الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويحكم هبُّوا
!
أيتها العرب!
أيها المسلمون!
إنكم لا تُغْلَبون اليوم عن قلة، ولئن كتب الله عليكم أن تُغْلَبوا فإنما تغلبون بإثم ما اقترفت نفوسكم، وما اجترحت أيديكم، وما فرطت عقولكم، وما نسيت قلوبكم، وما أضعتم من حق تؤدونه لأنفسكم وأسلافكم وذريتكم، ووالله ما أراكم تغلبون عن جهالة، فقد وهبكم الله عقولا راجحة، ونفوسًا حرة، وعزائم قد أذلت لكم أعناق الأمم منذ كان لكم في الأرض شأن يذكر.
وإن الله مبتليكم بمحنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، بل هي محنة لعامتكم وخاصتكم في نواحي الأرض، فإن أحكمتم الرأي وصدقتم العزم، وعرفتم عدوكم من صديقكم -ولا أرى لكم في هذه الدنيا صديقًا- فقد آن لكم أن تنهجوا للبشرية منهجًا مستقيما وصراطًا سويًّا. فلا تقولوا إنما نحن ضعفاء، فالضعيف من ظن في نفسه الضعف وان كان أقوى الأقوياء، ولا تقولوا إنما نحن جهلاء، فالجاهل من استهزأ بالعلم وتهاون في طلبه وإن كان أعلم العلماء، ولا تقولوا إنما نحن فقراء، فالفقير من جهل أن الله قد آتاه العزم والجلد والعقل، وإن كان أغنى الأغنياء. فاصدقوا أنفسكم وثقوا بالله الذي امتحنكم بهذه المحنة، فإنه ناصركم على عدوكم، ومخرج لكم من خبء أنفسكم خيرًا كثيرًا قد غاب عنكم وعن الناس دهرًا طويلا. وإياكم والخوف، فإنه الآفَةُ الملتهمة، وما استشعر الخوف عزيز إلا ذَلَّ، ولا قَوِىٌّ إلا خار، ولا أَبِىٌّ إلا تضرع لكل خسف يراد به.
انظروا! فهذه فلسطين قد اجتمعت الأمم على أن تمكن فيها لأنذال يهود مكانًا يتبوأه طغاة المال وطواغيت الفجور وأبالسة الشر، وقد أخذوا يمدونهم بالمال والسلاح ليقهروكم وتكون لهم الكبرياء في هذه الأرض.
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 757)، يناير 1948، ص: 21 - 23
وانظروا! فهذه دولة الباكستان قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عباد البُدِّ (1)(بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء والأطفال، ويهتكون أعراض الحرائر، ويدخلون على المصلين في مساجدهم فيضعون السيوف في رقابهم والخناجر في ظهورهم، ويغتالون الآلاف من الآمنين، والدنيا كلها تسمع وتبصر، فلا تجد فيهم منكرًا ولا مستبشعًا ولا معترضًا على ضراوة عباد البُدّ.
وانظروا! فهذه أندونيسيا تُجْمِع هيئة الأمم المتحدة على تركها فريسة للطغاة البغاة من شرذمة الخلق الذين يسمون بالهولنديين. ويزعمون لكم أن مجلس الأمن قد أمر بوقف القتال، فإذا هولندة تضرب صفحًا عن حكم هذا المجلس، وتوغل في تقتيل هؤلاء المساكين بالنذالة المعهودة في المستعمرين الذين لا يفرقون شيئًا بين هؤلاء البشر وحيوان الغاب، بل لعلهم بحيوان الغاب أرحم، وعليه أحرص، إبقاء على جلده أو فروه مما يرتفقون (2) به في صناعة أو تجارة.
وانظروا! هذه بلاد المغرب من حدود مصر إلى أطراف المغرب الأقصى قد ضربت عليها فرنسا بالأسداد، وحمت عنها كل بارقة من خير، وسامت أهلها عذاب التقتيل والاضطهاد، وسلبتهم كل قوة تتيح لهؤلاء الأبطال الصناديد أن يعيشوا في بلادهم عيشة الكفاف، وشردت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحق المغصوب، وأراغت (3) أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلا ملحقًا بالجمهورية الفرنسية.
وانظروا فهذه مصر والسودان قد فغر لها الوحش البريطاني فاهُ يريد أن يقضم السودان قضمة واحدة ليجعله قطعة من أوغندة وجنوب إفريقية، ويدع مصر ترعة إن شاء منع عنها الماء حتى يقتل أهلها جوعًا وظمأ، وقد قضى في ديارنا أكثر من خمس وستين سنة حتى هدم كيانها. وسلط عليها لصوص الأجانب واليهود،
(1) البُدُّ: الصَّنَم.
(2)
يَرْتفِقُون: يَنْتَفِعُون.
(3)
أراغت: طلبت.
حتى ما تكاد تجد مصر حيلة في سن القوانين التي تحمي بلادها من استبداد اللص الطارئ بصاحب البلد المقيم.
