الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذو العقل يشقى
(1). . .
لولا أني أكره خلائق السوء، لما حملت هذا القلم لأرد به على هذا الذي تكلف مؤونة الجدال عن صاحبه (2)، ولولا أنه كتب ما كتب في الرسالة، وهي مألف قديم يحن إليه هذا القلم، لما غلبني على ما أدبت به نفسي من هجر صغائر الأمور. ومن خلائق السوء عندي أن يجهد كاتب قلمه في نقد ما أكتب، ثم أغفل رده إلى الحق إن أخطأ، أو متابعته على الصواب إذا أصاب. ومهما يكن رأيي فيما كتب الأستاذ، فإني أجد الحق يلزمنى أن أعود إليه بالتذكير والإبانة، غير متلجلج في استنقاذه مما تورط فيه، ولا مستنكف أن يكون في بعض كلامي هذا تكرار لما قلت، مما أرجو أن يكون إنما غفل عنه غير متعمد إن شاء الله. وأنا أقدم بين يدي الأستاذ الفاضل، معذرتى في أن أسامحه فيما وصف به ما كتبت، وما وقر في نفسه وأبان عنه بقوله إني اندفعت في سياق منبرى، أسرد الأدلة الخطابية، وأستثير النوازع العاطفية. وكان خليقًا به قبل أن يقول ما قال، أن يعرف أسلوبي فيما أكتب، ثم ينظر إلى بعيني مبصر متحقق: أصحيح أنى ألجأ إلى الخطب المنبرية، والأدلة الخطابية، والنوازع العاطفية، أم الحق أنى أتحرى أمرًا أنا مسئول عنه بين يدي ربى، أو على الأقل: أعتقد أنا أنى مسئول عنه بين يديه سبحانه؟ ! وإذا كان كثير من الناس قد نسوا أنهم محاسبون يوم القيامة، فإني لم أنس بعد، وأسأل الله أن يعينني على أن لا أنسى، وإن عد الأستاذ الفاضل هذا الكلام أيضًا خطبة منبرية، أو استثارة عاطفية!
ولعل قراء الرسالة، لم يقرأوا ما كتبت في مجلة "المسلمون"(3) ولست
• الرسالة، السنة العشرون (العدد 974)، مارس 1952، ص: 242 - 245
(1)
بعض من بيت معروف للمتنبى، وهو:
ذو العَقْلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بعَقْلِهِ
…
وأخو الجَهالةِ في الشَّقاوَة يَنْعَمُ
(2)
الذي تكلف مؤونة الجدالَ هو الأستاذ محمد رجب البيومى في مقاله بمجلة الرسالة، العدد 973، السنة العشرون، فبراير 1952، ص: 223 - 245. وأما صاحبه الذي جادل عنه فهو الأستاذ سيد قطب.
(3)
العدد الثالث، 39، السنة الأولى، ص: 247 - 255
أحب أن أعيد عليهم ما كتبت هناك، ولكني أحب أن أبين لهم عن أصل هذا النزاع الذي نازعنيه الأستاذ الفاضل. وذلك أنى رأيت كاتبًا بسط لسانه بسطًا عريضًا في دين جماعة صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم: معاوية بن أبي سفيان، وأبوه أبو سفيان، وأمه هند بنت عتبة، وعمرو بن العاص. ثم أدخل معهم سائر بني أمية. وزعمت في هذه المقالة أيضًا أنى لن أناقش منهجه التاريخي:"لأن كل مُدَّع يستطيع أن يقول: هذا منهجي، وهذه دراستي" وقلت: "وأيضًا فإني لن أحقق في هذه الكلمة فساد ما بنى عليه الحكم التاريخي العجيب، الذي استحدثه لنا هذا الكاتب، بل أدعه إلى حينه" وقلت: "بل غاية ما أنا فاعل: أن أنظر كيف كان أهل هذا الدين ينظرون إلى هؤلاء الأربعة بأعيانهم، وكيف كانوا -هؤلاء الأربعة- عند من عاصرهم ومن جاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم".
