المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطريق إلى الحق - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ١

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الرافعي

- ‌بين الرافعي والعقاد- 1

- ‌بين الرافعي والعقاد- 2

- ‌بين الرافعي والعقاد- 3

- ‌بين الرافعي والعقاد- 4

- ‌بين الرافعي والعقاد- 5

- ‌من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة ذات النطاقين

- ‌منهجي في هذا الباب

- ‌الإصلاح الاجتماعي

- ‌أبو العباس السفاح أمير المؤمنين

- ‌أسواق النخاسة

- ‌معهد الصحراء بيت الحكمة

- ‌الشباب والسياسة

- ‌المرأة والرجل

- ‌أبو العباس السفاح

- ‌التقليد

- ‌صورة النفس

- ‌أبو العباس السفاح

- ‌العيد

- ‌الحرب

- ‌العقل المصري

- ‌المنطلق

- ‌الغذاء العقلي والروحي للشباب

- ‌الدولة والثقافة

- ‌الأغنياء والفقراء

- ‌عناصر الثقافة المصرية

- ‌الفن

- ‌الفن الفرعوني

- ‌تمثال نهضة مصر

- ‌وبشر أيضًا

- ‌الهجرة

- ‌الشباب والأدب

- ‌ناقد يتكلم

- ‌هل يمكن

- ‌الرحلتان

- ‌جناية

- ‌الشعر والشعراء

- ‌شاعر

- ‌قصيدة الزلزال

- ‌إلى بعض القراء

- ‌ابن شُبرمة

- ‌من مذكرات ابن أبي رَبيعة الحقيقة المؤمنة

- ‌غُبَّرات لا غُبارات

- ‌العودة

- ‌كتب

- ‌المستشرقون

- ‌نشر الكتب العربية

- ‌رسالة الشافعي

- ‌الذخيرة

- ‌مباحثهم

- ‌العقاد

- ‌توطئة

- ‌الملاح التائه

- ‌والشعر أيضًا

- ‌ليالي الملاح التائه

- ‌الجندول

- ‌الرأي العام

- ‌التبشير

- ‌فقهاء بيزنطة

- ‌سياسة الإسلام

- ‌نقد

- ‌ التيارات الفكرية

- ‌القرن العشرون

- ‌الحرب

- ‌الحرية

- ‌الفن الفرعوني

- ‌مولده

- ‌أعيادنا

- ‌التعليم

- ‌تعليم العربية

- ‌مشروع

- ‌الأزهر

- ‌إصلاح الأزهر

- ‌المجمع المصري للثقافة العلمية

- ‌آلهة الكعبة

- ‌الأغنياء

- ‌نجوى الرافعي

- ‌ذكرى الرافعي

- ‌مصر المريضة

- ‌إلى أين. . .؟- 1

- ‌إلى أين. . .؟- 2

- ‌إلى أين. . .؟- 3

- ‌ويلك آمن

- ‌هذه هي الساعة

- ‌أخوك أم الذئب

- ‌يوم البعث

- ‌الحضارة المتبرجة

- ‌1 - اقتطف

- ‌2 - باريس

- ‌وزارة المعارف العمومية عُدْوان لطيف

- ‌إمتاع الأسماع

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة أيام حزينة

- ‌الطريق إلى الحق

- ‌أدباء

- ‌من مذكرات ابن أبي ربيعة جريرة ميعاد

- ‌الحرف اللاتيني والعربية

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

- ‌من وراء حجاب

- ‌تهجم على التخطئة "السلام عليكم

- ‌وأيضًا تهجم على التخطئة

- ‌هزْل

- ‌بين جيلَين

- ‌اسلمي يا مصر

- ‌بعض الذكرى

- ‌نافقَاء اليَربُوع

- ‌ساعة فاصلة

- ‌احذَرِي أَيتُها العَرَب

- ‌من اسْترعَى الذئب ظَلم

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد

- ‌مصر هي السودان

- ‌لا تدابَروا أيها الرجال

- ‌إنه جهاد لا سياسة

- ‌الخيانة العظمى

- ‌الجلاءُ الأعظَم

- ‌نحن العرب

- ‌الحكم العدل

