الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إياكم والمهادنة "ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإبْل
! " (1)
إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهارًا في غير جَمْجَمَة ولا إدهان. ولو عرفت أني أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذل العزيز ويمتهن الكريم. وقد قصرت نفسي إلى هذا اليوم على مجلة "الرسالة" لأنها ملاذ الأقلام الحرة التي لا تثنيها عن الحق رهبة، ولا تصدها عن البيان مخافة. وقد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئًا يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا ويلقى بها في الآخرة أشد العذاب. وأنا جندي من جنود هذه العربية، لو عرفت أني سوف أحمل سيفًا أو سلاحًا أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهي الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة.
والأمر بيننا وبين يهود سافر كإشراق الصباح لا يغطيه شيء، ولا تعمى عن جلائه عين، فهو الحرب الضارية التي لا ترحم. فمن شك في هذا فإنما يشك عن دَخَل (2) وفساد لا عن يقين خطأ يلتمس فيه العذر. والحرب معنى معروف
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 756)، ديسمبر 1947، ص: 1423 - 1426
(1)
هذا مَثَلٌ، يُضْرَب لمَن قَصَّر في ما أسند إليه. وهو يُقْرَن غالبا بشطره الأول وهو:
* أَوْرَدَها سَعْدٌ، وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ
(2)
الدَّخَل والفساد بمعنى.
للبشر منذ كانوا على هذه الأرض، ولها أساليب لا يجهلها خبير بها ولا غير خبير، ومَن جهل هذه الأساليب أو تجاهلها أو دعا قومه إلى إطراحها والإغماض عنها فإنما يدعوهم إلى الهلكة والفناء والخزي وذل العصور والآباد. فكل كلمة تقال منذ اليوم في أمر هذه الحرب فهي إما تحريض على القتال، أو تثبيط عنه. وكل امرئ منا محاسب بما يقول علا شأنه أو سفل، فإن الحرب لا تعرف شريفًا ليس لسانه بشريف، ولا تتنكر لمغمور يضئ عنه بيانه أو عمله.
وقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة وسمعت كلمات لا يرفعها أو يشفع لها أن يكون قائلها فلان أو فلان. فإن قيادة هذه الحرب لن تكون لمن يهادن في الحق الأبلج (1)، أو يجامل في المحنة المهلكة. فمن ذلك أني سمعت الأئمة على منابر المسلمين تذكر الناس بأمر فلسطين وما حل بها وما يراد فيها، ثم تعقب على ذلك بتذكير الناس بأن في بلادهم مواطنين من يهود -هم كما يقولون- أهل ذمة، لهم ما لأهل الذمة والمعاهدين من الأحكام في ديننا ودين نبينا. وقرأت أيضًا بيانًا من "هيئة وادي النيل" أذاعه رئيسها سعادة محمد على علوبة باشا يقول لنا فيه:"إن لكم مواطنين من اليهود في مصر، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقد شاعت حولهم شائعات السوء فقيل إنهم يمدون الصهيونية بالمال، وإنهم يضنون بمالهم فلا يساهمون معكم في رد عدوان الباغين. ونحن على يقين من أن إخواننا اليهود في مصر -وهم أصحاب الملايين- سيبذلون من مالهم للعروبة في محنتها كما تبذلون، وسيسارعون إلى تكذيب هذه الشائعات ببذلهم وعطائهم لا بأقوالهم وتصريحاتهم".
ولست أدري ما الذي يحمل هؤلاء القوم على ركوب هذا المركب في تغطية عيون الناس عن أفاعيل يهود منذ كان لهم على هذه الأرض مكان يسرحون فيه؟ فإذا كانوا يريدون أن لا تقع الفتنة بين يهود مصر وبيننا، فكفاهم أن يذكروا أن العرب والمسلمين منذ كانوا لم يضطهدوا هذا الجنس من خلق الله إلا عقابًا
(1) الأَبْلَج: الواضح، وأصله الأبيض.
