الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرف اللاتيني والعربية
ربَّ رجل واسع العلم، بحر لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلّل الغاية، وإنما يعرض له ذلك من قِبَل جُرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصرارُه إِصْرارَ الكبرياء التي تأبى أن تعقل. وإن أحدنا ليقدمُ على ما يُحسنُ، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجبُ عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدمَ عليه فينقضه نقض الغَزْل.
ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحملَ صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزّه، ثم لا يلبثُ أن يفسده طول التمادى في إعجابه بما يحسنُ من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرأي فيما لا يُحسِن، ثم لا تزال تغريه عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يُصرّ ثم يغالى ثم يعنُفُ ثم يستكبر. . . ثم إذا هو عند الناس قصيرُ الرأي والعقل على فضله وعلمه.
فمن ذلك أني قرأت في عدد مجلة "المصور" 1015 بتاريخ 29 ربيع الأول سنة 1363 حديثا لصاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا عن "الإسلام والحروف العربية" فرأيته يفتتح حديثه بهذه الكلمة، إذ يقول لسائله:
"إني لا أُعَنِّي نفسي البتة بالإطلاع على ما قد يقال من هذا الهراء الذي هو أهونُ علي من الغبار الذي يمس ردائي وحذائي، فما بالك أنت تهتم بما لا أكثرث له؟ ".
وعبد العزنر فهمي رجل كنا نعرفه بالجد والحرص والفقه وطول الباع في القانون، وكنا نظنه رجلًا محكم العقل من جميع نواحيه، لا يتدهور إلى ما ليس له به عهد، ولا يرمي بنفسه في غمرات الرأي إلا على بصيرة وهدى. فلما قال
(*) الرسالة، السنة الثانية عشرة (العدد 562)، إبريل 1944، ص: 308 - 310.
ما قال عن الحروف العربية في المجمع، ونشرت الصحف قوله ورأيه، قلنا: عسى أن يستفيق الرجل ويعودَ إلى سالف ما عهد فيه من الحكمة والمنطق، وأن يكون ما قال خالصًا لخدمة العربية، فإن يكن في رأيه شيء من الصواب فسيحقق الجدل الذي يدور بينه وبين الناس فضيلة رأيه على الآراء، وإن يكن أخطأ فهو خليق أن يرجع إلى صواب الناس غير معاند ولا لجوج.
كان هذا ظننا فيه، فلما قرأت فاتحة حديثه التي رويتها قبل، علمتُ أن الرجل لن يستفيق، ولن يعودَ، ولن يعقلَ ما يقول الناس -وما ظنك برجل من رجال القضاء- رجلٍ مارس العقلَ والفهم وتقليب الرأي، والتثبت من الحجج المتضاربة الموهمة، والحرصَ على أدق الصغائر لا تخدَعُه عن عَدْله وإنصافه؟ ما ظنك برجل هذه صفته يزعم أنه لا يطّلع، بل لا يعني نفسه بأن يطلع على آراء خصمه! ثم ماذا؟ ثم ترى هذا القاضي العادل، بعد أن شهد على نفسه وأقرَّ أنه "لا يعني نفسه البتة بالاطلاع على ما قد يقال"، يصف هذا الذي لم يطلع عليه ولم يقرأه ولم يتعب فيه، بأنه "هراء"؟ ! فمن أين عَلم؟ وكيف حكم على شيء لم يقرأه؟ ثم يزيد فيقول إن هذا الهراء الذي لم يقرأه، أهون عليه من الغبار الذي يمس رداءه وحذاءه! ثم يبالغ فيعنف سائله ويتعجب له ويسخر منه، ويقول له: ما بالك أنت تهتم بما لا أكترث له؟
وهذا التسلسل العجيب الذي كنا لا نظنه مما ترضى عنه بصيرة رجل مفكر، فضلًا عن قاض حريص، فضلًا عن رأس من رؤوس القانون، فضلًا عن نابغة من نوابغ مصر، قد كان، ورضى عنه عبد العزيز فهمي باشا، وجعله حجته ومنطقه في حومة الرأي والجدال. ولعلَّ الغضبَ هو الذي احتمله حتى أضله عن مواطيء حجته، ثم تركه يتضرّبُ في كلامه، حتى اقترف من اللفظ والمنطق ما لا يليق به.