- ‌هي الحرية

- ‌قضى الأمر

- ‌أسد إفريقية

- ‌شعب واحد، وقضية واحدة

- ‌هذه بلادنا

- ‌شهر النصر

- ‌في الماضي

- ‌عبر لمن يعتبر

- ‌اتقوا غضبة الشعب

- ‌مؤتمر المستضعفين

- ‌لا هَوَادة بعد اليوم

- ‌حديث الدولتين

- ‌بَلْبَلَة

- ‌لسان السياسة البريطانية

- ‌لبيك يا فلسطين

- ‌فلسطين: ثلاثة رجال

- ‌إياكم والمهادنة "ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإبْل

- ‌ويحكم هبُّوا

- ‌لا تَمَلُّوا

- ‌كلمة أخرى

- ‌الفتنة الكبرى

- ‌هذا زماننا

- ‌الحرية! الحرية

- ‌لمن أكتب

- ‌على حد منكب

- ‌ذو العقل يشقى

- ‌أعتذر إليكَ

- ‌كلمة تقال

- ‌فيم أكتب

- ‌أبصر طريقك

- ‌باطل مشرق

- ‌غرارة ملقاة

الفصل: ‌الطريق إلى الحق

‌الطريق إلى الحق

كتب الأخ الصديق الأستاذ محمد مندور كلمة في البريد الأدبي الرسالة (488) بعنوان "اللغة والتعريب"، عرض فيها مسألتين: إحداهما: مسألة الصواب والخطأ في اللغة، والأخرى: هو عنصر الثبات في اللغة كما سماه. وقد دفعه إلى الحديث عنهما ما كان من تخطئة الأب أنستاس الكرملي إياه في حرف من اللغة استعمله في كلامه، وهو "عثرت بالشيء" وهو يريد "عثرت عليه" وأحبُّ أن أقدم بين يدي كلامي بعضَ ما أعرفه عن "مندور"، قد كنا زميلين في الجامعة، فكان أحد الشبان الأذكياء المدقّقين. وإن فيه من ثورة النفس ما أرجو أن يبقى له على الشبابِ والهَرَم. ثم عرفته من بعدُ مطلعا حريصًا على العلم قليل العِناد فيما لا خطر له، ثم هو لا يزال يدأب إلى الحق في غير هوادة، فكل هذه الصفات تجعله عندي غير متعنّتٍ ولا مكابر، ولكني رأيت الأب أنستاس قد سلك إلى "مندور" طريقًا، فاندفع كلاهما يطاعن أخاه بعنفٍ لا يهدأ. وأنا لا أحب أن أدخُلَ بين الرجلين فيما هما بسبيله، ولكني أحرصُ على أن أدلَّ "مندورًا" على الحقّ الذي كنا ولا زلنا نميل إليه بكُلّ وجهٍ، ونسعى إليه في كل سبيل.

وينبغي لي أن أعرض للكلام على الفرق بين الحرفين "عثرت به" و"عثرت عليه" قبل أن أتحرى إلى "مندور" طريق الحقّ في المسألتين اللتين ذكرهما في كلامه.

فأصل اللغة في هذه المادة "عَثَر يعْثُر عَثْرًا وعِثَارًا"، وهو فِعْل لازمٌ لا يتعدَّى إلى مفعولٍ، ويَأتي هكذا غير مصاحب لحرفٍ من حروف الجرِّ. ولكلِّ فِعلٍ في اللغة مَعْنًى يقومُ بذاته، ودلالات يقتضيها بطريق التضمُّن أو الالتزام.

(*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 491) نوفمبر 1942، ص: 1103 - 1106

ص: 242

فقولك "عثر الرجل" معناه "تهيأ الرجل للسقوط": فالمراد بالفعل هو حدوث "حركة سقوط" الرجل، ولا يقصد به السقوط نفسه، أي أنه يدل بذاته على الحركة التي تسبق السقوط. وأما الدلالات التي يقتضيها الفعل فأولها: سبب حركة السقوط، وهذا السبب عقلي محض يتضمنه الفعل ويقوم فيه مقام الفاعل "كالحجر" مثلًا. وثانيها: الفعل الذي فعله هذا السبب وهو "الصدم"، وثالثها: الحالة التي تلحق الرجل من جرَّاء اصطدامه وهي التنبه والتماسك قبل السقوط. أما الدلالة الرابعة. . .