لشيء جنته أيديهم، ثم يتركونهم وادعين لا يمسهم شر ولا عنت تحت ظل هذه الدول العربية والإسلامية. وإذا كانوا يريدون أن يفتوا الناس بأن يهود هم أهل ذمة لهم ما لأهل الذمة في أحكام الإسلام، فقد أخطأوا. ولا يستطيع متأول أن يتأول على دين الله أن هؤلاء اليهود أهل ذمة أو معاهدون كما توجب أحكام الإسلام لمن يوصف بهذه الصفة. وكان حسب هؤلاء أن يأمروا الناس بالتطوع للقتال والتبرع بالمال، وأن يصفوا لهم هذه الحرب الملعونة التي تشنها علينا العصبية الصليبية من أوربة وأمريكا، وأن ينفضوا قلوب الناس حتى يبتدروا مراكزهم في صفوف المقاتلين، فإن الحرب كما يقولون جدها جد وهزلها جد. فإذا كان هذا العبث مقبولا يومًا ما، فإنه اليوم فت في عضد الأمة المسكينة التي أحاطت بها الأمم لتأكلها "أكل الضروس حلت له أكلاؤه"(1). فليقلع هؤلاء الواعظون عن عظة فيها الهلاك لأقوامهم، والذل لأبنائهم، والعبودية لبلادهم.
أما النداء الذي أذاعه علوبة باشا فقد أفزع كل حريص على خير أمته وبلاده. وكيف لا يفزع امرؤ يقرأ نداء موجهًا إلى عامة الشعوب العربية ثم شعب مصر خاصة وفيه هذه الثقة المطلقة بأن اليهود برآء من كل قادحة تقدح في إخلاصهم للقضية العربية! ! وفيه هذا اليقين الذي لا يتزلزل بأنهم سوف يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل فلسطين العربية! ! ويأتي هذا البيان من رجل معروف الاسم، مشتغل بالقضايا السياسية والوطنية والعربية، ينظر إليه الشباب نظرة التوقير والإجلال لما يقول.
ونحن لا ندري هل وقف على شيء غاب عن الناس جميعًا وعرفه هو، فاستيقن أن ظاهر أمر يهود مصر غير باطنهم، وأنهم إنما يرسلون الأموال إلى الصهيونية ذرًّا للرماد في عيون الناس، وأنهم يتولون تهريب الأسلحة إلى الصهيونية رحمة بالعرب ودفاعًا عن قضيتهم، وأنهم يجمعون الشبان اليهود ليبثوا فيهم الدعوة إلى الهجرة إلى أرض الميعاد، ليدخلوا فلسطين ويكونوا عونا للعرب على إخوانهم من اليهود الصهيونيين! !
(1) الضَّرُوس: الأكُول. الأكلاء: جمع كلَأ، وهو العُشْب.
حسبكم أيها الساسة القدماء! لئن ظننتم أنكم بأمثال هذا الكلام تستطيعون أن تلينوا الصخر من قلوب يهود مصر حتى ينحازوا إليكم، ويكونوا لكم أعوانًا على أبناء جلدتهم، فقد خاب ظنكم وخاض بكم الأباطيل المركومة. إنه ما من يهودي على ظهر هذه البسيطة إلا وهو صهيوني متعصب يخفي تحت ذلته ومسكنته غوائل الغدر والفتك. إن يهود العالم على قلب رجل واحد: يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، ويكونوا سادته وكبراءه والحاكمين بأمرهم في كل ثنية من ثنايا أرضه. لا نقول لكم اقرأوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرأوا كتابهم الذي يدينون به، واسترقوا السمع فيما يجرى على ألسنتهم وهم يتخافتون بينهم، وادخلوا بِيَعَهم، وانظروا في وجوههم، وتفرسوا في سمتهم وشمائلهم وحركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطًا سفاحًا قد قتله الظمأ إلى دمائكم ولوَّعه الشوق إلى فرائس أموالكم وبلادكم. وليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته بنفسه التي بين جنبيه. وليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال والحرب. ولا تظنوا أن يهود تنخدع لكم عن أنفسها حتى تنالوا منها شيئًا تعلم أنه خذلان لدينها وعقائدها وأهوائها ومطامعها منذ كان لهم في هذه الأرض مجال يتحركون فيه.
