الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لسان السياسة البريطانية
دعت السفارة المصرية في لندن إلى مأدبة عشاء تكريمًا لأعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، في يوم الخميس 6 نوفمبر سنة 1947، وكان من المدعوين السير ستافورد كريبس وزير التجارة البريطانية، فقام السير ستافورد وألقى على الحاضرين خطبة من أخطر الخطب التي تناولت شئون مصر السياسية والتجارية، وقد نشرت الصحف البريطانية هذه الخطبة في الصدر، وترجمتها أكثر الصحف العربية، ومع ذلك فلم أجد أحدًا علق عليها بما ينبغي أن يقال في تفسيرها وتأويل مراميها.
كان من أول مرامى السير ستافورد أن يبين بأجلى بيان أن "التعاون الثقافي" و"التعاون التجاري" بين مصر وبريطانيا كفيلان بأن ينتهيا على مر الأيام إلى حل النزاع السياسي الناشب بين الدولتين، وهو يرجو أن ينسأ الله في أجله حتى يرى هذا الحل الموفق بين المتنازعين. وقال إن هذا النزاع بين مصر وبريطانيا ليس سوى "خلاف" يسير في تاريخ طويل حافل بعلاقات المودة، وبالذكريات الجميلة بين البلدين فيما يعتقد. وزعم أنه على يقين من أن الصلات التجارية والروابط الثقافية إذا هي سارت على نهج موافق ينفي عنها كل ما يزعج أو يثير الخواطر، فإنه سوف يعيش بإذن الله حتى يرى حلا موفقًا مرضيًا يفض ذلك الخلاف السياسي اليسير، ويومئذ تخرج الدولتان منه وقد أصبحت الصلات التي بينهما أقوى، وأصبحت المودة أصدق، وأصبحت النفوس أسلم. وزعم أيضًا أن هذا الضرب من الصلات والروابط سيظل هو الغالب بين الأمتين على كل خلاف سياسي. ثم امتلأت جوانب هذه الخطبة بإشارات خفية إلى أسلوب بريطانيا في الاستبداد التجاري الذي اعتصرت به الحياة من أمم كثيرة غير مصر والسودان،
(*) السياسة، السنة الخامسة عشرة (العدد 750)، نوفمبر 1947، ص: 1258 - 1260
وإلى التهديد الملثم بأن بريطانيا مضطرة إلى تحطيم هذا التعاون إذا أصرت مصر على إنفاذ قانون الشركات الذي أصدرته منذ عهد قريب، ثم لم ينس السير ستافورد كريبس الوزير البريطاني عادة قومه في المن الخبيث البغيض المتلفع بالعواطف الإنسانية النبيلة، فزعم أن عطف بريطانيا على مصر في محنة الكوليرا كان مبعثه العطف الإنساني البالغ والرثاء العميق، لا الدافع السياسي أو الحافز التجاري. وفي الخطبة كثير من أمثال هذه التلفيقات العجيبة.