فلو شئت أن تفسر "عثر الرجل" لقلت: "صدم الحجرُ الرجلَ فكاد يسقط"، فكأن "عثر" قامت مقام الكلمات "صدم الحجر. . . فكاد يسقط". وأنت ترى أن "الرجل" هنا هو الذي وقع عليه الفعل (أي المفعول به)، لأنه هو الذي صُدم فكاد يسقط. فلما كتم هذا الفعل "عثر" فاعله الحقيقي -وهو الحجر مثلًا-، وكتم "الصدم" الذي هو فعل الفاعل الحقيقي، نسب فعله إلى الرجل، مع أنه ليس فاعلًا بل مفعولًا به. فهذا يدل على أنه ليس مريدًا للفعل (وهو العثرة)؛ كما يكون مريدًا للفعل في قولك:"قام الرجل" إذ أنه مريد هنا للقيام. وشبيهٌ به قولك: "مات الرجل" و"نام الرجل"، فالرجل هنا -على أنه "فاعل" في عبارة النحاة- ليس فاعلًا في حقيقة المعنى بل هو "مفعولٌ به" لأنه غير مريد في حالة الموت أو النوم.

فإذا صح لديك أن الرجل غير مُريد للعثرة في قولك "عثر الرجل"، رأيت الدلالة الرابعة لهذا الفعل وهي أن الشيء الذي فعل العثرة -وهو الحجر مثلًا- كان صغيرًا لم يتبيَّنْه الرجل، أو لم يتوقع وجوده في المكان الذي كان فيه، فلذلك كاد يسقط على غير إرادة من الرجل لذلك.

وإذا تأملت قليلًا رأيت أن قولك "عثر الرجل" لا يراد به الإخبار عن حدوث الصدم، بل المراد أن تصور هيئة الحركة التي جاءت بعد الصدم، وهي حركة السقوط. ولذلك بني مصدرها على هيئة المصادر التي تدل على عيوب الحركة في أصل الخلقة كالتي تكون في الدابة وغيرها من كل ما يمشي أو يتحرك.

ص: 243

وذلك هو وزن "فِعال" كالشِّماس، والجماح، والنفار، والشراد، والهياج، والطماح، والحران، والعضاض، والخراط، والضراح، والرماح، والفرار. فأنت ترى من ذلك أن المصدر قد نظر فيه إلى أن المراد في الفعل هو حركة السقوط لا الصدم، فإن الصدمة ليست عيبًا، وإنما العيب في هيئة الحركة. وكثيرًا ما يستعمل العثار للخيل يقال:"عثر الفرس" أو غيره من الدواب.

هذا. . . وحروف الجر التي تأتي لمصاحبة الأفعال إنما تأتي لمعان يتعين بها للفعل معنى لم يكن ظاهرًا فيه قبل دخولها، بل ربما اضطر الحرفُ الفعلَ أن ينتقل من الحقيقة إلى المجاز، لذلك تسمى حروف المعاني.

ثم إن كل حرف من هذه الحروف له معنى أصليٌّ يقوم به، ثم تتفرع منه معان أخرى لا تزال متصلة إلى المعنى الأول بسبب. فالباء مثلًا هي في حقيقة معناها تدل على إلصاق شيء بشيء أو دنوه منه حتى يمسه أو يكاد. ففي قولك "ألصقت شيئًا بشيء" تقع الباء في معناها الأول وهو الإلصاق الحقيقي. وفي قولك "مررت بزيد" تكون مجازًا لأنها تدل على الدنو والمقاربة الشديدة، كأنك ألصقت مرورك بالمكان الذي يتصل بمكان زيد. وينتقل الحرف من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي بدليل من الفعل الذي يشترك معه في الدلالة. ولذلك تخرج من معناها الحقيقي إلى معنى السببية أو التعليل أو المصاحبة أو الاستعانة مما يذكر في باب معانيها، ولكنها في جميع ذلك تدل على الإلصاق الحقيقي أو المجازي.