ونحن سنرضى أن نكونَ في الغبار الذي يمسُّ رداء الباشا، وفي الغبار الذي يمس حذاءه! ونسأل الله أن يجعله بركة للناس وخيرًا، وأن يسبغ عليه من نعمه ما هو له أهل، وأن يسدد خطاه حيث ذهب، فحيثما اهتدى الباشا كنا من الغبار الذي يهتدى بهَدْى حذائه! وسواء علينا بعد ذلك أقرأ هذا الهراء أم لم يقرأه!
نحن نسلم للأستاذ الجليل بما يقول عن صعوبة الحرف العربي المكتوب، وبأنه يعوق القراءة، وأنه يجعل العربية أبعد متناولًا عن عامة الناس، نسلم له بهذا، ثم ننظر كيف يكون الرأي الذي اعتسفه مظنة للتسهيل، ومدعاة لنشر العربية! وكيف يكون هو الذي يخرج الحرف العربي الغامض إلى البيان والوضوح، فلا يكون مضللًا ولا معوقًا، فإنه زعم أن "ليس لدى المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم"! هذا هو محصول رأيه.
فما هذا التضليل الذي زعم؟ لقد قال من قبل إن الذي دفعه إلى هذا الرأي هو تيسير الكتابة العربية، "لأن حروف هذه اللغة ليس بينها حروف حركات! وكثيرًا ما يحدث فيها التصحيف والتحريف لهذا النقص، فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ في قراءتها، وقد عالج الأقدمون هذا المشكل الكبير بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف".
ودليل الاضطراب لم يزل يظهر في هذا المنطق كما ظهر في حديث محرر المصور، وهو سؤال وجواب لا عنت فيهما، فأول الوهن وأول الفساد في هذا المنطق أننا رأيناه في اقتراحه قد أبقى الحروف المعجمة (المنقوطة)، وقصر ما ادعاه من التضليل والعسر على (حروف الحركات). وهذا عجب. فالإعجام (النقط) هو في التصحيف والتحريف بمنزلة الشكل أو أقل منه قليلًا، فكان لزامًا أن يبحث مسألة الحروف المعجمة، ويخلص العربية منها ليدرأ عنها التصحيف والتحريف! ولكنه لم يفعل، ولم؟ لا ندري!
ومع ذلك، فلنفرض أننا أدخلنا ما سماه (حروف الحركات) في كلام عربي مكتوب باللاتينية، ثم لنفرض بعد ذلك أنه قد أجدى ونفى التضليل من هذا الوجه. ولكن يبقى أن ننظر: أينتفي التضليل البتة، أم هناك نوع آخر من التضليل يجره هذا العمل؟ وأي التضليلين أهون شأنًا؟ فإذا تساويا بطلت الحجة المرجحة، وإذا غلب أحدهما كان الانصراف إلى أخفهما ضررًا هو الوجه الذي
لا معدل عنه، أليس هذا هو منطق الناس يا صاحب الحروف اللاتينية، أم تراه ينبغي أن نسير على هَدْى منطقك؟ !
فخذ إليك مادة من العربية مثل "قام"، ثم اجعلها فعلًا، ماضيًا ومضارعًا وأمرًا، وألحق به ما يلحقه من الضمائر، وأدخل عليه ما يدخله من قبل أوله وآخره مثل "فليقمهنَّ" وفي التثنية والجمع، والخطاب والغيبة، ثم أخرج جميع مشتقاته من الأسماء، وألحق بها ما يلحقها، وضعها في حالة الإضافة إلى الاسم الظاهر والضمائر، في التثنية والجمع أيضا، ثم أجمع الأسماء على اختلاف صور الجموع الممكنة فيها، ثم افعل ذلك بالمادة حين يزاد فيها ما يزاد مثل "أقام وقوّم واستقام"، وصرّفها في الوجوه التي ذكرناها، وتبين حركات الإعراب في سياق الكلام، وضع كل ذلك أمامك مكتوبًا بالحرف العربي، ثم بالحرف اللاتيني ذي الحركات التي تجعل الكلمة مرسومة كمنطوقة، ثم انظر إليهما، فهل تستطيع، غير معاند ولا لجوج، أن تميز بين كلمة وكلمة، وأن تتبين الشبه بين هذه المتقاربات من مادة واحدة في اللغة؟ نحن قد جرينا على أسلوب صاحب اللاتينية، فجربنا ذلك بأنفسنا فما اهتدينا ولا أدركنا، وصارت الكلمة الواحدة التي لا تخطئها العين في العربية، ولا تخطئ الشبه بينها وبين صواحباتها، كلمات لا يُدرى ما هي! وهذا شيء قائم على الحس والتجربة والعيان (*).