زعم السير ستافورد أن الروابط الثقافية والتجارية كفيلة بحل ما سماه "خلافًا" سياسيًّا، وهو يرمي بهذا إلى تحقير هذا "الخلاف السياسي" الطارئ، لأن تاريخ العلاقات البريطانية المصرية فيما يدعى حافل بعلاقات المودة وبالذكريات الجميلة! ! فهل سمعت أذن بأغرب من هذه الدعوى؟ إن أجمل الذكريات بيننا وبين بريطانيا هو احتلالها أرض مصر والسودان أكثر من خمس وستين سنة، وسعيها الحثيث في فصم عُرَى مصر والسودان فصما لا مجاملة فيه ولا هوادة. إن هذا الخطيب السياسي يعلم أنه يلقى خطبته في دار السفارة المصرية التي دعت لتكريم أعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، ولكنه يتجاهل هذا ويستهين بالمنزلة السياسية التي ينبغي أن تكفل لدار السفارة المصرية، فيقف ليحط من قدر النزاع السياسي بين مصر والسودان وبريطانيا، ويسميه "خلافًا يسيرًا"، كأن حرية شعب واستقلال أمة ليس شيئًا يقام له وزن بإزاء ما يسميه العلاقات التجارية والروابط الثقافية؟ ونحن نعجب لِمَ سكت رجَال السفارة عن رد هذا التحقير للهدف الأعظم الذي أراقت مصر والسودان في سبيله ما أراقت من دماء، وجادت في سبيله بالأموال والأرواح والأبناء، وصبرت في الجهاد من أجله على مُرّ الحياة وبَأْسائها صبرًا طويلا كله آلام وتباريح؟
إن كل حرف في خطبة السير ستافورد كان كأنه يقهقه ساخرًا من هذا الشعب الذي يريد أن يعيش حرًّا في بلاده، فكيف فات من سمع هذه الخطبة من المصريين أن يقف ليعلم السير ستافورد أن النزاع السياسي بيننا وبين بريطانيا هو الحياة وهو الحرية، وهو الهدف الذي لن تلفتنا عنه مودة نشأت من رابطة ثقافية أو علاقة تجارية؟
ثم ماذا يعني السير ستافورد بقوله إن العلاقات التجارية والروابط الثقافية كفيلة بحل هذا النزاع السياسي؟ إنها كلمة يلقيها وهو يقدّر كل ما وراءها من سياسة بريطانيا في إذلال شعوب الأرض التي وقعت تحت سلطانها الجائر. فعلاقة بريطانيا التجارية بالبلاد الضعيفة هي أن تجعل رؤوس الأموال مستثمرة في البلاد في يد فئة من الخونة أو فئة من الأجانب، وبذلك تضمن لتجارتها ميدانًا هي صاحبة الكلمة الأولى فيه وتضمن أن يكون لهذه الفئة من الخونة أو الأجانب السيادة التامة على الشعب المستذل البائس الفقير الجاهل، وتضمن أن لا تقوم لهذا الشعب قائمة ما دامت هذه الفئة هي صاحبة القوة المدمرة في الحياة، وهي قوة المال، وتضمن أيضًا ناسًا من هؤلاء الخونة وهؤلاء الأجانب يقولون للبلد الفقير الجاهل البائس الذي سُلب قوة المال: لم لا تفعل أنت مثل الذي نفعل؟ وهم يعلمون أنه غير مطيق أن يفعل، لأن قيادة أخطبوط القوة المالية في أيديهم هم لا في يد الشعب المسكين. وليس في الدنيا شيء هو أوضح من هذه السياسة اللئيمة، فإن مصر والسودان كادت في بحر سنوات معدودة أن تكون أقوى دولة على شاطئ البحرين الأبيض والأحمر، وأعظم دولة في إفريقية، وذلك في عهد محمد علي، وأدخلت من ضروب الإصلاح والتدبير في مجتمعها وفي سياستها وفي صناعتها وزراعتها، ما لا غناء في ترديده الآن، فأبت بريطانيا أن ترى دولة قوية تنازعها سيادة الشرق الأوسط، كله، فألبت عليها الدول حتى حطمت أسطولها في نفارين، ثم تخونتها من أطرافها حتى انكمشت في أضيق رقعة، ثم انتهت إلى احتلال مصر والسودان مرة واحدة في سنة 1882. ومنذ ذلك اليوم وبريطانيا تدعي أنها جاءت لإصلاح أمرنا، فإذا هذا الإصلاح قاصر على أن تطلق يد الخونة والأجانب في مال مصر وثرواتها، وأن تحرم الشعب المصري من كل خير، وتضطهده وتقاتله بأخبث الأسلحة، ثم تتركه جائعًا عاريًا جاهلا لا يطيق أن يدفع عن نفسه. فأي خير جنيناه من هذه العلاقات التجارية بيننا وبين بريطانيا إلا الذل القاتل والإذلال المهين؟