فإذا جاءت الباء بعد فعل يقتضي معناه بذاته أو بدلالته معنى من الإلصاق، تعين لها أن تكون واقعة في معناها الحقيقي، ويكون دخولها مبالغة في إظهار معنى الإلصاق. وذلك كقولك:"أمسكت الشيء"، و"أمسكت بالشيء" فالباء هنا تزيد في معنى الفعل تقوية الإمساك إذ أن الإلصاق مما يدل عليه هذا الفعل بدلالة التضمن أو الالتزام.

فإذا قلت "عثر الرجل بحجر" فمعناه كما بيَّنا آنفًا "صدم الرجلَ حجرٌ فكاد يسقط". والباء قد دخلت على الفاعل الحقيقي للعثرة وهو "الحجر"، فهي إذن

ص: 244

مكملة لمعنى الفعل، ولم تأت لتعدية الفعل إلى مفعول، كالذي يكون في قولك "ذهب الرجل" و"ذهب الرجل بمحمدٍ".

فإذا كان الفعل دالًا بالتضمن على الصدم، والصدم يقتضي الإلصاق، وجاءت الباء مكملة لمعنى "عثر" تجرُّ وراءَها الفاعل الحقيقي للصدم، فالباء إذًا ستزيد في معنى الفعل، وذلك بأن تُظْهِر الصدم -المقتضى للإلصاق- بعد أن كان مكتومًا في الفعل، ويُقوي ذلك أيضًا ظهور الفاعل الحقيقي للعثرة بعد أن كان مكتومًا في "عثر".

فقول الأستاذ (مندور) إنه أراد بقوله "عثرت بالشيء" أنه لاقاه اتفاقًا غير ممكن، لأن الباء وافقت الفعل فزادت في الإبانة عما يضمره من دلالة "الصدم" الحقيقي ولم يكن فيها من المخالفة ما يحمل هذا الفعل على الميل إلى المجاز (أي إلى الصدم المجازي). وليس من شك في أن قوله "لاقاه اتفاقًا" مجازٌ في تأويل "عثر بالشيء"، فإذا كانت الباء إنما تزيد حقيقة الفعل قوة وبيانًا، فكيف إذن تصيرُ بعد ذلك مجازًا بغير عامل يحملها إلى المجاز؟

وقد يستخدم مع هذا الفعل حرف آخر هو "في"، فتقول "عثر الرجل في ثوبه" إذا كان واسع الثوب طويل الذيل، فهو يطأ بعض ذيله كلما مشى، فتشد الوطأة الثوب عليه، فيميل كأنه يتهيأ للسقوط فيتماسك.

فهذا الحرف "في" يدل في أصل معناه على الظرفية الزمانية أو المكانية، وينسحب بها على سائر معانيه. وهو بذلك يدل على استقرار لا على حركة كالحركة التي تكون في الإلصاق. ولما كان الفعل يدل دلالة ظاهرة على حركة السقوط وجاء الحرف "في" يطالب الحركة بالاستقرار، أسرع الفعل إليه. وذلك أنه حين يقول لك "عثر الرجل" لم تكد تجاوز تصوُّر حركة السقوط حتى يفجؤك بقوله "في ثوبه"، فيطالبك بإقرار هذه الحركة ثم تصورها في جوف الثوب. وهذه السرعة التي يتطلبها الانتقال تضعف دلالات الفعل التي كان يدل عليها مستقلًا بذاته أي في قولك "عثر الرجل" مجردا، وهي كما ذكرناها آنفًا: فاعل حركة السقوط، وفعله وهو الصدم، وحالة التنبه والتماسك قبل السقوط، وعدم التوقُّع أو الاتفاق.

