الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأغنياء
. . . .
كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي، فوقع في دنياي أمرٌ مُفْزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِي دهرًا من عمره ثم أبصر. فأخذتني الحيرة أخذًا شديدًا، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماءُ في مرجَله على معركةٍ من النار تشتعلُ من تحته وتتسعر، وتقاذفَتْنى الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ، وتنزَّى قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقْذوفة من علُ، وهاجَ هَيجى واضطربَ أمرِي وتغوَّلَتْنى الأفكارُ الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تَدْمَى أبدًا، فلا تحسمُ الدَّم، وانقلبتُ بِهَمِّى أدورُ في نفسي دَوْرة المجنون في دنيا عقله المريض المشعَّث. وهكذا قَضَّيتُ ليلَ أيامى، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ.
ودعوتُ ربي جاهدًا، وكنت من قبل أدعوهُ، إنه هو البرُّ الرحيم. . . .، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعَيْنَىَّ غِلَالةً من سرابٍ تخفِقُ عليها وتميدُ وتتريّعُ، وإذا الأرضُ غيرُ الأرضِ والناس غيرُ الناسِ، وإذا كل شئ يجئُ ويذهبُ، ويبينُ ويَخفي. . . .، وفقدتْ الأشياءُ معانيها في نفسي، فما أرى إلا بؤسًا وخَصاصة وجوعًا وعُرْيًا، وإذا كلُّ شيء بائسٌ فقيرٌ جائعٌ عارٍ لا يستره شيءٌ. . . . اللهم إني فوضتُ أمري إليك وألجأتُ ظَهرى إليك. . . . ومضيتُ أنسابُ في أيامِي البائِسَة، حتى إذا كان الليلُ في أَوَّلِهِ مُذ أمس، أويتُ إلى بيت كتبي آخذُ كتابًا لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ. فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضَّجر واليأسِ، وغاظني ما غلبنى على عقلي وإرادتي، فأهويتُ بيدى إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه، وإذا هو:"إِغاثة الأمة، بكشف الغُمَّة، للمقريزي". وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ، فما أجوز منه حرفًا أولَ إلا وجدتُ الألفاظَ تتهاوى في نفسي وفي عقلي، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةً
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد: 357)، 1940، ص: 777 - 778
ودويًّا وهدًّا شديدًا شديدًا، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة.
وإذا بحر يموجُ لعيني أسمعُ هديرَه وزئيره وزمجرة أَمواجِه في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدَّم يَفُورُ ويتوثَّبُ، وإذا صرخةٌ تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي:"قم إلى صلاتك، فقد أظلك الفجر! ! ". فانتبهت فزعًا وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر:"ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ولده مشويًّا ومطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها. . . . فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت"(*).
أين يعيش أحدُنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يخيَّل إليَّ أني قضيت ثماني ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلِّبها لعيني فتتقلَّب معانيها في نفسي، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكارًا تتَّسع وتتراحب وتتداعى وتتوالد ويَنْسَخ بعضها بعضًا. ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر، وما تحدثت به النفس من حديث أَكَلَ ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر، لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن. . . .
لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أَكْل ولَدِها الذي والدَتْه؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة
(*) كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" هو تاريخ المجاعات التي كانت بمصر، وقد طبع بلجنة التأليف والترجمة والنشر منذ أسابيع. وهذا الذي نقلناه من تاريخ المجاعة التي كانت بمصر في الدولة الأيوبية سنة 596 فقيل فيها:"سنة سبع افترست أسباب الحياة"(شاكر).
دائمًا هما مِثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان؟ أليس الناس جميعًا -غنيُّهم وفقيرُهم- سواء في هذه الحياة؟ بَلَى، ولكن. . . .
ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض، وفي الحياة الدنيا، ألا وإن المالَ عِصامُ هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يُقضى من أعاجيبها عجب، ألَا وإنه لَلنِّظَام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة، إذ يكون هو كل شيء، ثم هو ليس بشيء على الحقيقة، وإذ يكون في وَهْم الفقير القلق سِرّ السعادة، ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة. ألا إنه العجب والفتنة، إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض، ومع ذلك فهو إذا مَلأَ الغَني أفرغه من إنسانيته، وإذا فرَغَ الفقير منه امتلأَ إنسانية ورحمة وحنانًا، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمى بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فسادًا لا صلاح له.
"أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت! " و"أكثر ما يفعل ذلك النساء! " إنه ليس عجيبًا ولكنه مؤلم، إنه ليس بعيدًا ولكنه مفزع، إنه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء والغنى والترف والرفاهية، ولكنها الحقيقة الضارية المتوحشة التي انطلقت من قيودها حين أزَمتها الحاجة والقحط والجوع ونداء المعدة التي تتلوّى أمعاؤها كما تتلوى الحية الجائعة على شهواتها المتجسدة في فريستها. ليس هذا هو كل شيء، وليس القحط وحده هو الذي يُضَرِّى عبيد المال فيأكلون بنيهم وبناتهم أكل الوحش الطاغي بطغيان حيوانيته التي تريد البقاءَ لنفسها، ثم لا تعرف غير نفسها، ولا تعبد إلا نفسها. إن كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء -إلا من رحم ربك- وحشًا آكلا طاغيًا مستأثرًا لا يرى إلا نفسه ولا يريد البقاء إلا لنفسه. فإذا وقع القحط بين صديقين أحدهما غنى كان صديقه طعامًا تفترسه الصداقة الغنية! وإذا وقع القحط بين حبيبين أحدهما ثرىٌّ مترف تثاءب عنه يريد النوم لأنه شبع من حبه حتى تملّأ! وإذا وقع القحط بين أخوين أحدهما غنى، كان حق الرحم عليه أن يشرب ما بقي من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَرْوَي!
إن الترف والنعمة والكفاية، وأحلام الغنى وكنوز الثراء، إن هي إلا الماحقات الآكلات التي تمحق العواطف الإنسانية النبيلة حين لا ملجأ إلا إلى الخشونة والشدة والصبر وحقيقة الفقر. إن الفقراء هم أكثر الناس رغبة في النسل على ضيق رزقهم، والأغنياء أقل الناس إقبالًا عليه على ما يجدون من السعة. الفقراء أشد حزنًا على من فقدوا من أبنائهم وأحبابهم، ولكن أولئك لا يحزنون إلا ريث يشعرون الناس أنهم حزنوا، ولئلا يقول الناس إنهم لم يحزنوا على أحبابهم. . . الأغنياء، الأغنياء. . . نعم هم زينة الحياة الدنيا، ولكن مع الزينة الخداع، ومع الخداع الضعف، ومع الضعف القسوة حين تجد ما يتلين لها أو يتساهل أو يستكين. . . أو يثق.
فمن صادق غنيًا فليحذر، ومن آخى ثريًا فليتحصن، ومن عامله فليرهب، فإذا بلغ المرأة الغنية فأحبها فخيلت له أنها أحبته فوثق بها فقد هلك، وإنما هو ملهاة من ملاهي الترف، إذا فقدت لذة اللهو به نبذته لما به.