إن الذين نشروا هذا النداء إنما يخادعون أنفسهم وأهليهم عن حقائق ما يجرى على أعينهم وبمنظر منهم ومسمع؛ وهذه صحف تنشر كل يوم من خبائث يهود في أرض مصر ما يفزع، وتضع أيديكم على الجريمة وهي تنشأ في قلب بلادكم، فكيف يتاح لكم أن توفقوا بين ثقتكم بغيب مكنون في قلب اليهود، وظاهر يأتيكم من أفعالهم علانية غير مستور أو محجوب؟ نحن لا نريدكم أن تحرضوا الناس على الفتك باليهود، فالعربي أنبل نفسًا من أن يفتك ويغدر. بل نريدكم أن تدعوا هذه العظات والسياسات المتعفنة جانبًا، وأن تلقوا إلى قومكم بالحقائق مجردة من كل مهادنة أو مراوغة، حتى يعلم شباب العرب أن في قلب بلادهم قوي يخشى أن تغلب عليهم وتنتزع منهم أمرهم، وتفت في محصدات (1)
(1) المُحْصَدات: القوية الشديدة، وأصله في الجبال أذا أُحْكِم فَتْلُها.
عزائمهم، ولتستولى على الأمد (1) قبل أن نطيق نحن صدقًا أو عدلا فيما كتب علينا من هذا القتال المر.
أيريد أن يعلم من كتب هذا النداء أشياء قد غابت عنه؟ فليعلم أن يهود مصر يبذلون اليوم آلافًا مؤلفة من الأموال لشراء قطع متجاورات من الأرض في مشارف مصر، يدفعون فيها من المال ثلاثة أضعاف ثمنها أو أكثر. وليعلم هؤلاء أن يهود مصر قد فرغوا منذ عشر سنوات من الاستيلاء على تجارة الجملة كلها في أرض مصر. وليعلم هؤلاء أن هذه الفئة القليلة من يهود قد استطاعت في زمن الحرب أن تتغلغل في نواح كثيرة من أعمال لم يكن ليهود مصر بها عهد. وما من شيء من هذا كله إلا وهم يأتونه على هدى وبصيرة وتدبير محكم، ناظرين إلى شيء واحد، هو أن الدولة اليهودية سوف تكون في فلسطين، وأنهم يومئذ مطالبون بأشياء يؤدونها لدولتهم، وهي أشياء مفهومة معروفة، الغرض منها أن تخفق راية يهود على هذه البقعة من الأرض ممتدة من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
أيها الناس لا تستهينوا بأمر يهود! انظروا ماذا كان من أمرهم منذ عشرين سنة، ثم انظروا إلى خبرهم اليوم، من كان يظن أن لليهود شأنًا أو خطرًا في هذه الدنيا منذ عشرين سنة، إلا من هدى الله؟ ثم انظروا اليوم إلى هذه الفئة القليلة من سكان هذه الأرض كيف استطاعت أن تغلب على عقول الأمم والساسة، وأن تغطى على الحق وهو مشرق كعين الشمس، وأن تدفع أكبر دولة في الأرض وهي أمريكا إلى ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية، وأن تدلس على الرأي العالمى كله حقائق هذه الجريمة، وأن تشترى بأموالها القلوب والأمم والناس والأفراد. انظروا إلى هذا كله قبل أن تتكلموا، واتقوا غضب الله قبل أن تزل ألسنتكم بالوعظ المهلك لأنفسكم وأهليكم.
ألا تخافون أن تكون هذه القوة المدمرة التي ذكرتموها في ندائكم -قوة أصحاب الملايين- وسيلة لتسلط يهود يومًا ما على ساستكم ورجالكم وحكوماتكم، وأن تكون تهديدًا لكم ولأممكم بالمجاعات والاضطرابات
(1) الأَمَد: الغايَة والمقصد.
