الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على حد منكب
قلت قديمًا في الرسالة (1) إن الشيخ إبراهيم اليازجى ومن لف لفه كالمعلم الشرتونى، هم أصحاب حشد وتخليط في جمع اللغة. وآفة الحشد والاستكثار ترك التبصر ومجافاة التمحيص. ثم يأتي الناس بعد ذلك فيأخذون هذا الحشد على ثقة وأمن، فتزداد بلبلة الناس في شأن اللغة. فما كل أحد يصبر على تتبع الكلام المبعثر في الشعر والنثر، ثم جمعه وتأليفه، ثم النظر في أصوله ومبانيه، ثم تمحيص المعاني المختلطة ورد كل قرينة منها إلى أختها.
وقد قرأت في عدد الرسالة (908) ما نقله الأستاذ محمود أبو رية من كتاب نجعة الرائد لليازجى: (هو منه على حد منكب: أي منحرف عنه دائم الإعراض) وما عقبت به الرسالة من قول أقرب الموارد: (وفلان معى على حد منكب: أي كلما رآنى التوى ولم يتلقنى بوجهه، وهو كقولهم: فلان يلقانى على حرف). وأستطيع أن أوسع لليازجى والشرتونى في هذا الموضع مكان العذر، فقد نقلا، ولكنهما لم يتنخَّلا الكلام ولم يمحصاه. والذي أوقعهما في هذا الوهم، هو حب الاستكثار، ثم اطمئنانهما إلى شيخ قديم كان من أئمة العربية، ولكنه كان أيضًا عريض الدعوى، جريئًا على التوهم، كثير التخليط في اجتهاده، بل كان يدلس فيما يكتب، إذ كان يأتي بالشيء يوهمك أنه مما نقله عن الرواة قبله، وهو في الحقيقة مما اخترعه بسوء رأيه وقلة معرفته بغامض كلام العرب -ولا أعني غريبه، فهو كان قيما بالغريب حفظًا ونقلا. وهذا الشيخ القديم هو الخطيب التبريزى شارح الحماسة. ويدل شرحه للحماسة على
(*) الرسالة، السنة الثامنة عشرة (العدد 910)، ديسمبر 1950، ص: 1385 - 1387
(1)
مضى هذا المقال بعنوان "الهجرة"، الرسالة، السنة الثامنة (العدد 346)، 1940
ما ذكرت من صفته، وعلى شيء آخر، هو ضعفه الشديد في فهم دقائق الشعر العربي. ثم على شيء آخر أيضًا، هو أنه مشغول بالنحو وما إليه وبالإغراب في بيان وجوهه المختلفة. وهذه الكلمة التي نقلها اليازجى والشرتونى عنه، هو صاحبها، وهو مدعى هذا المعنى لها، ولم ترد في شعر قديم، ولا نثر معروف، على الوجه الذي توهمه التبريزي واحتال له. وإنما أتى الشيخ من سوء فهمه لما تولى شرحه من شعر الحماسة.
جاءت الكلمة في شعر للبعيث بن حريث بن جابر الحنفي، أحد بني الدُّؤَل ابن حنيفة بن لجيم. . . بن بكر بن وائل، وهي أبيات جياد مختارة، يذكر فيها طروق طيف صاحبته على بُعْد الزيارة، ثم مسيره في البلاد، ثم يفخر بنفسه وبمحاماته دون عشيرته وذبه عن مآثرها ومجدها، يقول في مطلعها:
خيال لأُمِّ السَّلْسَبيل ودونها
…
مَسيرةُ شهرٍ للبريد المُذَبْذَبِ! (1)
حتى يفخر بما فعل في نصرة رجلين من قومه هما (يزيد) و (عبس)، كانا استصرخا به في مُلِمَّة من ملمات الحروب، فنصرهما وحامى عنهما، واستنقذهما، وهم يومئذ جميعًا في غربة عن ديار عشيرتهم، قال البعيث في ذلك:
وإن مَسِيري في البلاد ومنزلي
…
لبالمنزل الأقصى إذا لم أُقَرَّبِ (2)
ولست، وإن قُرِّبْتُ يومًا ببائع
…
خَلاقي ولا ديني ابتغاء التحبُّبِ (3)
ويَعْتَدُّهُ قوم كثير تجارةً
…
ويمنعني من ذاك دينى ومنصبى
دعانى يزيد، بعد ما ساء ظنه،
…
وعَبْسٌ، وقد كانا على حَدِّ مَنْكَبِ
وقد علما أن العشيرة كلَّها،
…
سوى مَحْضَرِي، من خاذلين وغيَّبِ
فكنتُ أنا الحامى حقيقة وائل
…
كما كان يَحْمِي عن حقائقها أبي
(1) المذبذَب: المُتَعَجِّل.