ص: 245

فدخول "في" على "الثوب" أبعدتْ عن أول التصور أن يكون الثوبُ فاعلَ الصدم المؤدي إلى حركة السقوط، وبذلك أيضًا أضعفت دلالة الفعل على "الصَّدْم"، إذ أن "الصدم" لا يشبه أن يكون من فعل الثوب؛ فيتغير ما يتضمنه الفعل "عثر" من الدلالة، وتضمن وَطْء الثوب المفضي إلى شدِّه.

ولما كان لابس الثوب الطويل ينبغي له أن يعلم أن طوله يؤدي إلى وطء ذيله فيعثر، اختفت من الفعل -إلا قليلًا- دلالة الاتفاق من غير تعمد. ولذلك تستطيع أن تقول "جاء فلان يعثر في ثوبه"، ولا تستطيع أن تقول "جاء فلان يعثر بثوبه"، لأن الأولى قد ذهب منها الاتفاق من غير تعمد، فجائز أن تستمر، وأما الأخرى فمحتفظة بالاتفاق من غير عمد، فهي لا يمكن أن تستمر.

ومع ذلك فهذا الحرف "في" لم يستطع أن يغير من حقيقة "عثر" لأنه دانٍ منها، أو هو مستقر لها، إذ سوف تنتهي حركتها إلى استقراره.

وأما "على" فحرف يدل على الاستعلاء في جميع معانيه دلالة مطلقة، والاستعلاء المطلق لا يوجب الإلصاق كما في الباء، ولا يوجب الاستقرار كما في "في". فاستعمالها مع "عثر" سيحدث في معناها أثرًا جديدًا ينقلها من حال إلى حال.

فحين تقول "عثرت على الكرسي" يقتضيك فيها معنى "عثرت" -وهو تهيؤك للسقوط وتماسكك دون السقوط- ألا تجعل معنى "على" استعلاءَ ملاصقًا كما في قولك "وقعت على الكرسي"، وذلك لأنك لم تسقط بل كدت ثم تماسكت. وإذن فالحرف "على" هنا يدل على الاستعلاء المطلق الذي يقتضي نَفْي الملاصقة كقولك:"فضلت فلانًا على فلان".

والاستعلاء المطلق مناقض كل المناقضة لمعنى "الصدم" لأن الصدم يقتضي الملاصقة، فلما جاءت "على" خلعت عن الفعل "عثر" كل ما كان يتضمنه من معنى الصدم الحقيقي (لا المجازي)، ولما خلعته عن الفعل خلعته أيضًا عن الفاعل (الكرسى) الذي كان فعله الصدم الحقيقي (لا المجازي)، ولكن هذا الفعل لا ينفك من أحد دلالاته وهو "الصدم" سواء أكان حقيقيًّا أم

ص: 246

مجازيًا، فإذا خلعت "على" عنه الصدم الحقيقي بقي الصدم المجازي مكتومًا فيه قائمًا مقام الصدم الحقيقي، وإذا كان ذلك فلابد من حدوث تغير في الفعل وفي معناه، لأن الصدم قد انتقل من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، والصدم وفاعله سببان في "عثر" التي تدل على حركة السقوط. فإذا صار الصدم من الحقيقة إلى المجاز -وهو أحد مقومات حركة السقوط- فلابد من أن تصير "عثر" إلى المجاز أيضًا لأنها صارت مسببة عن مجاز.

فأنت ترى أن هذا الفعل لم ينقله من الحقيقة إلى المجاز إلا حرف واحد هو "على" الذي يدل على استعلاء مطلق يناقض معنى الصدم الحقيقي الذي كان ثابتًا في الفعل بدلالة التضمن أو الالتزام.

وعلى ذلك لا يزال هذا الفعل مع "على" يدل على حركة السقوط المجازية، ويتضمن بدلالة الالتزام فاعل هذه الحركة، وفعله وهو الصدم المجازي، ثم حالة التنبه والتماسك قبل هذه الحركة، ثم عدم التوقع أو الاتفاق، وهذا بعينه ما يريده الأخ "مندور" بقوله في تأويل "عثرت به" أنه لاقاه اتفاقًا.

