الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو كالشرح على عنوان المقالة. ولكني رأيت الأستاذ ينظر في آثار أدبية لأستاذين جليلين هما: أحمد أمين وطه حسين، وشرع يتكلم عن بعض آثارهما. تكلم عن مقال "في فيض الخاطر" هو:(صديق). فإذا كل الذي قاله وصف يمكن أن يقع على كل كلام، فيقول:"سترى كيف حطم الأستاذ هذا الصديق، فرده إلى عوامله الأولية؟ وقد تقاصرت جمله متجاوبة كأنها ذرات مادية نتجت عن هذا التحليل". . . والنتيجة! والنتيجة أن الأستاذ أحمد أمين أو أسلوبه أسلوب تحليلي، وفيه قوة مخيفة! والأستاذ طموح متقلقل في شتى السبل، لأنه كتب عن الشمس وعن الليل، يستقرى ما يجوب في ظلام الليل، وما تغدقه الشمس؛ ولا يصف جمالها أو وحشته! وهكذا، ولا أدري كيف أستخرج شيئًا من كل الذي كتبه يدل على الذي أراده مما نقلناه آنفًا؟ ولا كيف عمل هو في الوصول إلى هذه الأحكام التي دمغ بها الآثار الأدبية وأصحابها؟ ولا كيف كان عمله في التحليل النفسي الذي أحس به إحساسًا باطنيًّا! !
إنه لابد لمن يتناول مثل هذا الموضوع أن يفصل القول، فلا يجمله، لأنه بلا شك موضوع جليل، والكلام فيه سلوك في مجهل غامض يحمل على الإبانة والإيضاح، وإلا كان الكلام فيه على هذا تقصيرًا لا ينفع، ويكون أنفع منه أن يترجم لنا الأستاذ كلام النقاد الأوربيين الذين مارسوا هذا العمل وأفرغوا له أوقاتهم واستوعبوا الأصول التي يُسَار عليها في معالجته، وكذلك تتم خدمته للأدب والأدباء. . .
أبو العباس السفاح
(1)
كنت أحب أن أستوعب في هذا التعليق كل الرأي الذي عرض لي في أمر أبي العباس السفاح أمير المؤمنين، ولكني رأيته قد خرج عن أن يكون من مادة هذا الباب، فلذلك اقتصرت على أشياء أرجو أن تعين الأستاذ العبادي في تحقيقه الذي بدأه، وعسى أن يكون في هذا القول بعض الصواب الذي يسعى إليه.
(1) انظر أول الحديث عنه ص 56.
فمن ذلك أن أبا العباس السفاح، وأبا جعغر المنصور أَخَوان وليا الخلافة العباسية لأول أمرها، وكان أبو العباس أصغر من المنصور بعشر سنين، وأن اسم أبي العباس وأبي جعفر في نسبهما هو "عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس"، فأبو العباس هو "عبد الله الأصغر"، وأبو جعفر هو "عبد الله الأكبر". فإذا كان ذلك كذلك، وأبو جعفر قد لقب بالمنصور وأن الذي لقبه بذلك أبوه فيما نعلم، فلا غَرْو أن يكون أبو العباس كذلك ملقبًا، وأن يكون أبوه قد لقبه كما لقب أخاه.
وإذا كان أبو العباس "عبد الله" هو الأصغر فالتلقيب هو أولى به للتفريق بينه وبين أخيه أبي جعفر "عبد الله" وهو الأكبر الذي ولد أولًا وسمى "عبد الله" من قبله، ويؤكد أمر هذا التلقيب سيرورته بعد في خلفاء بني العباس جميعًا إلى انقضاء دولتهم، فكأنه كان من "تقاليدهم" وتعاليمهم.
وأيضًا فإنه قد وردَ في الحديث عن أبي سعيد الخُدْري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له (السفاح) يكون عطاؤه للمال حَثْيًا"، وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، وإنما هو نبوءة كبقية النبوءات التي وردتْ في القرآن الكريم والحديث النبوي لا يدرى تأويلها إلا أن تكون. . .، ولكن الدعوة العباسية فيما يظهر قد جمعتْ بين هذا الحديث وأحاديث أُخر هي من باب النبوءات أيضًا وجعلت منها حديثًا اتخذته في الدعوة إلى إقامة الخلافة في بني العباس، فكانوا يروون للناس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"والله لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لأدال الله من بنى أمية، ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي"، وهم الخلفاء العباسيون الثلاثة على التتابع. ولا شك في أن هذا كان قبل قيام الدعوة بالفتح بزمن طويل. فلعل الإمام "محمد بن علي" قد لقَّب ولديه بهذين اللقبين تفرقة بينهما، وتفاؤلًا بالذي يروون في أحاديث الدعوة العباسية.
