المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وأيضا تهجم على التخطئة - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ١

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الرافعي

- ‌بين الرافعي والعقاد- 1

- ‌بين الرافعي والعقاد- 2

- ‌بين الرافعي والعقاد- 3

- ‌بين الرافعي والعقاد- 4

- ‌بين الرافعي والعقاد- 5

- ‌من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة ذات النطاقين

- ‌منهجي في هذا الباب

- ‌الإصلاح الاجتماعي

- ‌أبو العباس السفاح أمير المؤمنين

- ‌أسواق النخاسة

- ‌معهد الصحراء بيت الحكمة

- ‌الشباب والسياسة

- ‌المرأة والرجل

- ‌أبو العباس السفاح

- ‌التقليد

- ‌صورة النفس

- ‌أبو العباس السفاح

- ‌العيد

- ‌الحرب

- ‌العقل المصري

- ‌المنطلق

- ‌الغذاء العقلي والروحي للشباب

- ‌الدولة والثقافة

- ‌الأغنياء والفقراء

- ‌عناصر الثقافة المصرية

- ‌الفن

- ‌الفن الفرعوني

- ‌تمثال نهضة مصر

- ‌وبشر أيضًا

- ‌الهجرة

- ‌الشباب والأدب

- ‌ناقد يتكلم

- ‌هل يمكن

- ‌الرحلتان

- ‌جناية

- ‌الشعر والشعراء

- ‌شاعر

- ‌قصيدة الزلزال

- ‌إلى بعض القراء

- ‌ابن شُبرمة

- ‌من مذكرات ابن أبي رَبيعة الحقيقة المؤمنة

- ‌غُبَّرات لا غُبارات

- ‌العودة

- ‌كتب

- ‌المستشرقون

- ‌نشر الكتب العربية

- ‌رسالة الشافعي

- ‌الذخيرة

- ‌مباحثهم

- ‌العقاد

- ‌توطئة

- ‌الملاح التائه

- ‌والشعر أيضًا

- ‌ليالي الملاح التائه

- ‌الجندول

- ‌الرأي العام

- ‌التبشير

- ‌فقهاء بيزنطة

- ‌سياسة الإسلام

- ‌نقد

- ‌ التيارات الفكرية

- ‌القرن العشرون

- ‌الحرب

- ‌الحرية

- ‌الفن الفرعوني

- ‌مولده

- ‌أعيادنا

- ‌التعليم

- ‌تعليم العربية

- ‌مشروع

- ‌الأزهر

- ‌إصلاح الأزهر

- ‌المجمع المصري للثقافة العلمية

- ‌آلهة الكعبة

- ‌الأغنياء

- ‌نجوى الرافعي

- ‌ذكرى الرافعي

- ‌مصر المريضة

- ‌إلى أين. . .؟- 1

- ‌إلى أين. . .؟- 2

- ‌إلى أين. . .؟- 3

- ‌ويلك آمن

- ‌هذه هي الساعة

- ‌أخوك أم الذئب

- ‌يوم البعث

- ‌الحضارة المتبرجة

- ‌1 - اقتطف

- ‌2 - باريس

- ‌وزارة المعارف العمومية عُدْوان لطيف

- ‌إمتاع الأسماع

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة أيام حزينة

- ‌الطريق إلى الحق

- ‌أدباء

- ‌من مذكرات ابن أبي ربيعة جريرة ميعاد

- ‌الحرف اللاتيني والعربية

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

- ‌من وراء حجاب

- ‌تهجم على التخطئة "السلام عليكم

- ‌وأيضًا تهجم على التخطئة

- ‌هزْل

- ‌بين جيلَين

- ‌اسلمي يا مصر

- ‌بعض الذكرى

- ‌نافقَاء اليَربُوع

- ‌ساعة فاصلة

- ‌احذَرِي أَيتُها العَرَب

- ‌من اسْترعَى الذئب ظَلم

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد

- ‌مصر هي السودان

- ‌لا تدابَروا أيها الرجال

- ‌إنه جهاد لا سياسة

- ‌الخيانة العظمى

- ‌الجلاءُ الأعظَم

- ‌نحن العرب