انظروا لكل بلد تنطق فيه العربية، أو يذكر فيها اسم الله مقرونًا باسم محمد صلى الله عليه وسلم، تروا حربًا تشن على أهل العربية والإسلام بلا هوادة، وبأوقح الأساليب وأخفاها:
أيتها العرب! أيها المسلمون!
إنها الحرب. إنها المذابح! إنها الحالقة (1) التي أجمعت أمم أوربة وأمريكا أن تستأصل بها قوتكم وتجعلكم عبيدًا أذلاء في أرض الله. إنها الفتن المظلمة التي أطبقت عليكم من كل مكان، فجعلت فيكم رجالا ونساء وخلقًا كثيرًا صاروا عدوًّا لأنفسهم وبلادهم وإخوانهم، جهلا وعنادًا وتقليدًا وسوء رأي.
إنه لم يبتل قوم في تاريخ هذه الدنيا بمثل ما ابتليتم به، فقد مضت القرون وأنتم في غفلة عن عدو قد استفحل أمره واستوت قوته واستمر مريره (2)، فدخل عليكم بلادكم فاستعبدكم فيها وحاربكم بعلمه وجهلكم، وقوته وضعفكم، واجتماع كلمته وتخاذلكم، فلما أفقتم من الغفوات الطويلة لم تجدوا في أيديكم مالًا ولا سلاحًا ولا علمًا، فليس لكم منذ اليوم إلا الشيء الذي هو أقوى من المال والسلاح والعلم: الإيمان بحقكم، والصبر على لأواء هذه الحرب الضروس. فآمنوا واصبروا، فإن قوة الإيمان وحدها تدمر حصون البغى، وتدفعكم إلى طلب المال والسلاح والعلم، وتطهر قلوبكم من كل ضعف، ولا تأسوا على قتيل في هذه الحرب، فإن كل دم يراق من دمائكم إنما هو غيث تغاثون به يغسل عنكم أدرانكم، ويسقى ثرى جف، فينبت لكم أبطال الوغى وصناديد القتال في كل ميدان من ميادين هذه الحرب.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
اطلبوا المال من وجوهه، ودبروا أمركم في حياتكم، فإن المال قوة غاشمة
(1) الحالقة: المُهْلِكة.
(2)
استمر مريره: استحكمت قوته، وأصله من إمرار الحَبْل، وهو فَتْلُه فتلا محكما.
تضارع أقوى قوي الطبيعة التي لا يقف دونها شيء. واطلبوا السلاح من حيث استطعتم، فإن السلاح ناصر من لا ناصر له إلّا قوته فأنشئوا المصانع والمعامل وأخفوا أمركم حتى لا يطلع عليه العدو الذي يعيش بين ظهرانيكم من الأجانب واليهود. واطلبوا العلم حيث استطعتم، فالعلم حياة ابن آدم، لا حياة له بدونه، وهو عون المال والسلاح والحافظ عليهما والقائم بأمرهما. وكل طالب علم فهو مجاهد في سبيل الله وفي سبيل أهله وبلاده، فلا تفتروا عن طلبه. وليعلم كل طالب عِلْم أو مال أو سلاح أنه إنما يفعل ذلك لأمرين: أولهما تحقيق معني الكرامة الإنسانية، والآخر تحقيق الحرية لبلاده وأمته.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لست أكتب لكم لتقرأوا، ولكني أنذر قومى في ساعة لا ينبغي للمرء فيها إلا أن يصدق أهله. أنذركم بعداوة الأمم لكم ولمجدكم وتاريخكم، فرببوا لهم أضغانكم وغذوها وحوطوها ونشئوا صغاركم على بغض هذه الأمم التي حشدت لكم عصبية الجاهلية، وعصبية الصليبية، وعصبية الاستعمار، وعصبية الألوان. أرضعوا كل مولود لبان الأضغان والأحقاد على هؤلاء الطغاة، وأمروهم أن يعيشوا في هذه الأرض لشيء واحد هو أن يقاتلوا أهل البغى والعصبية حتى تستأصلوا هذه الشأفة الخبيثة من أرض الله التي أورثهم إياها قائمين بالقسط والعدل والرحمة وإيتاء كل ذي حق حقه. وإنه لا ينجيكم من هذه البلية إلا أن تتمرسوا بصدق العداوة، فهي التي توقظ فيكم كل عزيمة غافلة، وتهديكم إلى مواطن الضعف في نفوسكم، وإلى مكامن الغدر في نفوس أعدائكم، ومن جهل مواطن الضعف في نفسه كان خليقًا أن يصاب منها، ومن عمى عن مكامن الغدر في نفس عدوه كان قمينًا أن يرتكس (1) في مهاويها. لقد فضح الصبح أعداءكم وأضاء لكم عن خبايا قلوبهم، فلا يكن أمركم عليكم غمة، فأنتم بيبن اثنتين: إما المكاشفة بالعداوة السافرة في غير مداورة أو سياسة، وإما أنْ ترضوا لأنفسكم أن تصيروا
(1) يرتكس: يَرْتَدّ.