(2)
أقرَّب: أُكرَّم وأُدْنى.
(3)
الخلاق: الحظ والنصيب من الصَّلاح.
ويظهر لي أن البعيث كان قد خرج هو وصاحباه (يزيد وعبس) إلى خراسان في ولاية أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن أجل ذلك قال:"ومن دونها مسيرة شهر للبريد المذبذب".
قال التبريزى في شرح البيت: "أي أشرفا على الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف. يقال: أصابه نَكْبٌ من الدهر ومَنْكَب ونَكْبة ونُكُوب كثيرة. ومنه حافر نَكِيب ومَنْكُوب: إذا أثَّر فيه حجر أو غيره. ويروى (على حد منكِب) بكسر الكاف. يعني أنهما كانا مهاجِرَيْن له. يقال: فلان معي على حد منكِب: أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه. وتنكَّب عني: أي اجتنبني. والمنكب من كل شيء جانبه وناحيته. ومثله قولهم: فلان يلقاني على حرف. وفي القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}. ويجوز أن يريد بقوله: (بعد ما ساء ظنه) بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة"(1).
والذي حمل التبريزي على التفسير الذي اجتهد فيه، وادعى فيه دعوى ليس عليها بينة من نفس الشعر، ولا من كلام العرب، بعد أن قارب المعنى الصحيح في الشعر بقوله "أي أشرفا على الهلاك" -أنه أتى من سوء فهمه الذي بدر إليه في معنى قوله:"دعانى يزيد بعد ما ساء ظنه وعبس" فتوهم أنه أراد (بعد ما ساء ظنه في)، ثم ازداد في توهمه فزعم مهاجرَة كانت بين البعيث وصاحبيه عبس ويزيد، لكي تتسنى له المداخل إلى دعواه في تأويل الكلام على وجهٍ توهمه واخترعه، ثم أثبته بقوله "يقال: فلان "معى على حد منكب". وهو شيء لم يقله غير التبريزى نفسه، بالمعنى الذي فسره به، وكان من حيرته أن عاد في آخر شرحه يقول: "ويجوز أن يريد بقوله (بعد ما ساء ظنه) أي بعد تسلط اليأس
(1) كلام أستاذنا عن التبريزي في تهجمه على المعاني وانشغاله بالنحو حق لا مراء فيه. ولكن أستاذنا هنا افتات على التبريزى وظلمه، فهذا الشرح لم يختلقه التبريزى، وإنما نقله عن المرزوقى بنصه (الحماسة بشرح المرزوقى 1: 380 - 381)، وهذا شأن التبريزى دائما، فقد اهتدم شرح المرزوقى حين كتب شرحه على حماسة أبي تمام، وزاد عليه في مسائل النحو والإعراب واشتقاق الأسماء. فالمرزوقى هو الذي اجتهد، وهو عندي عريض الدعوى، جرئ على التوهم، كثير التخليط في اجتهاده.
والقنوط من الحياة"، كأن الأول الذي فهمه هو الصواب وكأن هذا الثاني جائز على تمريض (1).
وأخطأ التبريزى فيما فهم من قول الشاعر (ساء ظنه)، أخطأ أيضًا في هذا التفسير الذي قال إنه (يجوز) أن يكون من وجوه تأويلها، فالعرب حين تأتي بقولها (ساء ظنه) في مثل هذا الموضع، إنما تريد بالظن: ذميم الخواطر التي تخامر نفس المحارب حين يحمر البأس، إذ يحدث نفسه بالهرب والفرار حبا للحياة وحرصًا على الأموال، فيرتكت أخلاق اللئام والأنذال والجبناء في ترك المحاماة عن الأعراض مخافة الموت المطبق. فمن ذلك قول أشابة بن سفيان البجلى.
