهم هم الذين جاءوا إلى الدنيا ليردوا الحقوق إلى أهلها، وأنهم هم القُوَّام على هذه الرسالة السامية. ولذلك ترى كلام رجالاتهم كلامًا نَيرًا مضيئًا فاتنًا ساحرًا إذا عرضوا لمعنى الحرية وما أطافَ بها، ويُخيل إليك أن إيمانهم بهذه المثل العليا إيمان لا يعتوره نقصٌ. وهذا حق، ولكنهم إذا جاءوا إلى تنفيذ ما يقولون رأيتهم أهل بغْى وعُدْوان فيما ترى ويرى الناس، ولكنهم هم يصرّون على أن هذا هو الحق الذي لا محيصَ لك ولا للناس عن الأخذ به، تقول: وإن كان بغيًا وعدوانًا، فأقول: وإن كان بغيًا وعدوانًا!
والإنجليزي يرى أن هذه الأمانة التي حُمِّلها هي الأمانة، وأنه مؤدِّيها على وجهها، فإن أنت خالفته وزعمتَ له أنه يجورُ عليك جورًا عبقريًّا قال لك: إنك
شديد المُماكَسَة (1) مولَعٌ بالجدال، ويحاول أن يبسُط لك الأمر بسطًا حتى تقتنع بأنه غير ظالم، بل هو العادل الذي لا يعرف العدل أحدٌ سواه. ومن شاء أن يناقض هذا الذي أقوله فلينظر إلى حُجَّة هذا الشعب في موقفهم أو احتلالهم للهند. وفي احتلالهم لمصر من أجل الهند. فالهند مستعبدة ظُلمًا وجورًا، وهم يريدون أن يحللوا بقاءهم في مصر، لأن فيها قناة السويس، وهي التي تؤدي أو تسهل الطريق إلى بلاد الهند. فإذا خرجت القناة من أيديهم كان ذلك وبالا مستطيرًا على مصالحهم في الهند! فينبغي عندهم أن ترضى مصر بالأمر الواقع، وهو بقاؤهم حراسًا على القناة، لئلا تضيع مصالحهم في البلاد التي استعبدوها واستذلوها وأفقروا أهلها وأكلوا أموالها وأعروْا ذَرَاريها، وهتكوا الستور عن أحرار نسائها. يا له من منطق! وهل في طاقة أحدٍ أن لا يقتنع برأيهم في حفظ كيان هذه الإمبراطورية الضخمة! كلا بل ينبغي أن يُطيع العالم وأن يَسمع. فلو أن الإنجليز فرَّطوا لهوَى العلم البريطاني إلى الرغام في أرض الهند، ولبقيت الهند عارية لا تجدُ هذا الدفءَ الحلو اللذيذ، ولا هذا الظل الوارف الناعم الذي ينشره عليها علم بريطانيا!
فحدثني أيها الصديق ماذا تريد بعد ذلك أن أقول لك في هذه المعاهدة التي تريد إنجلترا أن توقعها مصر راغمة أو راضية! دَعْ عنك الحيرة، ودع عنك تقلب الرأي، واختر لي أنت رأيًا أصير إليه. وإلا فإني أقول لك كما قلت دائمًا: إن المعاهدة بيننا وبين بريطانيا، هي أن ندخل معها في جُحر اليربُوع حتى إذا استقرَّ بنا المقام قليلا "نفقتْ" كما يمرق اليربوع من نافقائه إذا سُدّت عليه المسالك!
(1) المماكسة: المشاكسة. والمماكسة أصلها في البَيع وهي انتقاص الثمن واستحطاطه والمنابذة بين المتبايعين.