وأظن أني بهذه الكلمات قد حددت كل التحديد غايتى فيما أكتب. أظن ذلك، وأظن أيضًا أن لكل كاتب بعض الحرية! ! في أن يحدد ما يريد لنفسه في سياق ما يريد أن يكتب. وبخاصة إذا كان يريد أن يعرف الناس بشيء هم قد غفلوا عنه، وبخاصة في زمن أصبح العلم فيه لجاجات تكتب كما تكتب مقالات الصحف اليومية في المنازعات الحزبية! وبخاصة في أمر فيه نذير شديد من الله سبحانه! وبخاصة إذا كان هذا الكاتب يؤمن بأن الإنسان مسئول بين يدي ربه عن كل ما يقول وكل ما يكتب وكل ما يفعل!
بيد أن الأستاذ الفاضل ظن أنه كان يجب عليّ أو لا غير هذا. إذ ظن أن صاحبه نقد معاوية نقدًا تاريخيا، فطالبنى أن أبين أن الوقائع التي ذكرها في كتابه غير صحيحة، ثم زاد شيئًا آخر عجل إليه فزعم أنى لا أستطيع أن أفعل شيئًا من ذلك، لأن صاحبه نقلها من كتب التاريخ ولم يخترعها اختراعًا، ولأنها معروفة لدى الصغير والكبير؟ ! فأظن أنا أيضًا أنى بينت عن طريقى في الكلمات التي نقلتها آنفًا، وأنى سوف أترك هذا إلى حينه. فلست أدري لم يعجل الأستاذ الفاضل كل هذه العجلة على امرئ مِثْلى، فيضربه بالعجز عن ذلك قبل أن يبين
عن حجته؟ فهذه العجلة هي هي التي أُنْكِرها على صاحبه، وأنكر أن تكون أدبًا يتأدب به العالم أو المتعلم، ومن الحق على كل عاقل أن ينهي نفسه عنها، وأن ينهي من يرتكبها، لأنها مخالفة لكل أصل من أصول العلم والتعلم، ولأنها تورث مرتكبها نفس الداء الذي أتى منه صاحبه الذي تهجم على ضمائر خلق الله، فكاد يقطع قطعًا جازمًا بنفاق معاوية وأبي سفيان وهند وعمرو بن العاص وسائر بنى أمية! من أين يعلم أنى عجزت أو أني سوف أعجز؟ لا أدري!
ومثل هذا في الجراءة ما أتبعه من أسئلة إذ يقول:
"من الذي ينكر أن معاوية حين صير الخلافة ملكا عضوضًا لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية؟
"ومن الذي ينكر أن بنى أمية بصفة عامة لم يعمر الإيمان قلوبها، وما كان الإسلام لها إلا رداء تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات؟ . . .
"ومن الذي ينكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه على المسلمين مدفوعًا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام!
"ومن الذي ينكر أن معاوية قد أقصى العنصر الأخلاقي في صراعه مع على، وفي سيرته في الحكم بعد ذلك إقصاء كاملا لأول مرة في تاريخ الإسلام، وقد سار في سياسة المال سيرة غير عادلة، فجعله للرشوة واللهي (1) وشراء الضمائر في البيعة ليزيد؟
"هذه وأمثالها أمور مسلمة في التاريخ، لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرًا حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد. . . ."
نعم يا سيدي الشيخ! نعم! فإني لمحدثك عمن ينكرها: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلى. وإذا كنت أنت وصاحبك تسلمان بها، فأنا لا أستطيع أن أسلم بها. وتقول: هذه دعوى ليس عليها بينة! فأقول: نعم، هي في هذا
(1) اللُّهَا: جمع لُهْوَة، وهي أفضل العطايا وأجزلها.
السياق ليس عليها بينة، إلا أن آتيك بالدليل على بطلان ما ذهب إليه صاحبك الذي توليت الدفاع عنه. بيد أنك أسأت حين عجلت إلى شيء لم تعرف ماذا أقول فيه، وكيف أستطيع أن أتناوله بالنقد والتمحيص. ولو أنت صبرت حتى تعرف، لأتاك البيان عما أنكرت وما عرفت من أخبار صاحبك، التي وصفتها بأنها متلقفة من أطراف الكتب، لا أقول بلا تمحيص وحسب، بل أقول أيضًا بالحرص الشديد على تتبع المثالب القبيحة، وبالحرص المتلهف على اجتناب المناقب الفاضلة، وبالغلو الأرعن في سياق المثالب وفي تفسيرها، وفي تحليلها، وفي استخراج النتائج من مقدمات لا تنتجها، كما يقول أصحاب المنطق.