طعمة لهذه الأمم الباغية على الشرذمة اللئيمة من إسرائيل. وما أظنكم ترتضون الثانية فليس لكم إلا الأولى.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لقد انقضت دهور وأنتم تساقون إلى قدر لا يعلم غيبه إلا الله، فاستبد بكم قوم أولى ضرار وبأس شديد، فأفسدوا قلوب جمهرة من أبنائكم وذراريكم، فنشأت تحت ظلال هؤلاء الطغاة ناشئة من أنفسكم تعاظم أمرها، وصار لها فيكم مكانة تتبوأها. وكل ذي مكانة أو سلطان أو ثروة فهو ملئ بأن يخدع الجماهير وهم أسرع إلى طاعته ومتابعته فيما يخدعهم به، فاحرصوا على ألَّا تتبعوا الرجال على أسمائها بل اتبعوا الهدى وإن جاءكم على يد المحتاج الراغب، وتبينوا المدلس عليكم من الناصح لكم. ولا تقولوا هؤلاء سادتنا وكبراؤنا، فما أضل البشر إلا سادتهم وكبراؤهم. ولا تترددوا إن رأيتم معوجًّا أن تقوموه مهما بلغ من الشأن، فإن تقويمكم إياه أبقى له وأجدى عليه. ولا تخروا على آراء السادة والكبراء صُما وعميانًا، بل اسمعوا نبضات القلوب، فرب لسان ينطق بالخير وهو ينبض بما فيه فسادكم وفساد أمر بلادكم. وأبصروا وتبصروا، فإنه لا يعطى المقادة إلا السائمة التي تقودها عصا الراعي لا العقل والإدراك. احملوا سادتكم وكبراءكم على وضح الصراط، فكل ضال منهم سوف يضل خلقًا منكم كثيرًا ويورده موارد الهلاك.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
إنها ساعة في تاريخكم ليس بعدها إلا النصر أو الهزيمة، وكل امرئ منكم يحمل تبعة لا يسقطها عنه عذر، ولا يعذره في أداء حقها شيء. وأنتم أربعمائة مليون نسمة لا عصابة قليلة في الأرض، فإن كنتم صفًّا واحدًا وبنيانًا مرصوصًا، فاعلموا أنه لن يغلبكم شيء، ولن تهد هذا البنيان قوة مهما بلغت على ظهر هذه الأرض، فتماسكوا وتقاربوا وتعاونوا، ولا تدعوا ثغرة يدخل منها عليكم عدوكم لينقض هذا البنيان الذي بناه آباؤكم وأسلافكم في آلاف السنين، وأنتم الأعلون إن شاء الله، وليهود الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لا تهابوا أهل العصبية الصليبية في أمريكا وأوربة، ولا تثقوا بأحد منهم، ولا تهادنوهم في حقكم، ولا تناصروهم كما ناصرتموهم من قبل فغدروا بكم وتألبوا عليكم وامتهنوكم وقابلوا حقكم بالازدراء، والتحقير في هيئة الأمم المتحدة، وأنكروا كل يد أسديتموها إليهم، ومزقوا أوطانكم، وسلطوا عليكم فواجر أممهم، وأرادوا أن يدمروا أوطانكم، وأن ينشئوا لجراثيم اليهود وكرًا خبيثًا في الأرض المقدسة في سرارة (1) بلادكم. فإن فعلتم فيومئذ يعلم هؤلاء الأخباث والأشرار أن العرب وأهل الإسلام وأهل دين المسيح في الشرق، كلهم على قلب رجل واحد يريدون أن يقيموا في هذه الأرض شريعة الإنسان العادل لا شريعة الوحش الضاري في ظلمات الأدغال والغابات.
يا ساسة العرب!
إياكم وخداع الناس، ولا تخادعوا ربكم الرقيب عليكم، فيوشك أن يحل عليكم غضب من ربكم ثم غضب الناس عليكم، ولا تبيعوا تاريخكم وتاريخ آبائكم وذريتكم بعرض زائل ومجد مزيف، واعلموا أن قومكم قد ثاروا من مضاجعهم ليطلبوا حقهم بحد السيف، فلا تكونوا مخذلين ولا واعظين ولا متهاونين. واعلموا أنها الحرب! شذاذ الأمم وصعاليك اليهود بين ظهرانيكم، والبغاة الطغاة عن أيمانكم وعن شمائلكم يلتمسون الفرصة ليمحقوا العرب والمسلمين ويطحنوهم طحنًا.
فهبوا جميعًا إلى الجهاد فمن نجا فقد فاز بالنصر وبرضوان الله عليه، ومن قتل فقد فاز بالشهادة وجنة الخلد والذكر الذي لا يفنى. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
(1) سَرارَة الشيء: أكرمه وخياره.