الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هي الحرية
قالوا في قديم الأمثال: "ليس المتعلق كالمتأنق"، فالرجز الذي أنعم الله عليه بسعة العيش، وأرخَى باله من هموم الحياة، مطيق أن يتأنى فيما يختار لنفسه متذوقًا ومتخففًا حتَّى يرضى، أما الَّذي قَدَر الله عليه رزقه فهو كالسهم في الوتر المشدود ترمي به يد الحاجة إلى هدف يتخايل له أو يتحقق، وهو لو أراد لما أطاق إلا الَّذي فعل لأنه مدفوع بالاضطرار. ورب سارق لم يجد من السرقة بُدًّا لأنه دفع إليها بحاجة طبيعية لا يطيق أحد خلافها، وهو التعلق بالحياة والإبقاء على النفس، فهو يريد أن يطعم الغريزة التي تلهب أحشاءه بالجوع المهلك. ومهما تكن روادع نفسه، ومهما تكن قوتها، فهو منتهٍ إلى ساعة لا يجد عندها إلا أن يمد يده ليأخذ شيئًا يمسك عليه رمقًا يوشك أن يتبدد. وما مد الرجل يده، ولكن الحياة هي التي مدتها، فهو خليق أن لا يكون عندئذ مسئولا عما فعل. وكذلك الشأن في أحداث كثيرة تكون في هذه الحياة الدنيا وفي هذا الناس، فإن المجتمع الإنساني يعنف بأبنائه أحيانًا ويعتسف بهم أضل المجاهل، لأنه لا يبالي بأن يكفل لأبنائه جميعًا حاجتهم التي لا غنى لأحد منهم عنها، ولأنه يغفل في فورانه عن الطبائع الأولى التي تتطلب زادها من الحياة، والتي إذا فقدت هذا الزاد لم تبق على شيء، ولم تَرْعَ شيئًا، ولم تَرْعَوِ عن شيء. وهذا ضلال قديم في نظام المجتمع الإنساني، أراده الأنبياء بالإصلاح، وأراده عقلاء المفكرين بالتغيير، فأدركوا شيئًا ووقف بهم العجز عن كثير، لا من عجز في هدايتهم أو آرائهم، بل من عجز المجتمع عن أن يدرك سمو الأغراض التي رمى إليها الأنبياء والمفكرون.
وفي عصرنا هذا أمثال كثيرة على تغلغل الفساد والجهل والعسف وقلة المبالاة
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 724)، مايو 1947، ص: 552 - 554
في قلب المجتمع الإنساني. أمثال يكون فيها الأفراد هدفًا منصوبًا لاضطهاد جماعة الأمة أو الشعب، وأمثال تكون فيها الأمة هدفًا لاضطهاد جماعة الدول أو الشعوب.
فليس في الأمم اليوم أمة لا تتداعى وشادى باسم الحرية: حرية الفرد، وحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية التجارة إلى آخر هذا الحشد من الحريات، فهي بذلك تقرر جميعًا أن الحرية أكبر أغراضها، وهذا طبيعي، لأن الحرية هي إحدى الطبائع المستقرة في الإنسان الفرد، وهو يطلبها طلبًا حثيثًا ملحًّا، حتَّى ولو اضطر أن يستعبد نفسه لعمل يكدح في سبيله طول حياته، ولكن غايته من هذا الكدح هي أن يتحرر من الكدح وهذا إحدى عجائب الطبيعة البشرية.
نعم إن الحرية غاية الفرد التي يسعى إليها وهو وحيد في مشاعره وفي بعض وجوده، ولكنه إذا صار فردًا من جماعة كان للجماعة سلطان على هذه الحرية وتصرفها، وهو شيء من حقها أيضًا. ولكنها إذا أرادت أن تتعسف وتحرمه حريته فقد أساءت من حيث أرادت الإحسان، ولا تكون الجماعة رشيدة حتَّى تعرف أن الحرية حاجة طبيعية لابد للفرد من الاستمتاع بها على وجه من الوجوه، فلابد إذن من أن تتيح أوسع ما يمكن من مجال تتصرف فيه الحرية على الأسلوب الَّذي يجعلها وافية بحاجته الطبيعية. ومن هنا يأتي الفرق بين نظام ونظام، فيكون هذا بغيضًا مملولا، وذاك محببًا مألوفًا.
والأمم اليوم في جماعة الدول بمنزلة الأفراد في الجماعة، فلابد للنظام الَّذي يريد أن يكون محببًا مألوفًا من أن يتيح للأمم جميعًا أوفر قسط من الحرية يتيح لها أن تتصرف على الأسلوب الَّذي يجعل الحرية وافية بحاجتها الطبيعية، فإذا لم تفعل ذلك جماعة الدول انتقضت الأمم المسلوبة حريتها ورأت ذلك النظام بغيضًا مملولا، وكرهته وكرهت أهله، وصارت حربًا على الجور والعسف حتَّى تنال حريتها وتستمتع بها طبقا لحاجتها الطبيعية. ومن أجل ذلك فيما زعموا، أنشأوا هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية.