وأنا أحب أن أخلع معك مسوح الوعظ والإرشاد خلعا لا رجعة بعده! فتعال أيها الشيخ إلى غير واعظ ولا مرشد! تعال حدثني وأحدثك، ودعنى ودعك من:"قال الله تعالى" و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإنهما في زماننا هذا -من مسوح المتدينين بلا دين! دعنا نعرف الكتب التي بين أيدينا لا نرفع بعضًا ونضع بعضًا، لأن هذه كتب تاريخ لا يوثق بها، ولأن هذه كتب أصحاب دين ووعظ وإرشاد يوثق بها! ثم ننظر بعدئذ بالعقل المجرد ماذا يكون؟ !
ودعنى أيها السيد أعيد عليك ما قلت في مقالك: "ونحن نقر أن معاوية كان حسن السيرة على عهد عمر، فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المِجَنّ للتعاليم الإسلامية بعد مصرع عثمان. . . ." ولا أسألك من أين علمت أنه كان حسن السيرة على عهد عمر؟ ولكني أسألك: ألست تعلم أنه قد نشب الخلاف بينه وبين علي؟ فتقول: نعم ولابد. ثم أسألك: ألست تعلم أنه كان لهذا شيعة ولذاك شيعة؟ فتقول: نعم، ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن كل شيعة قد غلت في صاحبها وتعصبت له؟ فتقول نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الأمر حين انتهى إلى معاوية واجتمع عليه الناس في عام الجماعة إذ أسلم إليه الحسن أمر الخلافة -لم تزل شيعة على باقية في الناس كشيعة معاوية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الخلاف بين الشيعتين ظل مستعرًا مدة بقاء معاوية ومن بعده؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الحسين بن علي قتل في
عهد يزيد بن معاوية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن مقتل الحسين وما تبعه من الحوادث في عهد يزيد بن معاوية قد أوقد نار العداوة بين شيعة على وشيعة معاوية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن شيعة كل منهما قد انتشرت في الناس بما بينهما من العداوة؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن من هاتين الشيعتين العالم والجاهل؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن كل عالم أو جاهل كان يحدث عن خبر شيعته وخبر شيعة عدوه؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك ألست تعلم أن هذه الأخبار ربما كان فيها الصحيح والسقيم والصادق والمكذوب كما يكون في كل شيعتين متنابزتين؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن الأمر سار على ذلك إلى ما بعد انقضاء دولة بني أمية؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أنها استمرت إذن على ذلك منذ سنة 40 من الهجرة إلى وقت تدوين الكتب، أي في أواخر القرن الأول؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أنه ليس في أيدى الناس كتاب مكتوب قبل ذلك العهد؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن طريق القوم كان هو الرواية فحسب؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم عندئذ أن العقل يوجب أن تعرف راوي كل خبر حتى تتبين من أي الشيعتين هو؟ فتقول: نعم ولابد. فأسألك: ألست تعلم أنه ظلم قبيح أن تأخذ الخبر لا تدرى من رواه، فتطعن به في أحد الرجلين، معاوية أو على، وأنت لا تأمن أن يكون كذبا صرفا؟ فتقول: نعم ولابد.
فإذا صح كل هذا عندك ولم تشغب عليَّ فيه، فإني أراك رجلا صالحا، فهل تظن، ولا أقول هل تحقق عندك، أن هذا الطَّعَّان في معاوية وأهله، قد ميز هذا كله قبل أن يكتب ما كتب؟ فإن كان قد صح لك، فأنا أحب أن أعلم كيف صح لك، حتى أتبعك على الحق. وإن لم يكن صح عندك، وهو لم يصح عندي بعد، فدعني عند قولي لك: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلى واذكرني دائما بأني لا أعد أمثال هذه الروايات المجردة من رواتها، وفي مثل هذا الموضع المشتبه من العداوات، شيئًا يمكن أن أسلم به. فإني لا أحب أن
أستهلك عقلي في العبث والجهالات. واعلمْ أنى لا أنقاد لما لا بينة عليه، وأن للعقل شرفًا لا يرضى معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب. ولو أنت لم تعجل لكان البيان آتيك بعد قليل عن الذي أستطيعه من ذلك وما لا أستطيعه، غفر الله لك، أقولها خالصة من قلبي، بلا مسوح وعظ أو إرشاد!