- ‌الحكم العدل

- ‌هي الحرية

- ‌قضى الأمر

- ‌أسد إفريقية

- ‌شعب واحد، وقضية واحدة

- ‌هذه بلادنا

- ‌شهر النصر

- ‌في الماضي

- ‌عبر لمن يعتبر

- ‌اتقوا غضبة الشعب

- ‌مؤتمر المستضعفين

- ‌لا هَوَادة بعد اليوم

- ‌حديث الدولتين

- ‌بَلْبَلَة

- ‌لسان السياسة البريطانية

- ‌لبيك يا فلسطين

- ‌فلسطين: ثلاثة رجال

- ‌إياكم والمهادنة "ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإبْل

- ‌ويحكم هبُّوا

- ‌لا تَمَلُّوا

- ‌كلمة أخرى

- ‌الفتنة الكبرى

- ‌هذا زماننا

- ‌الحرية! الحرية

- ‌لمن أكتب

- ‌على حد منكب

- ‌ذو العقل يشقى

- ‌أعتذر إليكَ

- ‌كلمة تقال

- ‌فيم أكتب

- ‌أبصر طريقك

- ‌باطل مشرق

- ‌غرارة ملقاة

الفصل: ‌وأيضا تهجم على التخطئة

‌وأيضًا تهجم على التخطئة

!

إلى أخي البصام:

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فيخيل إليَّ -والله أعلم- أنك رجل واسع المعرفة، مغرًى بالتحصيل، دقيق البصر، تطلب الكلام وإسناده ووجهه ومكانه وضوابطه. وحسب طالب المعرفة أن يكون كمثلك.

وقد طلع عليَّ مقالك في الرسالة (1)، فما أدري والله من أي أمريك أعجب؟ من واسع معرفتك، أم من حسن تهديك إلى مواطن الشبهة في كلامي. أم لعلي أعجب من استجلابك للحجة بعد الحجة في تخطئة شيء كان الناس في غنى وراحة عن اضطرابهم بين صوابه وخطئه؟

ومختصر القول هو أنك تريد تقول إن الكتاب ينبغي أن يبدأ كما بدئ في بعض كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب أصحابه بقولك: "سلام عليك" فإذا كان الختام قيل: "والسلام عليك"، وأن من بدأ الكتاب بقوله:"السلام عليك" فقد أخطأ. أفهذا شيء من أدب الكتابة واتباع السُّنة وحسب. أم هو قاعدة توجب الاتباع نحوًا ولغة ورواية، فيكون من بدأ بقوله:"السلام عليك" معرفًا فقد أخطأ في حق النحو واللغة والرواية؟ وكلامك كله يدل على أن البدء بالسلام المعرَّف خطأ من قبل النحو واللغة والرواية. أليس كذلك؟

فإذا كان ذلك كذلك، فقد رويت لك قول صاحب اللسان في مادة (سلم):"ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذف عليكم"، وهذا ولا ريب قول اللغة والرواية والنحو فيما رواه لنا الرواة، في تحديد بدء السلام (الذي هو التحية). هذه واحدة.

ثم ذكرت لك قول الأخفش الذي رددته علي، وقلت إنه لا يعتدّ به (هكذا)، لأني لم أذكر مصدره الذي نقلتُ عنه، وفيه تصريح بيَّن كتصريح

(*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 664) 2 مارس 1946، ص: 333 - 336

(1)

العدد 662، مارس 1946، ص: 283 - 284.

ص: 288

صاحب اللسان، ثم زاد فأَظْهَرَنا على العلة فقال إن "سلام عليكم، حذفت منه الزيادة (وهي الألف واللام) كما يحذف الحرف الذي هو من أصل الكلمة في قولنا: (لم يك)، وعلة أخرى هي أنه لما كثر استعمال "السلام عليك" بالألف واللام حذفا لكثرة الاستعمال. وهذا تقرير يدل على أن اللغة والنحو والرواية تجعل الأصل في السلام المبدوء به هو التعريف.