ولكن ماذا نرى من فعل جماعة الدول اليوم؟ إنها جميعًا قد أنكرت بأسلوب
يجمع بين الخسة والمكر والنفاق، أن تكون فلسطين المضطهدة أمة عربية مستقلة حرة كما تشاء الفطرة الإنسانية، وأرادوها أن تكون يهودية تفتح أبوابها لأنذال أمم الأرض، فهم يتدسسون إليها من كل حدب ومن كل فج، وهم يزمعون أن يغزوها بأجساد يهودية تتساقط من الطائرات على أرضها، وأرادوها أن تظل ساكنة هادئة مطيعة حتَّى تمتلئ جنباتها بالأنذال الذين يريدون أن يحولوها عن عربيتها إلى يهوديتهم.
وهذه الأمم التي كانت، ولا تزال تتداعى وتتنادى باسم الحرية، تسمع وتبصر، فيسكت بعضها ويمالئ بعضها، ويعاضد بعضها، وتأذن جميعها للصهيونية الخبيثة أن تزرع بذورها الخبيثة في الأرض الطيبة. فإذا قامت العرب تناديهم باسم الحرية حاوروها وداوروها وتنذلوا معها بكل أساليب الخسة والخداع والنفاق، لأنهم يريدون أن لا تكون الحرية حقًا لهؤلاء العرب، ويريدون أن تكون يهود عونًا لهم على سلب هذه الحرية من العرب، ولن يبلغوا بإذن الله ما يريدون.
ثم هذه مصر والسودان ظلت أكثر من خمس وستين سنة وهي تتفزع من ثقل النير المضروب عليها، فلما جاءت الساعة التي لا تطيق معها صبرًا على ضروب الذل والهوان التي لقيتها من احتلال جيوش بريطانيا، ومن احتلال شذاذ الآفاق الذين نزلوا أرضها فرتعوا في نواحيها كما يرتع السوس في الصوف في الصيف، كما يقولون، ولما جاءت الساعة وطلبت الفطرة الإنسانية في مصر حاجتها من الحرية التامة التي تتنادى بها تلك الأمم، لاذت تلك الأمم بالصمت ولجأت إلى الخداع وتلفعت بالنفاق، ويوشك أن تنكر على مصر والسودان حقوقهما في هذه الحرية العامة التي ينبغي أن تستمتع بها البشرية كلها أممًا وأفرادًا.
بل أعجب من ذلك أنها لجأت إلى أدنأ الأساليب يوم أرادت تفريق كلمة المصريين بأن يوقعوا الشقاق بين أهل دينين ظلا أجيالا يتعاشر أهلهما بالمعروف. فلما سقط في أيديهم وأخفق سعيهم وحبطت أعمالهم، انحازوا إلى أسلوب آخر هو تسليط جماعة من المرتزقة يقال لهم المراسلون الصحفيون، يذيعون عنا كل خبيث بكل لسان لا يرعون حرمة ولا ذمه ولا عهدًا. وحرضوا أيضًا أعوانهم من
الأجانب الذين عاشوا في مصر طويلا أو قليلا، ليجلسوا في المجالس ويذيعوا أن بلادنا وبلاد العرب جميعًا تسيء اليوم إلى الأجانب. ويعنون بذلك أنَّه منذ جلا الإنجليز عن جزء من مصر، صار المصريون وحوشًا مفترسة تعتدى على الأجانب وتهينهم وتزدريهم قولا وفعلا. وكل ذلك يتناقله المراسلون الصحفيون من المرتزقة، ويرسلونه ليذاع في الصحف في جنبات الأرض. ونحن نعلم علم اليقين أن هذا ليس من فعل المرتزقة أنفسهم، بل هو من حث بعض الدول وإغرائها لهم بأن يقولوا هذا ويذيعوه ويتناقلوه بينهم وبين من يلقون.
هذا، والأجانب أنفسهم قد عاشوا في مصر مع بريطانيا خمسًا وستين سنة، وهم يمتهنون المصريين ويسيئون إليهم في أنفسهم وأموالهم وأرضهم وعقائدهم، حتَّى ألفوا هذا النوع من الغطرسة، فلما جئنا اليوم نأباها عليهم كما تأباها بريطانيا وأمريكا وكل بلد قل شأنه أو ارتفع، تصاخبوا علينا، وراحوا يبسطون ألسنتهم وأفعالهم فينا وفي أخلاقنا وعاداتنا، فإذا أراد أحدنا أن يكفكف من شر أحدهم، انطلق يزداد صخبًا وجلبة يستصرخ الدنيا كلها على هؤلاء المتوحشين الذين يسمون المصريين. ومع ذلك فمصر منذ عشر سنوات هي مصر اليوم لم يزد ما كان يلقاه الأجانب أمس فيها من رد وقاحتهم وجرأتهم علينا، على الَّذي يلقونه اليوم من ذلك، ولكنهم سمعوا ألسنة هؤلاء المرتزقة تذيع عنا الأباطيل، فانطلقوا يتصايحون علينا كأننا صادرنا أموالهم وأجليناهم عن بيوتهم، ونصبنا لهم المشانق، وأعملنا فيهم استئصال الشأفة كما كان يفعل طاغية ألمانيا باليهود! !