وأنا أخذتك من أهون المآخذ في طريق العقل، فهناك طرق أخرى أشق وأصعب في تمييز هذا العبث لم أدفعك إليها، وأرجو أن تصبر حتى تعرفها يوما، أو أن تحاول أنت أن تصل إليها بما أوتيت من حسن العقل، فإن المحاولة خليقة أن تفضى بك إليها. ولكن شرطها أن تدع العصبية لآراء الرجال، وبخاصة إذا كان هؤلاء الرجال ممن يبنون أقوالهم على الغلو والتسرع وسوء الفهم، وقبح المقصد، ومعاندة الحق لهوى في النفوس يعلمه الله وحده، ولكن يدل مطلعه على أنه هوى. فإذا فعلت استطعت أن توفر على نفسك مطالبتي بنقد الحوادث التاريخية التي رواها صاحبك "نقدا موضوعيا"! ومع ذلك فسأفعل حيث كتبت كلامي ما يرضيك. ولكن على شرط أن أجد عندك ما أحب لك من حسن الظن فيك: أن تعرف أن النقد الموضوعى الذي زعمت، ينبغي أن يسبقه التحقق من صحة هذه الحوادث تحققًا ينفي كل ظنة. وأستطيع أن أظن أنى قدمت لك في هذه الكلمة ما يجعلك تقف من هذه الروايات التاريخية! موقف المتردد على الأقل، أنفة لعقلك وأدبك أن يزلا حيث زل من دافعت عنه.
أما الموضوع الذي نصبت له كلامي في مجلة "المسلمون" فهو سب الصحابة، وأظن أن الأستاذ يوافقني على أن كلام صاحبك خرج أولا عن أن يكون تخطئة لمعاوية، ثم خرج عن أن يكون طعنًا فيه، ثم خرج عن أن يكون سبا. خرج من هذه المراتب الثلاث إلى مرتبة رابعة، هي أن معاوية برئ من الإسلام، والإسلام برئ منه. فأدنى مراتب هذا القول أن يكون منافقًا، وآخرها أن يكون كافرًا بما جاء به الرجل الذي آمن به المسلمون وأمروا أن يسموه "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن العسير أن أكتب في هذا الموضوع الآن دون أن أتوشح بذيل من ذيول
"مسوح الوعظ والإرشاد"، فليأذن لي الأستاذ قليلا أن أَرُدَّ فضلة من الثوب الذي خلعت حتى أستطيع أن أوضح له:
زعمت يا سيدي أن لي رأيًا، فقلت إني أثرت هذه العاصفة وحجتي الوحيدة:"أن كل صحابى رأى الرسول وسمع عنه قد اكتسب مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءه أو يظهر أغلاطه". ويلك! نسبت إلى شيئًا لم أقله قط كما ستعلم بعد. فلا تنس إذن أن مثل هذا جائز أيضًا أن يكون وقع من مثلك قديما، فنسب إلى معاوية شيئا لم يقله كما نسبت أنت إلى شيئا لم أقله. ولكني كنت أحسن حظا من معاوية رضي الله عنه، فإن كلامي مكتوب منشور، أما معاوية، فقد روى الناس عنه شيئا ذهب أصله، لأنه لم يكتبه كما كتبت. صدقنى، فلست أدري من أين فهمت هذا الكلام الذي ترجمته؟ ولكن عذرك باد ظاهر، فإن دفاعك عن صاحبك دليل على أنك على الأقل تفكر كما يفكر، وهذه الطريقة هي نفسها طريقته التي أدعوك إلى فراقها حتى لا تهلك عقلك فيما لا يجدى. والذي قلتُه بعد الخطبة المنبرية التي زعمتها، والتي بدأتُها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا أصحابي. . . ." هذا نصه: "وليس معنى هذا أن أصحاب محمد رسول الله معصومون عصمة الأنبياء، ولا أنهم لم يخطئوا قط ولم يسيئوا، فهم لم يدعوا هذا، وليس يدعيه أحد لهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكن الله فضلهم بصحبة رسوله، فتأدبوا بما أدبهم به، وحرصوا على أن يأتوا من الحق ما استطاعوا، وذلك حسبهم، وهو الذي أُمِروا به، وكانوا بعد توابين أوابين كما وصفهم في محكم كتابه. فإذا أخطأ أحدهم، فليس يحل لهم، ولا لأحد ممن بعدهم، أن يجعل الخطأ ذريعة إلى سبهم والطعن عليهم. هذا مجمل ما أدبنا به الله ورسوله. بيد أن هذا المجمل أصبح مجهولًا مطروحا عند أكثر من يتصدى لكتابة تاريخ الإسلام من أهل زماننا، فإذا قرأ أحدهم شيئا فيه مطعن على رجل من أصحاب رسول الله سارع إلى التوغل في الطعن والسب بلا تقوى ولا ورع. كلا بل تراهم ينسون ما تقضى به الفطرة من التثبت من الأخبار المروية، على كثرة ما يحيط بها من الريب والشكوك، ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار،
ومن العلل الدافعة إلى وضع الأحاديث المكذوبة على هؤلاء الصحابة"، (مجلة المسلمون عدد 3 ص 247).
وأنا أكره أن أنقل كلاما لي من مكان، ولكنك استكرهتنى على نقله، حتى لا يقع في عقل أحد من قراء الرسالة، أنى مستطع أن أقول هذه القالة المنكرة القبيحة بكل مسلم: إن للصحابة مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءهم أو يظهر أغلاطهم. هذه يا سيدي كلمة قبيحة جدا، وأقبح منها أن تجعلها ترجمة لكلام مكتوب باللغة العربية التي تكتب بها وتقرأ فيما أظن، ثم تنسبها إلى امرئ يعرف حق الكلام ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وما يوجبه اللفظ من المعاني، وما يتناوله من دقيق الاستنباط. وأنا أشهد كل قارئ أنى لم أقل ما قوَّلتنيه، وأدع له حق الحكم بيني وبينك أن يكون في كلامي حرف واحد يدل على أنى أردت بعض هذا المعنى الذي ترجمته كما ترجم صاحبك تاريخ معاوية ومن معه من الصحابة وتاريخ سائر بنى أمية. أفتظن أن قولى إنه لا يحل لأحد أن يجعل "خطأهم" ذريعة إلى سبهم والطعن فيهم معناه أنهم لا يخطئون، أو أن أخطاءهم لا تنقد؟ وأين ذهب عمري إذن، إذا كنت لا أعلم أن الصحابة أخطأوا، وأن علماءنا رضي الله عنهم، قد بينوا أخطاءهم حتى فيما هو من أمور دينهم؟ ولكن فرق كبير بين أن تذكر عمل الصحابي أو قوله، وتأتي بالبرهان على أنه مما أخطأ فيه، وبين أن تجاوز ذلك إلى الطعن فيه، ثم إلى سبه، ثم إلى إخراجه عن الدين، كما فعل صاحبك. وهذا فرق ليس بالخفي فيما أظن؛ ولا أظنك إلا تورطت فيه من شدة أثر صاحبك عليك، حتى خدعك عما أنت خليق أن تكون من أهله. هذه واحدة أرجو أن تكون راجعا عنها منتفيا من سوء أثر صاحبك عليك فيها.
وأخرى تبين فيها سوء أثر صاحبك عليك: وهي تحديدك، فيما تزعم، لمعنى "الصحابي" واستدلالك بالكلمة التي جاءت في الخبر عن عبد الله بن أبي "معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". فهذه كلمة ذكرها، يخشى أن تدور على ألسنة المشركين الذين لا يميزون مؤمنًا عن منافق، وكلهم عندهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا أن رسول الله يسمى المنافقين أصحابًا له! !