بان شئت أن تعرف أين وقع هذا الكلام عن الأخفش فاطلبه في ص 152 ج 1 من كتاب تهذيب الأسماء واللغات للنووى وفي غيره أيضا. هذه ثانية.

فإذا شئت أن تزداد علما فخذ كتاب "المخصص" لابن سيده ج 12 ص 311 واقرأ قوله: "فأما قولهم: سلام عليك، فإنما استجازوا حذف الألف واللام منه، والابتداء به وهو نكرة، لأنه في معنى الدعاء، ففيه وإن رفعتَ معنى المنصوب". يريد كأنك تدعو فتقول: "سلاما". وقوله "استجازوا" دليل على أن الأصل هو التعريف بالألف واللام في ابتداء التحية، وأن الحذف ترخُّص منهم، وهو شبيه بقول الأخفش. هذه ثالثة.

فإن شئت أن تضرب الأمثال لنفسك بالشعر كما ضربتها لي، فأقرأ قول جرير في ديوانه ص 443 وفي النقائض ج 1 ص 212.

يا أمّ ناجِيةَ السَّلامُ عليْكُم

قبلَ الرواحِ وقبلَ لؤمِ العُذَّل

هذه رابعة.

وإن شئت أن تقرأ قول لبيد في الخزانة ج 1 ص 217 - 218 وفي ديوانه:

إلى الحَوْلِ ثم اسْمُ السلامِ عليكُما

ومن يبْكِ حوْلًا كاملًا فقد اعْتذَر

فافعل، تجد قولهم أن كلمة (اسم) مقحمة، وتقدير الكلام فيما يقول النحاة:"ثم السلام عليكما"، وتجد أيضًا في إحدى الروايات "إلى سنة ثم السلام عليكما". هذه سادسة (1).

فانظر لنفسك هل أخطأ كل هؤلاء وأصبت أنت؟

(1) كذا في الأصول، وحقها أن تكون: هذه خامسة.

ص: 289

واعلم مشكورًا أن المقام في هذا كله مقام ابتداء لا مقام ختام مسبوق بسلام منكر غير معرف.

وأما نص ابن قتيبة فهو كلام بين لا غموض فيه، فالرجل يقول لك:"تكتب في صدر الكتاب: سلام عليك، وفي آخره السلام عليك"، ولم يقل لك إنه "ينبغي"، ولا أن القاعدة "أن تكتب في صدر الكتاب كذا. . . ."، وهو إنما ذكر هذا في كتابه في (باب الهجاء) لا في باب أدب الكتابة كما ترى، ولم يأمر الرجل ولم ينه، ولم يقل لك إن من قال في أول كتابه "السلام عليك" معرفًا فقد أخطأ، كما شئت أنت تقوَّله. وأما ما ذكره من أمر التعريف، فإنه أراد أن يعلمك لِمَ عُرّف ثانيا وقد جاء منكرًا وهو أول، وكان حقه أن يأتي في الآخر منكرًا مرفوعًا كما جاء في الأول فقال لك:"لأن الشيء إذا بدئ بذكره كان نكرة، فإذا أعدته صار معرفة، وكذا كل شيء. تقول: مر بنا رجل، ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع، فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب، وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته أنه ذلك السلام المتقدم"، ويريد أن يقول إن التعريف هنا "للعهد لا للجنس". هذا كل ما في كلام الرجل لم يوجب شيئًا ولم يمنع شيئا.