وما الذي فعلته بريطانيا منذ سنة 1882 لهذا اليوم؟ إنها لم تأل جهدًا في
فتح باب الهجرة للأفاقين واللصوص والمجرمين من كل جنس وملة، وأطلقتهم على هذا البلد الأمين يعيثون في أرجائه فسادًا، وحمتهم بامتيازاتها وامتيازات الدول، ويسرت لهم أن يعيشوا عيشة البذخ والرفاهية إلى يوم الناس هذا. وقد ذكر السير ستافورد أن مصر كانت في زمن هذه الحرب الأخيرة "تستمتع برخاء غير طبيعي في عدة وجوه، على حين كانت بريطانيا على النقيض تمامًا، فقد كانت مجبرة على الإتفاق عن سعة في الخارج خلال فترة الحرب، لحماية نفسها وحماية الديمقراطية في العالم"، وهو يعلم أحسن العلم أن هذا الرخاء لم تعرفه مصر ولا المصريون، ولا السودان ولا السودانيون، بل عرفته الجاليات من الأجانب الذين عاشوا في مصر أو الذين وفدوا على مصر. وهو يعلم أحسن العلم أن الذين تسميهم بعض الصحف تندرًا بأغنياء الحرب، وترمز إليهم برجل مصري يلبس لباسًا محدثًا عليه، ليسوا سوى فئة قليلة إذا قيست بالآلاف المؤلفة من الأجانب الذين عقدوا الأموال وجمعوها وصاروا شيئًا بعد أن لم يكونوا إلا حضيضًا موطوءًا، وأنا أعرف مئات من هؤلاء الأجانب كانوا يعيشون قبل الحرب عيشة الكفاف بل عيشة الصعاليك، فإذا كلهم قد أصبحوا من الثروة والعزة بحيث إذا رأيت أحدهم ظننت أنه قوة إلهية تمشي على الأرض المصرية لتستذل هذا الشعب المصري، وكأنها لم توجد ولم تخلق إلا لهذا وحده. وبقى الشعب المصري أسوأ حالا مما كان فيما قبل سنة 1882، فما الذي فعلته بريطانيا؟ وما دعواها في إصلاح هذه البلاد؟
وهذا كله بين لكل مصري، وهو أشد بيانًا ووضوحًا في عيني السير ستافورد كريس، ومغالطته قى الحقائق التي يعلمها لا هدف لها إلا أن تدل على أنه سياسي بريطاني حقًّا؟ !
ثم ما هذه الروابط الثقافية التي يرجو أو يزعم أو يحقق السير ستافورد أنها كفيلة بأن تغطي هذا النزاع بين الدولتين: بين الدولة المتغطرسة المستبدة التي تحتل بلادنا، وبين الشعب المسكين الذي ظل خمسًا وستين سنة يجاهد في نيل استقلاله والتمتع بحرية الدولة المستقلة؟ لقد أغنانا السير ستافورد عن طلب الدليل
بأن ذكر عدد الطلاب الذين أكرمت بريطانيا وفادتهم في هذه السنة ففتحت لهم أبواب جامعاتها. ولسنا ندري كيف يرجو السير ستافورد أن يكون هؤلاء الطلبة الذين درسوا في بريطانيا عاملا في حل النزاع السياسي بين مصر وبريطانيا؟ ولكنا نعلم يقينًا أنه ما من شاب نعرفه ذهب إلى بريطانيا وعاد إلى مصر وهو مصري القلب واللسان إلا وهو مظلوم مضطهد في هوة من هوى النسيان، وأنه ما من شاب نعرفه منهم عاد إلى مصر وهو يبرأ منها بلسانه وقلبه وجوارحه إلا كفلته بريطانيا ومهدت له حتى يتبوأ المنزلة التي تنبغى لمثله. ونحن لا نحب أن نسمى أحدًا باسمه، ولكني أعرف أن آلافًا غيري يعرفون أحسن مما أعرف، وعندهم من خبر ذلك أوثق مما عندي. أفهذا هو التعاون الثقافي الذي رمى إليه السير ستافورد؟
لا ريب في أن هذا هو التعاون الثقافي الذي يعنيه، وهو لا يلقى بالا كثيرًا إلى شيء غيره من ضروب التعاون الثقافي لنشر العلم والمعرفة. بل إن بريطانيا نفسها لم تعن منذ دخلت مصر والسودان إلا بهذا الضرب وحده، وما أظن أحدًا يجهل ما كان من أمر البريطانيين يوم دخلوا مصر فمزقوا مدارسها، وعملوا عمل الحريص على نزع كل شيء يفضي إلى تعليم الشعب المصري من يد المصريين، وأصروا على أن يأتوا بداهية من دهاتهم هو دنلوب، ليضع برامج التعليم المصري. فكانت العاقبة أننا بقينا إلى هذا اليوم نرتطم في الأوحال التي قذفنا بها دنلوب، ونعيى عن إصلاح التعليم بعد الذي ابتلى به، وبعد تلك الفئة من الرجال الذين أنشأتهم الثقافة البريطانية وأنشأهم دنلوب على ما يريد وأعطتهم بريطانيا مقاليد التحكم في وزارة المعارف المصرية.