ومُسْتَلْحَمٍ يدعو، وقد ساء ظنه،
…
بمهلكة، والخيلُ تَدْمَى نُحورُها
كررت عليه، والجياد كأنها
…
قنًا زاعِبىّ، لم تَشِنْها فُطورُها (2)
فنهنهتُ عنه أولَ الخيل، إننى
…
صبور، إذا الأبطال ضجَّ صَبورُها
والمستلحم: من قولهم: استلحم (بالبناء للمجهول) أي روهق في القتال واحتوشه العدو من هنا وهنا. فهو يدعو باسم عشيرته، وقد حدث نفسه بالفرار. وهذا البيت هو نفس معنى بيت البعيث. إلا أن هذا قال:"بمهلكة"، والآخر قال:"وقد كانا على حد منكب" بفتح الكاف. وهو أيضًا ما قاله التبريزى أولا، ثم أخذه حب الاجتهاد، فظن ظنًّا خطَأً جعله رواية للبيت، بكسر الكاف، ثم توهم وتصنع الاجتهاد، ثم ادعى ما ادعى.
وقول زفر بن الحارث الوالبى (المؤتلف: 130)
وإني بذات الرِّمْثِ لم أُلْفَ عاجزًا
…
ولا ورَعًا يوم التهايج أعزلا (3)
منعتُ ابن ورّاد وقد ساء ظنّه
…
وأنقذت من تحت الأسنة نوفلا
(1) تمريض: تَوْهِين وضعف.
(2)
القنا: الرماح، ورمح زاعبىّ: إذا هُزّ تدافع كله كأنه يجرى في مقدمته. الفطور: الشقوق، أي ليس لها شقوق أصلًا فتشينها.
(3)
الوَرَع: الجبان.
بل لقد قال عروة بن الورد يتمدح بنصرته قومه (بنى عوذ) حين اشتد القتال عليهم بماوَان فقال:
تدارك عوذًا، بعد ما ساء ظنها،
…
بماوَان، عِرْقٌ من أُسامة أزهرُ
يعني نفسه حين نصرهم، وقد أوشكوا أن يفروا عن أعدائهم. ويقول موسى ابن جابر الحنفي (عم البعيث صاحب الأبيات المذكورة آنفًا):
وَجُدْتُ بنفس لا يُجاد بمثلها
…
وقلت: اطمئني، حين ساءت ظنونُها
وما خير مال لا يقى الذمَّ رَبَّهُ
…
بنفس امرئ في حقها لا يهينها
أي حين خطر له أن يفر من حومة القتال
هذا أول سوء قصد التبريزى إلى المعاني. أما ثانيهما فما استخفه من الفرح باجتهاده، حتى عجل فلم يقف على كلمة "حد" ولم يحاول أن يفهمها، إلا على الوجه الذي بدر إلى عقله، وهو الحد الفاصل بين شيئين. بيد أن العرب تقول:"حد الظهيرة" و"حد المطر" و"حد الخمر" و"حد الموت" وكثير من مثل ذلك، وتعنى بالحد الشدة والبأس والصلابة والعنفوان. وقد قال موسى ابن جابر في أول كلمته التي ذكرناها آنفًا:
ألم تريا أنى حميت حقيقتي
…
وباشرت حد الموت، والموت دونها
وقد روى هذه الأبيات أبو تمام في حماسته، وشرحها التبريزى نفسه، فشغله الاجتهاد في إعراب "دونها" مرفوعة، عن تمحيص العبارة، وعن الوقوف على معنى "حد الموت"، وفر إلى النحو والعروض يسود الصحف بوجوه تأويلها. ونسى أن يفسر "حد الموت"، وهي سورته وشدته وتلهبه في المعترك وهذا هو المعنى الذي جاء في قول البعيث "حد منكب": أي سورة النكبة وشدتها في القتال، ولم يعن الحد الفاصل بين شيئين.