وأما الآية التي في سورة مريم من قول عيسى عليه السلام {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ. . .} ، وما جاء من قول الزمخشري فيها: "قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله يعني في قول الله تعالى ليحيى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ. . .} فذلك تفسير من الزمخشري لمعنى (ال) في قول من قال إن التعريف هنا للعهد. وأبى الزمخشري أن يكون كذلك، لأن العهد ههنا باطل عنده، فالسلام المذكور في قصة يحيى كان من قول الله سبحانه قبل مولد عيسى، وهو آت في أول السورة في الآية (15)، ثم مضى بعدها [واذكر في الكتاب مريم] وذكر الله سبحانه قصتها، حتى أفضت إلى كلام عيسى وهو في المهد إذ قال:{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ. . .} في الآية (33) فبينَ السلام الأول والثاني (1) انقطاع في المدة (2) وانقطاع في السَّرْد (3) واختلاف في مُبتَدِئ السلام ومُلْقِيه، فالأول من الله والثاني من عيسى. هذا وسلام عيسى في الآية الثانية المعرف فيها السلام، ابتداء ولا ريب.

ص: 290

ومن أجل ذلك ذهب الزمخشري إلى أن التعريف ههنا للجنس لا للعهد (وهذا كما ترى يخالف كل المخالفة ما أراده ابن قتيبة في كلامه). ثم ذكر الزمخشري نكتة البلاغة في التعريف فقال إن تعريف الجنس هو الصحيح لا تعريف العهد "ليكون تعريضًا باللعنة على متهمي مريم وعلى أعدائها من اليهود". وهي عندي تعليل ضعيف جدًّا من الشيخ رضي الله عنه، وكان خليقًا به أن يصرف عنه وجهه. ولولا أنه كان مولعًا بنكت البلاغة لما وقع في مثل ما وقع فيه. وإن شئت أن تزداد فقها ومعرفة بما قلت فاقرأ تفسير الشهاب الخفاجي والألوسي والقونوي وأبا (1) حيان وكتاب الأنموذج للرازي وتدبر ما فيها كل التدبر.

وأما قوله في الآية الأخرى من سورة طه: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} إن معنى التعريف ههنا التعريض بحلول العذاب على من كذب وتولى، فهذا جيد وحسن لقوله تعالى في الآية التي فيها:{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . هذا أيضًا طلب لنكت البلاغة، وتبيان لأن التعريف ههنا للجنس. ولكن الزمخشري لم يقل لك، ولا غيره فيما أحسب يقول لك: إن تعريف الجنس ينبغي أبدًا أن يكون متضمنا معنى تعريض بشيء كالعذاب أو الويل أو الهلاك أو سوى ذلك كله.

ولو كان ذلك كذلك أيها الصديق لكان قصر تعريف الجنس على التعريض عجبًا من العجب المضحك، فانظر إلى قولك "سلام عليك" التي كان أصلها "سلامًا عليك" منصوبة بفعل محذوف، التي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى السلام واستقراره، مع بقائها في معنى الدعاء، فأنت إذا عرفتها تعريف الجنس فقلت "السلام عليك" اقتضت التعريض، فعندئذ تقول لي كما قلت:"وبديهي أيها الأستاذ أنك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضًا بأحد إذ لا حاجة إلى التعريض".

(1) كذا في الأصول، والصواب: أبي، إلا إذا كان أستاذنا رحمه الله أراد: واقرأ أبا حيان وكتابَ الأنموذج.

ص: 291

فخذ عندئذ أختها وهي قولهم "حمد لله" التي كان أصلها "حمدًا لله" منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى الحمد واستقراره، مع بقائها في معنى مِن معاني الشكر والدعاء. فإذا عرفتها تعريف الجنس فقلت:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أفيقتضي ذلك تعريضًا أو توبيخًا أو تهكمًا! ! ! ألا يكون هذا عندئذ عجبًا من العجب المضحك.

ومن أجل تعريف الجنس ما أتعب الزمخشري نفسه في آية مريم وفي آية طه. وفي سورة الفاتحة من تفسير قوله: "الحمد لله" فاقرأه هناك وتدبره كل التدبر.