وكيف وقد نزل عليه من ربه نفاقهم وكفرهم، ونهاه أن يصلى عليهم، وبينهم له بأعيانهم، فمعاذ الله أن يسمى رسول الله أحدًا من المنافقين الذين يعلمهم "صاحبًا". فمن سوء الأدب أن يقول مسلم:"فعبد الله بن أُبَيّ من أصحاب محمد كما ينطق الحديث"؛ ومن قلة المعرفة بالعربية أن يقولها قائل، ومن التسرع البغيض أن يلجأ إليها باحث، ومن ضعف المنطق والفهم أن يحتج بها محتج. فهي حكاية قول يخشى أن يقولوه، لا تسمية له باسم الصحبة. أعوذ بالله من الخطل! ورحم الله العرب ولسانهم!
أما ما حاول الأستاذ أن يجعله تحديدًا لمعنى الصحابي، وهو ثلاثة أرباع مقاله، فأظننى لم أفهمه، ولم أدر ماذا كان يريد أن يقول ثم أخطأه. وأظن أنه أراد أن يقول في كل ما كتب: أن الصحابى هو الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه وآمن به ولازمه ومات على إيمانه، ولم يرتد. ولم يشهد له رسول الله بنفاق أو لم يُذْكَر فيه حكم خاص من رسول الله. وهذا حق، إلا أن الأستاذ أدخل شرط الملازمة، وهو باطل من وجوه كثيرة، لا أطيل بذكرها. ومع ذلك فإني أؤكد أن معاوية ممن صاحب رسول الله منذ رمضان سنة ثمان من الهجرة إلى أن توفي بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من مهاجره إلى المدينة. وأما أبوه أبو سفيان فقد ولاه صلى الله عليه وسلم نجران وصدقات الطائف، ورسول الله لا يولى منافقًا! ! وأما عمرو بن العاص، فلا أظن الأستاذ يستطيع أن ينكر هجرته ومصاحبته وبلاءه في الإسلام، وأما هند فأسلمت يوم أسلم زوجها أو بعده بيوم في سنة ثمان من الهجرة. وهجران الأستاذ لمعرفة تاريخ هؤلاء الأربعة، عادة اكتسبها من الكتب التي يقرؤها، كتب تُكْتَب بلا بينة ولا حذر ولا معرفة.
ولا أظن أني قرأت كلاما لم أفهمه، كالذي قرأته في مسألة الصحابة، وإن كان الأستاذ بالطبع يظن بكلامه غير ما أظن، ولكني أنصحه مرة أخرى أن يلتمس العلم في كتب من يُلْتَمَس عندهم العلم. وإذا كان يخشى على دينه -ومعذرة من ارتداء مسوح الوعظ والإرشاد- فليأخذ أمر دينه عن ثقة في تمييز الصحيح من
الزيف، والحق من الباطل، وليدعْ أصحاب الأهواء حيث رضوا لأنفسهم منازلهم من مزالق الهوى. وليستغفر ربه من الكلمة الكبيرة التي قالها حمية لصاحبه وغضبًا أنه "قد يوجد في القرن العشرين من هم أفضل بكثير من بعض من عاصروا الرسول العظيم". والظاهر أن الأستاذ لا يعيش في هذا القرن العشرين عيشة العارف البصير. والظاهر أيضًا أنه محتاج إلى معرفة كثير مما خفي عليه من شؤون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أمر دين الله الذي أكمله للمؤمنين، وأتم عليهم نعمته، ورضيه لهم ولنا دينًا. ونصيحة أخرى إلى الأستاذ أن يضع عن يده عبء القلم، فإنه ثقيل ثقيل. ولولا الحياء من أن أترك كلامه ومنطقه في الكتابة بلا مجيب، لخففت عنه ثقل الكتابة، وثقل الفكر، وثقل القلم جميعا، بالصمت عما جاء به ودهوره (1) في أمور قلت معرفته بها، ويعجز فكره عن معاناتها والسلام.
(1) دَهْوَرَ كلامَه: قَحَّم بعضَه في إثر بعض من غير فكر ولا رويَّة.