وأما ثالث الثلاثة، فإنه عجل كعادته ولم يتثبت من معنى "على" في قوله "على حد منكب" فمعنى "على" في مثل هذه العبارة ينظر إلى معنى "في" أو "عند" ومن ذلك قول الحطيئة:
وإن قال مولاهم، على جُلِّ حادث
…
من الدهر: ردُّوا فضل أحلامكم، رَدُّوا
أي عند حادث جليل ينزل بهم. وكذلك قول الفرزدق:
على ساعة، لو كان في القوم حاتم
…
على جوده، ضنت به نفس حاتم
أي: في ساعة شديدة، لو شهدها حاتم لضن بالماء على أصحابه.
ورحم الله إمام العربية شيخنا المرصفي، فإنه لم يعرج على سوء فهم التبريزى واستطالته في الدعوى، وقد قرأت عليه أبيات البعيث هذه أيام قراءتى عليه شرحَه لحماسة أبي تمام. وقد جاء في المطبوع من شرحه عند ذكر هذا البيت:"على حد منكب" بفتح الكاف، مصدر ميمى من نكبه الدهر ينكبه بالضم نكبًا: أصابه بنكبة. يريد، وقد أرهقهما العدو فبلغ منهما كل مبلغ".
هذا، ومعنى الأبيات الثلاثة الأخيرة أن عبسًا ويزيد حين حمى القتال، حدثتهما نفسهما بالفرار وهما في سورة نكبة كريهة مستأصلة، فدعوا -كعادة العرب في الاستغاثة والتداعى عند القتال- فقالا "يآل بكر بن وائل"، وقد عجلا فظنا أنهما يدعوان عشيرتهما، وبينهما وبين العشيرة "مسيرة شهر للبريد المذبذب"، إذ كانوا في خراسان كما قلت آنفًا، لا في ديار قومهما وكانت هذه الدعوة وسوسة من وساوس النفس الأمارة، فالعشيرة كلها كما يعلمان، علما ليس بالظن، غائبة بعيدة، والقليل الذي حضر منها خاذل لهما مشغول بنفسه، إلا أنا، فإني حاضر لم أغب، وإذا دعيت فلا أخذل من دعاني. فإذا دعوا فقالا "يآل بكر بن وائل" فهما لم يدعوا أحدًا سواى أنا وحدى
فكنت أنا الحامي حقيقة وائل
…
كما كان يحمي عن حقائقها أبي
فالبيت الثاني "وقد علما أن العشيرة كلها" بيان واعتذار عن كذبه في قوله: "دعانى يزيد. . . وعبس" وهما لم يدعواه باسمه هو، بل هتفا باسم عشيرتهم "بكر بن وائل" ومن أجل هذا المعنى قال البيت الأخير الذي بلغ به غاية الفخر بنفسه، وحق له. فقد كان سيدًا شريفًا شاعرًا، وكان أبوه حريث سيدًا شريفًا شاعرًا، وكذلك كان سائر أعمامه وبنى أعمامه.
وفي البيت رواية أخرى جادلت عنها كتبى في هذين اليومين، فلم أهتد إليها لطول الترك والنسيان. وهي "وقد كانا على حَزِّ منكَب". أي في ساعة نكبة شديدة. والحز والحزة اليسير من الوقت، لأنه من معنى الحز وهو القطع. يقولون:"على أي حزة أتانا فلان! " أي في أي وقت ضيق حرج أتانا! ويقولون: "جئتنا على حزة منكرة" أي في ساعة منكرة شديدة. "وكيف جئت في هذه الحزة؟ ". ويقول أبو ذؤيب، يذكر جفاف الماء في شدة الحر، وانقطاعه حين لا يطاق الصبر عنه
حتى إذا جَزَرَتْ مياه رُزُونِه،
…
وبأيِّ حَزِّ مُلاوة تتقطَّعُ! ! (1)
يقول: في أي ساعة منكرة شديدة ينقطع الماء، حين لا يستطاع الصبر عنه! فهذه الرواية تؤيد تفسيرنا، وتنفي عنه تحريف التبريزى وانتحاله واختراعه واجتهاده وأرجو أن يفسح لي القارئ العذر في الإطالة، كما أفسح الناس لتخليط التبريزى والناقلين عنه.
(1) الرُّزُون: جمع رَزْن، وهي نُقْرَة في الصخر يتجمع فيها الماء.