وأما مسألة حديث التشهد فأراك جُرْت فيها على الحق. ولقد قلت في مقالك: "أما أهل القبلة فتشهدهم بعد الصلاة مختلف عليه، فمنهم من يقول (سلام عليك) ومنهم من يقول (السلام عليك) ". وقبل كل شيء، فتشهد أهل القبلة لا يكون "بعد الصلاة" وهو "من الصلاة" ومن تركه أو بدَّل فيه بطلت صلاته. هذه واحدة، وأما الثانية، فاختلاف أهل القبلة ليس يقال كما رويتَ، فالصحابة جميعًا والتابعون من بعدهم، وأئمة المذاهب من عرفت منهم ومن لم تعرف، مذهبهم تعريف السلام في التشهد كله إلا (ابن عباس) من الصحابة، والشافعي من أصحاب المذاهب، فإنه ارتضى تشهد ابن عباس وآثره لأنه عنده (هو) أتم الروايات وأكملها، ولكنه لم ينكر التعريف، ولا استنكره المزنيّ ولا سواه من أئمة مذهبه. فلو أنت عنيت نفسك فرجعت إلى شرح البخاري كابن حجر (ج 2 ص 261 وما بعدها) والعيني (ج 6 ص 109 وما بعدها) لعرفت أن الصحابة والتابعين مجمعون على روايته بالتعريف في التشهد جميعًا، ولرأيت أن أكثر الصحابة قالوا في حديث التشهد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، ولرأيت النووي وهو من أصحاب الشافعي يقول:"قوله السلام عليك أيها النبي، يجوز في السلام في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل". أبعد هذا يا سيدي تطالبني بأن أطلعك أنت "على نص يوثق به يشير إلى أنهم منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون في

ص: 292

التشهد: السلام عليك أيها النبي"! عسى ولعل، ولعل أهل القبلة أخطأوا جميعًا وأصبت أنت! بما أوتيت من التدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق! !

وأما إنكارك الحديث على ما خَيَّلَتْ (1) لك، وأنه مما لا يستشهد به أهل اللغة والنحو، واحتجاجك على ذلك بشيء اقتطعته من بحث في خزانة الأدب ج 1 ص 6، ولم تتمه على وجهه بالتدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق كدأبك وعلى عادتك، فهذا باب وحده لو ارتطمت فيه لم تعرف مخرجك منه. وما الذي ألجأك إلى هذا أيها العزيز؟ ألأني أتيتك بحديث المسند ج 4 ص 439 وفيه النص على أن المسلمين كانوا يبدأون التحية بقولهم "السلام عليك"؟

والحديث الصحيح الذي استخلصه رواتنا رضي الله عنهم، فنفوا عنه كذب الكاذبين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين حجة في اللغة والنحو، ولو زعم لك زاعم أنه لا يكون حجة في اللغة ولا في النحو فاعلم أنه مبطل، وأنه غافل لا يدري ما يقول. ولو رجعت إلى الخزانة التي نقلت عنها (وحسبك ولا أزيدك) علمت أن صاحبك نقل الذي نقلت لي في كلامك، وأنه رجل عالم طالبُ حق لا مغرور بباطل، فقد ذكر وجوه اعتراض المبطلين في الاحتجاج بالحديث ثم نقضها حجة حجة، وصرح بأن تدوين الأحاديث وضبطها وقع في الصدر الأول من الإسلام قبل أن تفسد اللغة وترتضخ الألسنة باللكنة الأعجمية، كما يعلم ذلك من درس تاريخ رواية الحديث وتدوينه حقّ دراسته، ثم صرح في آخر كلامه بأن لا فرق بين جميع روايات الحديث مهما اختلفت ألفاظها، في صحة الاستدلال بها في اللغة والنحو. وكنت حقيقًا أن تقرأ كلَّ هذا قراءة طالب العلم، فلا تسألني أن أغلق باب الاستشهاد بالحديث، من أجل كلمات رويتها لم تحسن وضعها في مواضعها.