فإذأ عرف، من لا يستكبر عنادًا ولجاجًا، أن ذلك مما يُضِل ويعمى، نظر فإذا هو يرى أن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية، أن يضيع على القارئ تبيّن اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عَسُر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له، وصار فرضًا عليه أن يعمد إلى رسم المادة الواحدة من اللغة في جميع صُورها التي تكون في السياق العربي، ثم عليه أن يحاول تقريب الشبه بالذاكرة الواعية، ثم عليه أن يحفظ معاني ذلك كله. فإذا كان هذا شأنه في المادة الواحدة فما ظنك باللغة كلها؟ يومئذ تصبح العربية أجهَدُ لطالبها من اللغة
(*) لقد تجنبنا أن نرسم على الكلام العربي في هذه المادة، ووجوه التصريف واللواحق، لأنها يسيرة على القارئ فهو يستطيع أن يستخرجها جميعًا ويرسمها لنفسه وينظر أي مخرقة يرى! (شاكر).
الصينية. نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها، لأنها لم تُبْن إلا عليهما. وهي من هذا الوجه مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني، لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها، حتى تختلف الحركات على كل حرف في كل بناء مشتق أو مصرف، ثم يزيد على ذلك ما يدخل على الكلمة من جميع ضروب الحروف العاملة وغير العاملة، ثم عِلل الإعراب والبناء والحذف. . . . إلى آخر ما يعرفه كل مبتدئ في العربية.
فإذا كان هذا هكذا، وكان التضليل كائنًا، وكان هذا التضليل واقعًا في أصول الاشتقاق والتصريف، الذي يردّ القارئ إلى أصل المادة اللغوية، وإذا كان الضلال عن أصل المادة ضلالًا عن معناها، فأي السبيلين أغمض وأضل: سبيل عُسر القراءة لعدم (حروف الحركات)، أم سبيل امتناع الفهم لامتناع الاهتداء إلى أصل الاشتقاق؟ ونحن لا نشك في أن كل رجل ذي بصيرة حسن المنطق، سيجد في هذا وحده من المشقة والعسر، وما لا يدع اختيارًا في الاعتراف بالضلال المطبق الذي تجلبه الكتابة بالحرف اللاتيني، وأن التصحيف والتحريف الذي يدخل الحرف العربي أهون بكثير من الاختلال والفساد والمضلة والعبث التي يجرها الحرف اللاتيني.
وإذن فغاية المشروع الذي انتحله، أن ييسر نطق الكلمة المكتوبة في حال إفرادها، غير ناظر إلى سهولة الاهتداء إلى الاشتقاق الذي هو أصل العربية، وأراد أن يأمن الخطأ في الإعراب، والتحريف في ضبط الكلمة، فنسي كل شيء، ولم ينظر ماذا يجلب مشروعه من التضليل والتشويه والتعسير والاستحالة، والغموض الأعمى الذي لا يهدى إلى شيء في هذه اللغة العربية! وهذا وحده عجب أي عجب.
هذه واحدة، ثم زعم الباشا أن الحروف العربية تعوق القراءة، فمهما تعلمها الإنسان فلابد أن يخطئ! وأن هذا المشكل قد عالجه الأقدمون بوضع الشكل، ولكن هذا الشكل قد أفلس، بل كان مجلبة لزيادة التحريف والتصحيف!
هما علتان، ثم علتان ملفقتان قد غلغل فيهما البطلان، ونخرتهما المغالطة
في الصميم وفي المنطق. ونحن لن نناقش اليوم هاتين العلتين إلا من وجه واحد يظهر به فسادهما، أما سائر الوجوه فندعها حتى يحين وقتها ومكانها من الكلام. فالخطأ عندنا لا يعود إلى صعوبة الحرف المكتوب، وإنما يعود إلى القارئ المخطئ نفسه، وهذا هو وضع القضية عندنا: إذا كان المتكلم حين يتكلم يستطيع أن يسوق كلامه على العربية الصحيحة غير مخطئ، فمحال أن يخطئ فيها عند القراءة مهما اختلف الخط عليه سهولة وصعوبة، لأن النطق سابق للقراءة، فالذي لا يخطئ وهو يتكلم (أي كأنه يقرأ من حرف غير مكتوب)، لا يتأتى له أن يخطئ وهو يقرأ حرفًا مكتوبًا ظاهرًا مميزًا ببعض الدلالات. وإذا عولج بعض العسر بوضع الشكل على الحروف، فالخطأ عندئذ أشد استحالة لوجود دلالات صريحة لا تقل في إفصاحها وبيانها عن حروف الحركات التي أرادها صاحب هذا المشروع اللاتيني، ومن ثم فهي ليست مجلبة لزيادة التصحيف والتحريف كما زعم. أما قوله، في خلال ذلك، إن الشكل قد أفلس، فهذا حكم باطل في قضية باطلة بطبيعتها، وما دامت القضية في أصلها لا تصح على الوضع الذي لفقه، فالحكم نفسه لم يدخل إلا زيادة في التلفيق. لقد نسى صاحب الحروف اللاتينية أن الإعراب في العربية شيء يختلف اختلافًا كبيرًا عن سائر اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية، وأن الخطأ فيه لن يكون من قبل الكتابة سهلة أو صعبة، بل هو راجع إلى المتكلم أو القارئ من قبل الضعف والقوة والعلم والجهل ليس غير.
وأما ثالثة الأثافي، كما يقولون، فهو زعمه أن "ليس لدى المسلمين، وغيرهم من أهل البلاد العربية، وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم"! فأي طلاسم؟ أهي الطلاسم التي تدخل على كل حرف من الحروف في المادة الواحدة، ألوانًا من الحركات تكتب بين كل حرف وحرف، وفي أواخر كل كلمة، وتقف فواصل متباينات بين حروف مادة واحدة من لغة بنيت على الاشتقاق وعلى الاختصار، وجاء فيها الجموع المختلفة، والصفات والأبنية ذوات المعاني، والبناء للمجهول، وأحكامُ المعتل في التصريف، واختلاف
المصادر وأسماء الزمان والآلات، والترخيم والنسبة، والإضافة والتقاء الساكنين، وأحكام الإعلال والإبدال والإدغام، إلى آخر هذا كله، ممَّا يغيّر الأبنية والأطراف والأوساط، هذا إلى كثير من أحكام النحو الأخرى التي تفزع من يتتبعها إذا هو أراد جدال صاحب الحرف اللاتيني! أهذه هي الطلاسم أم تلك؟ وأيهما أفسد لوقت المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية؟ بل أيهما أضرَى وأشنع فتكًا وشراسة؟ بل أيهما الذي يغول العقل لا الوقت وحده!
ولكنها فتنة! فتنة اغتر بها شيخ صالح، فاستغلها من لا يرى للعربية حقًّا ولاحُرمة، ولولا بعض حسن الظن لقلنا:
لا تأمنوا قومًا يَشبٌّ صبيُّهم
…
بين القَوابِلِ بالعداوة يُنشَعُ (1)
فَضِلَتْ عداوتُهم على أحْلامِهِم
…
وأبتْ ضِبابُ صدُورِهم لا تُنْزَعُ (2)
إن الذين تَروْنَهم إخوانَكم
…
يشفي غليلَ صدورهم أن تُصرعُوا
وأي مصرع يا صاحب المعالي! علَّمك الله الخير وهداك إليه وسددك وحفظك.
(1) القوابل: جمع قابلة، وهي التي تستقبل الولد عند الولادة. يُنشَع: وُيربَّي.
(2)
الضباب: الحقد الكامن في الصدور.