الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفن ومعجزات الحضارة والعلم، ونزلَ المنازل المتَبرِّجة بفتَنها في عواصم المدن الأوربية، وعبَّ من مُسكرَاتِ الجمال الفطريِّ والصناعيِّ البديع الذي تستجيده أنامِلُ الحضارة الرقيقة العابثة اللاهية، والتي لم تدع للفنّ مَعقلًا إلا لعبت به واستخرجت كنوزه وتلاعبتْ بها على أصول أخرى غير التي بنى عليها الفن القديم البارع المحكم، وعرضت له الصور التي تفتن الناس بجمالها وتهدمهم بفتنتها، وتقعُ في دمائهم موْقعًا لا تلبث معه إنسانية الإنسان أن تشتعل من جميع نواحيها بلهيب من اللذة والسكر والفرح. . . كل ذلك هزَّه وهزَّ أعصابه وألقى عليه من وحيهِ وتركه يقول من الشعر على السجية غير متكلِّف ولا مُنقِّح ولا راغبٍ في الكد والعناء و. . .، والحنبليَّة الفنية التي تريد البديع، فإذا أدركته طلبت الأبدع، فإذا بلغت تسامت إلى ما هو أبدع منهما، لا تهدأ ولا تقرُّ ولا تستريح إلى جميل.
كان هذا -فيما نرى- وكانت نفسه الشاعرة المتلقِّفة -والتي تهجم بعينيها على أَبكار المعاني بنشوة الشباب العِربيد- تتلفت تلفُّت الصائد، تكاثرَ الصيد بين يديه، فما يدرى ما يأخذ وما يدع، وهو مع ذلك لا يزال يذكر صِغاره وأحبابه وهوى قلبه، ومن يريد أن يصنع لهم حياةً من صَيده؛ فهو يتلفَّت إليه بقلبه حنينًا وذكرى وصبابة. فهذه العواطف الدائبة في تكوين شاعريته، والتي تلوّنها بألوانها وتخاريجها، هي التي جنحت به إلى السهولة والرقة والغزل الحُلو بينه وبين معانيه وألفاظه، ومن غير الممكن أن يتقيد الغزل الشعري بقيودٍ تضبطه، وإلا انقلب تكلفًا واستكراهًا وجفوة.
الجندول
وإذا أردت أن تعرف صدق الذي قلنا به من العوامل الجديدة في تلوين هذا الشعر، فخذ هذه الأغنية الجميلة التي ترنَّم بها الشاعر الموسيقي، ثم أعطاها الموسيقيّ البارع "عبد الوهاب" تغريدها في ألحان هي من شعر الموسيقى. . . .
فإن الشاعر حين لعبت به فتن "عروس الإدرياتيك" في كرنفالها المشهور، ودَفِئ دَمُه في أنفاسها الحبيبة المعطَّرة وفجأته فِتنة من فِتَنِهِ التي عرضت في
صبابته. . . أَرَقَّ فتنة في أحلى جوٍّ في سِحر الليل المضئ في أجمل فن الحضارة في أَحْفَل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها -لم يستطع ضَبْط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم:
أين من عينيَّ هاتيك المجالى
…
يا عروس البحر يا حلم الخيالِ
أين عُشَّاقُك سُمَّار الليالي
…
أين من واديك يا مهد الجمالِ
ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنَّةِ وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله:
"أنا من ضيَّع في الأوهام عمره"
بعد أن قال:
ذهبيُّ الشعر شرقي السماتِ
…
مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات
كلما قلت له: خذ، قال: هات
…
يا حبيب الروح، يا أُنس الحياة
كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنَّه نسى الدنيا التي ولد فيها كما "نسى التاريخ أو أنسى ذكره". . . . ولكن لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتًا مؤثرًا عجيبًا، هو دليل الشاعريّة الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول:
قال: من أين؟ وأصغى ورنا
…
قلت من مصر، (غريب) هَهُنا
(غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانتها من ألفاظها وفي أقصى مدِّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت شعر "على طه" بعد رحلته إلى أوربا، لو قال:(من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لانسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول
واللجاجة. . . ثم هي بعد ذلك التفات يخيل لك معه أن الشاعر قد رد فقال: من مصر، ثم انتقل بوجهه إلى مصر، وتلقى دمعة يموِّهها بيده ويمسح أثرها بمنديله -في هذا الجو المرح العابث اللاهي- وهو يقول:(غريب ههنا).
هذا. . . وقد أخذت هذا الموضع وحده من القطعة لشهرتها الآن وليتدبر من يسمعها فإن فيها من أمثال ذلك كثير، مما هو دليل الشاعرية الناضجة التي لا تخطئ معانيها. ولو أخذت سائر شعره على هذا الأساس الذي كشفنا لك عنه في حديثنا عن الشعر لوقفت على روائعه التي هي روائعه.