ولم يقف الأمر عند شأن التعليم بعدئذ، بل سار على هذا النهج في كل عمل في الوزارات المصرية، منذ كان وزير الاحتلال مصطفى فهمي باشا إلى هذا اليوم إلا من عصم الله. ومع ذلك فالفساد الذي لحق الإدارة المصرية كلها من جراء هذا الضرب من التعاون الثقافي، قد تغلغل وضرب بجذوره في كل شيء حتى في الاجتماع المصري. وكل هذا بين لا خفاء فيه. ولنا عودة إليه إن شاء الله.
ثم إن تعجب فاعجب لهذا الغضب الرقيق والعقاب الحلو الذي جرى على لسان السير ستافورد كريبس من جراء "تهور" الحكومة المصرية في سن قانون الشركات. إن هذا القانون لا يكاد يعد شيئًا إذا قيس بقوانين الشركات وغير الشركات في بريطانيا نفسها ثم في سائر بلاد العالم، ولكن السير ستافورد يغضب هذا الغضب الرقيق ويعاتبنا هذا العتاب الحلو، لأن هذا القانون ينال شيئًا قليلا من الأجانب الذين يعيشون في مصر. وكيف لا يعاتب ولا يغضب علينا، والأجانب هم الناس، وهم مصر، وهم أصحاب المصالح الحقيقية كما كانت تقول بريطانيا قديمًا.
إن الذي يريده السير ستافورد، أو الذي تريده بريطانيا، شيء واضح هو أنه لا يحل للشعب المصري أن يفكر ساعة واحدة في أن يسن في بلاده قانونًا يقيد حرية الأجانب أو يحد من ضراوتهم وفجورهم، وإلا فعلى هذا الشعب المصري أن يحتمل تبعة هذه الجرأة وهذه الوقاحة التي تدفعه إلى الحد من سلطان سادته وأصحاب الكلمة العليا في بلاده. ولذلك رأينا الصحف البريطانية تغمز وتلمز أيضًا حين صدر قانون إقامة الأجانب في مصر، مع أن مثل هذا القانون في بريطانيا نفسها يجعل الأجنبي يعيش في أرضها وعليه مَلَكانِ يكتبان كل شيء حتى ما توسوس به نفسه. ولكننا لا نستطيع أن نسن في بلادنا قانونًا كقانونهم وإلا فإننا متعصبون يضطهدون الأجانب، وهذا التعصب كفيل بأن يقضى على كل نهضة في بلادنا، وكفيل بأن يزعزع ثقة الأمم فينا، وكفيل بأن يمنع عنا مدد بريطانيا الصالحة التقية الورعة! !
إن هذه الخطبة التي ألقاها السير ستافورد كريبس هي خلاصة موجزة لأسلوب بريطانيا في إذلال الشعوب، وإذلال شعب مصر خاصة، فعسى أن لا يفوت الحكومة المصرية أن توغل في شرحها وتتحسس سائر مراميها، لكي تعرف أن ساعة الجد قد دنت، وأنه ليس بيننا وبين بريطانيا إلا العداوة المكشوفة، وأن علينا أن نعمل رضيت بريطانيا أو أبت، وعلينا أن نصابرها وأن نحتمل الضنك والبأساء في سبيل إنقاذ مصر والسودان من براثن هذا الوحش الضاري.