وانظر الآن إلى سليقة هذه اللغة فإنها إذا كانت قد جعلت مصدر "عثر وعثر به" و"عثر فيه" عِثارًا بوزن "فِعال" الدال على عيوب الحركة، أو على الحركة نفسها: كالمِزَاح والضِّرَاب والنِّزَال، والصِّرَاع، فإنها تجعل مصدر "عثر عليه" عثورًا على وزن "فُعول" الذي يدل أكثره على مجرد الحركة، كالنزول، والسقوط، والقعود، والجلوس، والشرود، والنفور، والجموح، والطموح؟ وبذلك خالفت بين المصدرين مع اشتراك الوزنين في معنى الحركة، لأن الفعل انتقل من الحقيقة إلى المجاز.

وفي الآيتين من كتاب الله: المائدة (110){فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} ، وآية أصحاب الكهف (20){وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} جاء الفعل بالمعنى المجازي الذي يقتضي حركة السقوط المجازية، والصدم المجازي، وحالة التنبه والتماسك قبل حركة السقوط. وعدم التوقع أي الوقوف على الشيء بغير طلب أو بحث أو كشف.

ص: 247

ولكن الأخ مندور يقول: "ولم أرد (العثور عليه) أي الإطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها". والذي أوقعه في هذا التأويل قول أصحاب اللغة "عثر على الأمر عثورًا" اطلع، فتفسيرهم مقصر عن الغاية كل التقصير لأنه يدل على جزء واحد من الدلالات التي يتضمنها الفعل، وهي حالة التنبه التي تلحق الرجل من الصدمة فينظر ويتبين ما صدمه، وأهملوا بقولهم (اطلع) المعنى الأصلى للفعل "عثر" وهي حالة السقوط المجازي، والصدمة المجازية، وعدم التوقع. وهذا نقص مخل في عبارة كتب أصحاب اللغة.

وأنا أقرر أن أكثر ما في كتب اللغة عندنا من تفسير الألفاظ إنما هو تفسير مخل فاسد، لأنه قد أهمل فيه أصل الاشتقاق، وأصل المعنى الذي يدل عليه اللفظ بذاته كما رأيت هنا. وإذا أُهْمِل هذان فقد اضطرب الكلام واضطربت دلالاته، وأوقع من يأخذ اللغة بغير تدبر في حالة من التعبد بالنصوص كتعبد الوثني للصنم. وأيضًا فهو يوقع بعض النابهين من الكتاب في أوهام ليست من الحق في شيء، يحملهم عليها تكرار هذا التفسير الفاسد فيسلمون به على غير تبين، كما رأيت في تفسير قولهم "عثرت عليه" أنه "اطلعت عليه"، فإنك حين تقول:"عثر على الكلمة في الكتاب" فلست تقولها إلا حين تريد أن تصور الكلمة كأنها فاعل الصدم، وتصور رؤيتها كأنه صدم لك، وهذا الصدم يستدعي تنبهك فتتماسك وتنظر إلى ما صدمك، وإن هذا كله كان بغير طلب أو بحث وإنما جاءك اتفاقًا على غير تعمد كان منك.

هذا وأنا لم أقصد ببحثي هذا إلى اللغة، بل قصدت إلى الدلالة على طريق الحق إلى فهمها. وأحب أن أظهر من يقرأ كلامي هذا على أنني لا أجعل مفردات اللغة كل الهم في عملي أو عمل غيري. ويقيني أن أكثر من يطيق التدبر والتأمل يستطيع أن يصل إلى فهم اللغة فهمًا صحيحًا نافعًا معينًا على حسن العبارة ودقتها في البيان عن المراد، وهو لم يتكلّف إلى ذلك إلّا قليلًا من الجهد وأحسبني قد سلكت إلى أخي مندور طريق العلم إلى غاية الحق، وهي غايته التي أعلمه لا يعمل إلّا لها، وسواء عليه بعد ذلك أكان الحق له أم عليه.

ص: 248

أما مسألة الخطأ والصواب في اللغة، ومسألة عنصر الثبات فيها، فنتركها إلى العدد التالى من الرسالة، ولأخي مندور تحيتي وشكري.

ص: 249