الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد عرضَ الأستاذ (المنجوري) في مقاله هذا إلى عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعدوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي، فتمزقت الجهرد المصرية في الإصلاح، واستبدَّت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات كلها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتى صار أكثر ما نرمي إليه غرضًا فرديًا لا قيمة له في البناء الاجتماعي، ومن هنا استبد المستبد وصارت السيطرة الفردية في كل أعمالنا هي المبدأ، فلم يقم بيننا التعاون على أساس صحيح، وكذلك تنازعت الشهوات أعمالنا فصار الآخر بأنانيته يريد هدم عمل الأول لينفرد بأحدوثته وَصِيته، كالذي رأيناه في الحكومات الكثيرة التي تعاقبت على الدولة المصرية فشرعت ووعدت وبدأت وسارت، ثم جاءت أختها من بعدها لتقف كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها وتقريراتها واقتراحاتها، تريد أن تخالف وأن تنشئ وأن توجد، ثم هكذا دواليك حتى غدت وعود الحكومات عند المصريين خاصة والشرقيين عامة إلى مثل التي يقول فيها كُثَيِّر عزَّة:
تَمَتَّعْ بها ما ساعفتك، ولا تكن
…
عليك شجى في الصدر حين تبينُ
وإن هي أعطتك الليان، فإنها
…
لآخرَ من خُلّانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
…
فليس لمَخْضُوبِ البَنَان يَمينُ
فهذه أمراض وأوبئة لا تزال تنتشر، ولابد من مكافحتها مكافحة صارمة بغير هوادة. فهل في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاح لنفسه وشهواته وأغراضه؟ هل تجد مصر أخيرًا طبيبها المغامر؟ ليتها تجد. . .
المنطلق
قرأت في العدد 341 من "الرسالة" أغنية -أو هكذا سمّاها صديقنا- بعنوان "الناى". قال الأستاذ بشر فارس: وهي على بحرين مختلفين رغبة في
تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه:"فاعلاتن مفاعلتن" مرتين وليكن اسمه "المنطلق" انتهى.
وصديقنا بشر شخصية جوالة في معاني الدعَة والرقة واللطف والظرف والابتسام والمرَح، وسائر هذه الكلمات الراقصة بألفاظها قبل معانيها. وهو كالبحر الذي زعم أنه اخترعه وسماه "المنطلق". . . فهو منطلق في كل أشياء الحياة بأحلام كأحلام الليل جميلة هادئة ساكنة. . . ولكن إذا فجأها النهار تطاردت له هاربة وقد تركت آثارها أخاديد نديّة كذكريات الحبيب الهاجر في قلب العاشق. . .
وهذا البحر "المنطلق" كما يسميه، قد أرسله على مثل هذه الأبيات:
"جَنِّبوا الناي عن أُذني
…
أُذُني زلزلتْ طَرَبا
مثلَ قلب تُحَدِّثهُ
…
سرَّه السرْدُ فاضطربَا"
وقد زعم "بشرٌ" أنه وضعه، ونحن نُسلِّم لبشر ما يقول، ولكن أصحاب العَروض هم أبدًا كبحورهم لا يهدأون، فقد زعموا أن الأخفش قد تدارك على الخليل بحرًا سموه "الشقيق" يزعمونه أخا "المتقارب"، وسموه المحدث والمخترع والخبب إلى غير ذلك وعُرف عندنا باسم "المتدارك" -أي الذي تداركه الأخفش على الخليل بن أحمد- وأصل تفاعيله عندهم:"فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن" مكررة، وله عروضان تامة ومجزوءة، فالعروض المجزوءة هي:"فاعلن، فاعلن، فاعلن" مكررة.
وهذه العروض المجزوءة من بحر المتدارك، هي زنةُ شعر بشر قد دخلها من رِقَّتِه ما جعلها تتأوّد عند قوافيها لتستريح؛ فالبحر ليس إذن "منطلقًا"، ولكنه "خليع المتدارك".
وسائر أبيات القصيدة في قوله مثلًا:
"أوتار الخاطر تغمزها
…
أَنَّاتُ الناي فترتجف"
هي أيضًا من عروض المتدارك التامة دخلها التشعيث والخبن كقول ابن حَمديس:
صادَتكَ مَهاةٌ لم تُصَدِ
…
فلواحظُها شركُ الأسَدِ
من توحى السِّحر بناظرة
…
لا تنفثُ منه في العُقد
هذا في مخترع "بشر" ولكن ما بال هذا الصديق يريد أن يزلزل أذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول، لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريدنا أن نشعر أن أذنك وحدها -دون سائرك- هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة.
كفي. . . كفي، فإني إذا نقدت "بشرًا" فلن أجد الراحة بعد، وإن كنت أظن أني لم أفهم الشعر كله جيدًا. . . فلعله شعر جديد، والجديد على من بدأ الشيب يغزوه يبليه ويخيفه فينتشر عليه فهمه فلا يفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .