الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأحب أن أقول للدكتور طه، ولغيره من كتابنا، إنه حقٌّ عليهم أن يقوموا بالدعوة، وبالكتابة في مثل هذا الغرض النبيل الذي ينفع الناس ويرفع عن أعناقهم نِير العبودية التي يفرضها الجهل مرة والفقر مرات كثيرة. فإن كلمة الدكتور طه التي ألقاها، إنما سمعها عدد من الناس-أكبر الظن فيهم أنهم قد طرحوا عبء التفكير فيها حين خرجوا من باب "قاعة يورت التذكارية"، كما تطرح الأعباء المثقلة. وليس شيء يحمل الحكومة على الجادة وعلى سواء السبيل كالصحافة وكتابها إذا أخلصت وتطهرت من الغرض والهوى والحقد والبغي والعدوان. . . فهل يمكن أن يكون هذا في مصر؟
فإن تسألينا: كيف نحن؟ فإننا
…
عصافير من هذا الأنام المسحَّر
عناصر الثقافة المصرية
وقد حدد الدكتور طه ألوان الغذاء الروحي والعقلي الذي يجب أن يقدم للشباب، فجعله مركبًا من ثلاثة عناصر: العنصر المتحدرُ من تاريخ مصر القديم -الفرعوني- وهو الفن، والعنصر المتغلغل في مصر الإسلامية، وهو الدين والأدب والفن العربي الإسلامي، والعنصر المتلبس بحياتنا الحاضرة منذ اتصلنا بغيرنا من الأمم التي نتعاون معها أو ننافسها، وهو العنصر الأوربي الجديد، وسترى بعد ما هو عند الدكتور طه.
أما العنصر الأول، وهو الفن الفرعوني القديم، فأنا أدعه للكلمة الآتية، فإن اللَّبس كثير فيه، وقد زلّ على مزالقه أكثر أصحابنا ممن فُتنوا به عن صواب الرأي. وأنا أحب أن أتناوله بالبيان الذي يدفع عن مصر شرًّا كثيرًا ويحقق لها ما نتمناه جميعًا من الخير.
وأما العنصر الإسلامي من الدين والأدب والفن، فقد أجاد الدكتور طه في الدعوة إلى العناية به لأنه أصل المدنية، ومن جَهِل في بلاد مصر -أو بلاد العربية على اختلافها- تاريخ الإسلام فقد حطّ في مَهوًى ينقطع به حبله الذي يصله إلى قومه وإلى حضارته وإلى مستقبل هذه الحضارة التي سوف تنبعث بنورها مرة ثانية في جنبات الشرق فيما أرى. ولكن الدكتور طه بعد أن تكلم عن الاجتماع العربي
أو الإسلامي الذي عاشت عليه الأمة المصرية هذه الأجيال ولم تجد به بأسًا -كما يقول- عاد فاستدرك عليه بقوله: "بشرط أن يتابع تطور المدنية الحديثة". فأنا والدكتور طه وكل عربي قد درب بالحضارة وجرَّبها يعرف أن البناء الاجتماعي هو أصل المدنية، وأن الاجتماع إذا صلح استطاعت كل القوى أن تعمل في بناء الحضارة بعقائدها وآرائها وإيمانها وفلسفتها، فإذا أردنا أن نجعل النظام الاجتماعي الإسلامي في العمل والتشريع والسياسة هو النظام فمن الخطأ الذاهب في الفساد أن نخضعه لتطور مدنية أخرى قد بُنى اجتماعها على المسيحية في التشريع والسياسة والأخلاق. فمصر والشرق الإسلامي إذا أراد أن ينهض فلابد له -كما قال الدكتور طه- أن يستمد نهضته من أصول الاجتماع الذي يربطه به التاريخ والدم والوطن واللسان والدين والوراثة، وإذا ساير فإنما يساير في فكرة مطلقة وهي "النهضة والحضارة والمدنية الإنسانية" على الطريق الذي يوافق طبيعة هذا الاجتماع. أما المدنية الحديثة فقد بنيت على غير ذلك وقد تطورت على أصوله، وليس بعد خطبة الملك جورج ملك الإنجليز ما يدع موضعًا للشك، فقد خطب الملك يوم 25 ديسمبر سنة 1939 في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح -صلوات الله عليه- فذكر الاتحاد الإنجليزي الفرنسي للحرب ضد ألمانيا النازية فكان مما جاء في خطته (ترجمة الأهرام):"إني أومن من أعماق قلبي بأن القضية التي تربط شعوبي معًا، وتربطنا بحلفائنا المخلصين الأمجاد هي (قضية المدنية المسيحية). وليس ثمة قاعدة أخرى يمكن أن تبنى عليها مدنية صحيحة".
ونحن ننظر إلى المدنية الأوربية هذا النظر، وكلام الملك جورج هو من أدق التصوير لحقيقة الحضارة الأوربية في نظر كل باحث نصراني أو يهودي أو مسلم. فإذا أردنا أن نتابع تطوّر هذا الضرب من المدنية بتبديل اجتماعنا -الذي دعا إليه الدكتور طه في حديثه- ليطابقه، فكأنما ندعو إلى "تنصير الإسلام". وما أظن الدكتور طه يرضى أن نصير هذا المصير!
والعجيب بعد ذلك أن يذكر الدكتور طه العنصر الثالث وهو الحضارة
الحديثة الأوربية، فلا يدعو إلى الأخذ بشيء مما فيها دعوة صريحة إلا في الذي يتصل بالخلق ليكون عندنا الرجل الصريح الذي يتحرى ألا يكذب نفسه قبل اجتنابه الكذب على الناس، والرجل الذي يستطيع أن يقول:"لا" أو "نعم" حين يريد أن يقولها، لا حين يكره عليها! !
ألا إن أخلاق المدنية الأوربية قد استعلنت جميعها في هذا البغي المتفجر في الحرب التي لا يعلم خَبْأها إلا عالم الغيب والشهادة، وإن أردنا أن نأخذ -أي أن نقلد- فلنأخذ من تاريخنا، من ديننا، من أخلاق رجالنا .. من الذين استطاع أحدهم أن ينكر على عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ويقول له:"اتق الله يا عمر"، فيقوم رجل يستأذن عمر في أن يأمره فيه بأمره، فينهاه عمر ويقول:"دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم". فالرجولة هنا ليست أن يقول الرجل، ولكن أن يتقبل صاحب السلطان هذا القول بالخضوع والرضا، فهل فينا من يقبلها يا دكتور طه. . . أو في النفاق الأوربي المتلبس بالرجولة طبقًا للمنافع في أكثر أمره إلا مَنْ عصم الله. . .؟ لا أدري.