الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مولده
سَكن الكون وأصغى، وتعبَّأت كل القوى الأبدية لحشدها، وَعَبَّ التيَّار الإلهيُّ الذي يَمُوج به الكون، وسعت الملائكة بالبشرى بين خوافق السماء والأرض، وتهلَّلتْ أجيال النبوّة بأفراح خاتمها الذي أتمَّ الله به نعمته على الناس، وسَرَتْ في الكائنات أسرار الحياة الجديدة فاهتزَّت وربتْ واستشرفت إلى النور الخالد الذي ينبع من أُفق الإنسانية العالى البعيد، ووسوست رمال الصحراء بتسبيحة الحمد لله، تستقبل الأقدام التي تطؤها النورَ الذي سيمشي أوَّلَ ما يمشي على حَصْبائها، ثم يمشي بأصحابه في أرجاء الأرض يحييها بعد موت، ويطهرها بعد دَنَس.
سكن الكون وأصغى، وسكنت نأمةُ (1) الشياطين في مخارمها ومهاويها وآفاقها، (2) وخضعت وساوس إبليس بالرُّعب والفزع، وثبتت في مسارِبها جائلاتُ الجِبْت والطاغوت، وتحيَّرت في مستقرِّها أباطيلُ الأوثان وأوهام الألوهة المزيفة على الناس.
ثم اهتز الكون كله بالفرح، فتداعت أبنية الأجيال الوثنية الباطلة، ثم أخذت تتداعى تحت الأشعة النبوية التي نشرت على الدنيا نورها بالحق والعدل والتوحيد والسلام. . .
سكن الكون وأصغى، ثم اهتز بنوره وتطهر، صلى الله عليه وسلم. والسلام عليك يا رسول الله، سلامًا من كل قلب، وفي كل زمن، والحمد لله الذي أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
أعيادنا
أعياد الأمم هي الأيام التي تستعلن فيها خصائص الشعوب وذخائرها
(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد 355)، 1940، ص: 701 - 703
(1)
النأمة: الصوت الضعيف الخفيّ.
(2)
المخارم: جمع مخرم، وهو منقطع أنف الجبل.
وخلائقها الأدبية والعقلية والنفسية والسياسية. هي الأيام المبتهجة التي تنبض بالحياة وأسبابها في الأمة، لتدل على السر الحيوي الساري في أعصاب الحياة العملية اليومية المتتابعة على نظام من الجد لا يكاد يختلف.
واحتفال الشعب بأعياده أمر ضروري لإعطائه المثل الأعلى وإمداده بالروح التي تدفعه إلى مجده، أو إلى المحافظة عليه. فهو من ناحيتيه يظهر ما في الشعب من خصائصه ومحامده وعيوبه، ويبقى على المثل الأعلى بالتجديد والبهجة والزينة.
فأعياد الأجانب الأوربيين مثلًا تكشف عن قوتهم واعتدادهم بأنفسهم، وتعشقهم لجمال الحياة الدنيا إدمانًا وإغراقًا، وعن جعلهم المجاملة أصلًا أخلاقيًّا في أنفسهم وأهليهم، وعن غرورهم واستهتارهم واستهانتهم بأكثر الفضائل الإنسانية حين تجري في دمائهم عربدة الطغيان الإنساني المتوحش الذي يرتد إلى الغرائز الحيوانية المستأثرة باللذة، المجردة من الورع والتقوى.
وأعيادنا نحن تهتك الحجاب عن ضعفنا وذلتنا، واستكانتنا لما نشعر به من الضعف والذلة، وتبين عن ذهول الشعب عن نفسه وعن تاريخه، وعن مجده، وتعلقه بتُرَّهات الحياة، وقلة مبالاته بجمالها، وانصرافه عن معرفة الأحزان الخالدة في طبقاته بخلود الفقر والجهل والبلادة.
فهل يزدلف (1) إلينا ذلك اليوم الذي تتمثل فيه أعياد الشعب الإسلامي صورةَ السيطرة والسيادة والقوة، وتتبدَّى عليه أفراح الحياة الراضية المؤمنة المطمئنة، وتعود إليه الأخوة الإسلامية التي ساوت بين الناس غنيهم وفقيرهم وعالمهم وجاهلهم، وجعلتهم سواء لا فضل لأحد على أحد إلا بالخلق والتقوى؟ هل يأتي ذلك اليوم السعيد الذي يجعل أعيادنا صورة من مدنية دين الله التي تبدأ بالرحمة والحنان والتعاطف، وتنتهي بالعمل والجد والصبر والتعاون؟ يومئذ تكون السيادة العليا للمدنية المستقبلة، مدنية الحرية التي لا تشتهي أن تَفْجُر، والعلم الذي لا ينبغي أن يكفر.
(1) يزدلف: يقترب، وأصله المشْي البطيء إلى غاية الشيء.