وإلا فحدثني أيها العزيز لم ترى علماء اللغة، كصاحب اللسان، وابن الأثير، والزمخشري صاحبك وصاحب كتاب الفائق، وسواهم ممن عرفت ومن لم

(1) على ما خيَّلت: على غَرَر من غير يقين، وأصله مثل، وتمامه: على ما خيلت وَعْثُ القَصِيم.

ص: 293

تعرف -يملأون كتبهم استشهادًا بالحديث على معانٍ لم توجد في غير الحديث، ولو طلبت لها شاهدا من الشعر أو غيره لم تجد. فإما أن يكونوا هم المبطلين، وإما أن تكون أنت على حقٍ، فنبطل من أجلك نصف اللغة ونصف النحو وأشياء أخرى كثيرة.

ثم انظر إليَّ أيها الصديق! ألست أنت الذي تقول هذا، وتقول لي أيضًا في صدر من كلامك معلّما ومنبِّها ومقرعًا إنه "فاتني أن الحديث لا يستشهد به أهل اللغة والنحو". هو أنت أنت الذي لم يلبث في آخر كلامه أن يأتي بشيء يناقض هذا كل المناقضة، فنقلت كتاب رسول الله إلى المقوقس، وهو من الحديث ومما رواه المحدثون، وكتابه إلى كسرى، وهو من الحديث، وكتاب أبي بكر إلى المرتدين، وهو من رواية أهل الحديث، ثم أردفت ذلك بقولك:"ومعلوم أن هذه الكتب مُدَوّنةٌ ويستشهد بها اللغويون والنحاة"؟ ! يا عجبا كل العجب! فمن الذي روى لك هذه الكتب؟ أليسوا هم الذين رووا لك الحديث، وحديث التشهد، وحديث السلام في المسند؟ وأين دوَّنت هذه الكتب إلا في الكتب التي دوّن فيها الحديث؟ وما فرق ما بين تدوين الحديث وتدوين هذه الكتب؟

وإن كنت قد ارتضيت هذه "الكتب المدوَّنة" حجة يوثق بها، فخذ كتاب الزمخشريّ صاحبك، وهو المسمى بالفائق ج 2 ص 3، اقرأ فيه وفي غيره أيضًا:"من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد. السلام على من آمن بالله ورسوله. . . ." إلى آخر الكتاب، ولم يعترض الزمخشري أيضًا على هذا البدءِ، ولم يقل إنه خطأ في اللغة ولا في النحو.

ثم خذ صاحبك الطبري ج 3 ص 156 الذي نقلت منه كتاب رسول الله إلى المقوقس، وكتاب أبي بكر، وصاحبك "كتاب صبح الأعشى" ج 6 ص 465، الذي نقلت عنه كتاب الرسول إلى كسرى، ثم اقرأ هداك الله:"لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. . . ." إلى آخر الكتاب.

فهل قنعت أيها العزيز بما سقت إليك؟ وأمحضك النصح أن لا تتبع تلك

ص: 294

الناجمة التي نجمتْ بين أهل اللغة تريد أن تتبجح بالعلم والمعرفة والفقه، فتأتي صواب الناس ترميه بالخطأ على الشك والتوهم وسوء التأويل وفساد الفهم. واعلم أن العربية تعلَّم العقل، فمن شاء أن يطلبها بحقها فليصبر عليها صبر المؤمن. وأنت امرؤ فيك خير فلا تُضيع ما آتاك الله بالعجلة والتسرّع، فتثبت قبل أن تحكم. وتدبر قبل أن تقطع، واستقصِ قبل أن تستوثق، وانظر لنفسك قبل أن تزلّ بك قدمٌ. واعلم أن شرّ أخلاق الناس اللجاجة، وشر اللجاجة لجاجة العالِم، وشر لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلم أو فيما لا يحسنُ، وأن نصف العلم قولُ المرء فيما لا يدري: لست أدري. فالفهمَ الفَهْمَ فيما تلجلج في صدرك هداك الله وأعانك وسدّد خطاكَ. والسلام عليك ورحمة الله.

ص: 295