الاقتصادية والسياسية، وأن تكون أسلوبًا من أساليب تأليب الأمم عليكم في هذه المحنة حتى تعطوا المقادة ليهود وأنتم صاغرون؟ أيها الساسة لا تستهينوا، فمن استهان بعدوه فقد فرط، ومن استهان بعدوه فقد مكنه من مقاتله، ومن استهان بعدوه فقد منحه فرصة للفتك به.
واعلموا أنها الحرب بيننا وبين يهود. والحرب لا تلهو. وهذه الفئات التي تقيم في أوطان العرب من اليهود سوف تكون يومًا ما "طابورًا خامسًا"، بل هي اليوم كذلك. واعلموا أن اليهود قد مرنوا على أساليب التجسس وتحسس الأخبار في هذه الحرب، وأنهم كانوا أعوانا للأمم المقاتلة في حرب الأعصاب، وأنهم قوم مردوا على النفاق منذ قديم الآزال، فكيف تأمنون جانبهم، وتطالبون قومكم أن يأمنوا جانبهم؟
ثم أراكم تدعون يهود للتبرع بأموالها في سبيل قضية العرب، بل أن يبذلوا أموالهم لتقاتلوا بها أهلهم وعشيرتهم، فبئس الشيء تطلبون. إن أول ما في هذا الجهل بالطبيعة البشرية، ثم غاية الجهل بطيعة هذه الفئة من يهود التي ظلت أكثر من ألفي سنة تنطوى على نفسها، وتحافظ على روابطها، وتجعل دينها هو قوميتها ووطنها، لا وطن لها ولا قومية إلا اليهودية صرفًا خالصة لا تشوبها شائبة من محبة وطن له أرض وسماء، إلا أرض الميعاد -إلا فلسطين- إلا أرض إسرائيل من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
ثم ألا تخافون أن يتبرع لكم هؤلاء اليهود بآلاف من أموالهم أو أموالنا على الأصح، يخادعونكم بها ثم يهربون إلى قومهم الملايين، يعينون بها عليكم، ويكسبون بها غفلتكم عنهم وعن حركاتهم وأعمالهم ودسائسهم في قلب بلادكم؟
أيها الساسة اطلبوا سياسة أخرى غير هذه تكفيكم شر يهود. إننا لا نريد منهم مالا، ولا نريد منهم حبًّا للأوطان التي أظلتهم وحمتهم، ولا نريد منهم رجالا يقاتلون في صفوفنا، وإن ديننا لينهانا عن أن نقبل منهم شيئًا، اطلبوا أيها الناس سياسة أخرى تضمن لكم أن تعرفوا خبء يهود، وأن تصطنعوا من الأسباب ما يكفل لكم قطع أيديهم وألسنتهم عن التدسس والتجسس والمكيدة والغدر. لا تأمروا الناس بالفتك بهم، بل نحن العرب نحمى الذمار حتى عدونا نحمى ذماره، ولكن دبروا
أمركم وسنوا من القوانين ما ينهي يهود الأوطان العربية عن الغدر بهذه الأوطان التي حمتهم وهم مشردون مضطهدون قد مزقهم الناس كل ممزق.
إن العالم العربي اليوم قد استيقظ من غفوة طالت، وهو اليوم لا يسمع للساسة القدماء إلا كما يستمع المقاتل البطل إلى صيحات الجبان المذعور، فليعلم هؤلاء أنه أولى بهم أن يمنحوا الشباب من حكمتهم وتجاريبهم وعقلهم ما يهديهم ويقويهم، لا أن يعظوهم بالمواعظ التي تحفر تحت أقدامهم هوة مظلمة بعيدة القعر ليس يسمع في أرجائها إلا هماهم الموت وهو يدب والغًا في دم أو منشبًا مخالبه في فريسة. ارحموا الناس وارحموا أنفسكم أيها الرجال.