وإذا كان ذلك كذلك فمعنى اللقب إذن ليس من "سفح الدم" -وهو بهذا المعنى مجاز مقصورٌ لغرض بعينه- لكنه من الكرم والعطاء والبذل كما ورد في الحديث الذي سقناه آنفًا من أن "عطاء السفاح للمال حثْيًا" لأنه لا يصح في
العقل أن يلقب أحد ولده بهذه المذمة القبيحة وهو ينصبه للناس خليفة، وقد لقب أخوه من قبل بالمنصور. نعم قد سمت العرب في جاهليتها بالأسماء المنكرة، ولكن الإسلام جاء فحسم ذلك كله، ولم يبق من التلقيب والتسمية بالمنكر من الألفاظ شيء في أكثر البادية العربية، فكيف في الحضر ثم في أعظم بيوت الحضر، وهو بيت العباس؟ وقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة فهو قد غير أسماء كثير من الوافدين عليه من أصحابه "كزحم بن معبد" فسماه بشيرًا، وجميلة امرأة عمر بن الخطاب وكان اسمها "عاصية" وخلق كثير.
وعلى هذا الأصل نرى أن الناس في صدر الإسلام سموا "السفاح" فمنهم: السفاح بن مطر الشيباني، وهو ممن ولد في النصف الثاني من المائة الأولى للهجرة وكان من أصحاب الحديث، والسفاح أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن الزبيدي لأمه وهو من التابعين، وقد روى عن أبي هريرة وغيرهما. ولا شك أن التسمية هنا منصرفة إلى المدح لا إلى الذم، فصفة أبي العباس السفاح هي إلى العطاء والكرم كما ذهب الأستاذ العبادي أولًا، ثم رجع حين تعقبه الأستاذ أحمد أمين.
أما النص الذي نقله الأستاذ عن اليعقوبي من أنه قال: عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح"، وهو عمّ أبي العباس والمنصور، فإن أصله منقول من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد علي بن عبد الله بن عباس فقال: "عبد الله بن علي الأكبر. . . وعبد الله بن علي الأصغر السفاح الذي خرج بالشام"، فهذا هو الأصل ولا يرى فيه إرادة التلقيب كالذي يرى من نص اليعقوبي، وإنما هي صفة كالسفاك والقتال. نعم، وأنا لا أدري كيف ادعى الأستاذ العبادي أنه اشتهر بذلك فانتقلت هذه الصفة إلى أبي العباس أمير المؤمنين، فإن الطبري وأئمة المؤرخين قد ذكروا عبد الله بن علي عم أبي العباس وأبي جعفر في أكثر من خمسين موضعًا ولم يلقبه أحدهم بهذا اللقب، فكيف يمكن أن ندعي أنه اشتهر به حتى كان من جراء هذه الشهرة أن اختلط على الناس وعلى الأدباء وعلى فلان وفلان كالجاحظ وابن قتيبة فوضعوا صفة "عبد الله بن عليّ" صفة "لعبد الله بن محمد" على قرب العهد. وكيف جاز أن يقع في ذلك الجاحظ في روايته، وهو أدق العلماء
رواية، وهو الذي رد أكثر رواية الهيثم وابن الكلبي وغيرهما من أصحاب الأخبار؟
وخبره الذي رواه وذكر فيه السفاح في البيان والتبيين ج 1 ص 93 أخبره به "إبراهيم بن السندي" وقد قال فيه ج 1 ص 326:
"وكان إبراهيم بن السندي يحدثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كتب الهيثم بن عدي وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلف المزور، وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم، وأما إبراهيم فإنه كان رجلًا لا نظير له. . . وكان. . . وكان. . . من رؤساء المتكلمين وعالمًا برجال الدعوة وكان أحفظ الناس لما سمع وأقلهم نومًا وأصبرهم على السهر".
فرواية الجاحظ فيما نرى أقوم من رواية غيره، وهي دليل على صحة الصفة التي وصف بها أبو العباس أمير المؤمنين، والجاحظ قد أدرك صدر الدولة العباسية، ولم يكن بين مولده ووفاة أبي العباس السفاح كبير دهر حتى يكون ممن يختلط عليه الحق في مثل هذا الأمر، وبخاصة وهو يروي ما يروي عن الثقات في معرفة أخبار رجال الدولة.
أما سكوت الطبري وغيره -من متأخري المؤرخين عن صدر الدولة العباسية- فليس يعد دليلًا على بطلان هذا اللقب. وإن دل على شيء فربما دل على أنهم جانبوه وتباعدوا عنه وتركوه لما كان قد انتشر في عصرهم من معنى السفاح على أنه السفاك للدماء، وخفاء معنى هذا اللفظ الأول وهو الكريم الباذل الفياض الذي يكون عطاؤه للمال حثيًا.
هذه كلمةٌ صغيرة إلى الأستاذ العباديّ أرجو أن أكون قد بلغت بها بعض رضاه في التعقيب على رأيه الذي انتهى إليه ووقف عنده. ولعله يعود إلى الذي كتبه فإن له بالعلم بصيرة نافذة مسددة إن شاء الله.