ثم تأتي المرتزقة من المراسلين فتزعم أن بلادنا قد أصبحت متطرفة في الحماسة للحرية، وأن كلمة "مصر للمصريين" قد أصبحت أهم كلمة في مصر، ويقوم صعلوك منهم يقول:"ولذلك لا يعجب المرء كثيرًا حينما يراهم (يعني المصريين) قد ضلوا الطريق! ولكننا نعجب حينما نتساءل: إلى متى سوف يستمرون في اندفاعهم الَّذي لا يكبح جماحه من أجل الحرية؟ ".
ونحن نأسف لأن الشعب المصري لا يزال هادئًا صابرًا على كل هذه الوقاحة
التي يصبهَا علينا مرتزق بين ظهرانينا، ونأسف لأن حكومتنا المصرية لا تزال هادئة صابرة، بل مجاملة أشد المجاملة لهذا النوع من المرتزقة. وكان خليقًا بأية حكومة في الدنيا -لا حكومة مصر- أن تعرف أولئك الذين أذاعوا أنباء غير صحيحة في طائفة من المسائل التي تتعلق بمصر، وأن تقول لهم إنكم كذبتم، فإما أن تكفوا عن إذاعة هذه الأكاذيب، وإما أن تغادروا بلادي. ثم ترفع كل الأدلة التي تفضح كذب هؤلاء الكذابين من المرتزقة إلى حكوماتهم، وأن تبرئ ذمتها من دخيل لا يرعى أدبًا ولا خلقًا، ولا يعرف قدره ولا أقدار الناس!
إننا نطلب الحرية وسننالها، وسنكون أحرارًا في بلادنا نسوسها بالسياسة التي نرتضيها لأنفسنا. ونحن لن نرضى لأنفسنا إلا الإنصاف، ننصف أنفسنا، وننصف من يعاشرنا من الأجانب. ولكن إذا ظن الأجانب أن هذا الإنصاف الَّذي لهم ينبغي أن يكون على ما تعودوه منذ خمس وستين سنة، من امتهان المصريين ومن الغطرسة عليهم، ومن بقائهم طبقة واحدة ترى أنها أنبل منا، وأشرف منا، وأحسن عقلا منا، وأولى بثروتنا منا، وأحرى بالامتياز من كل مصري يعيش على أرض مصر -فيومئذ سوف ننصفهم أيضًا، ولكن بما نرضى به نحن غضبوا أو رضوا، وضجوا أو سكتوا.
أما الدول التي تتنادى باسم الحرية، والتي تنكر على مصر والسودان، وعلى فلسطين، وعلى العراق، وعلى بلاد المغرب كلها -أن تكون أممًا حرة، فلتفعل ما تشاء، لأن هذه العرب لن تهادن إلَّا مَن يهادنها ولن تجامل إلا من يجاملها، ولن تعاون إلا من يعاونها، ولن تمد يدها إلا إلى من يمد لها يدًا نقية من الغدر والفتك والنفاق.
الحرية حق طبيعي، فنحن بالغوه ومدركوه شاءت الأمم أم أبت. والقوة الدافعة إلى طلب الحرية غريزة فطرية، فنحن خاضعون لها حتَّى تحقق غايتها شاءت هذه الأمم أم أبت. والإنصاف طبيعة فينا، فنحن سننصف أنفسنا وننصف من يعاشرنا، رضى بذلك من رضى وكرهه من كره. وهذا كله شيء ليس لنا فيه خيار، لأننا كدنا نموت ونريد أن نحيا. ونحن نتعلق في حياتنا هذه كالجائع
المشرف على الهلاك حين يتعلق بكسرة خبز ورشفة ماء، هي الحرية، وأما هم فيريدون أن يتأنقوا ويتنبلوا ويتفاصحوا باسم الحرية التي يريدون بها حريتهم هم مقرونة بالاعتداء على سواهم من الشعوب المتعلقة بالحرية أمثالنا نحن.
وسوف يأتي على الناس يوم وتظهر العرب، وتعلم هذه الأمم كيف تكون الحرية، ثم تقودها إلى هذه الحرية مرغمة كما يُقاد الجمل.