الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الرافعي والعقاد
- 3
-
ثم ماذا؟ ثم يقول الأستاذ سيد قطب في ثالث أدلته على أحكامه: "يقول العقاد في طرافة ودُعابة عن حِسان شاطئ استانلي! !
ألقى لَهُن بقوسه
…
قُزحٌ وأدبر وانصرفْ
فلبسنَ من أسلابه
…
شتى المطارف والطُّرفْ
فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول: فقزح لا يلقى قوسه أبدًا إذ لا ينفصل منه. قال في اللسان: "لا يفصل قُزَح من قوس". فإذا امتنع فكيف يقال: "أدبر وانصرف". أما قزح العقاد، فلعله الخواجة قزح المالطي مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلي الذي قيلت فيه القصيدة.
ثم يقول إن هذا المثال "فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخسُّ من السابقة، ففي الأولى كان تلاعبًا بصور ذهنية، وهو هنا تلاعبٌ بألفاظ لغوية! ".
أوَّلا، فمن ذا الذي يغفُل عن طرافة هذا "الخيال" الذي يتصور "قُزحًا" ملقيًا بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرفٌ، مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلبَ جمالهنَّ جماله! ألا تستحق مثل هذه الطرافة، ومثل تلك الحيوية! من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك، هل يفصل قوس عن قزح أو لا يفصَل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال! !
(*) الرسالة، السنة السادسة (العدد 255)، 1938، ص: 851 - 854
أهذا هو النقد الذي هو "أقرب إلى المثال الصحيح"؟ وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء.
ثم يعود فيقول عن هذا المثال أنه يمثل "تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تُشِعُّه في الخيال من صور طريفة" انتهى كلام الأستاذ الجليل.
* * *
ومن أعجب العَجَب أن يُعدَّ اعتراض الرافعي ونقده هذا البيت تلاعبًا بالألفاظ اللغوية، ولا يكون هذا الشعر نفسه قد بُنى على التلاعب في غير طائل، وعلى تكلف اللفظ لترميم قافية البيت. وأول ما نقول في هذا أننا نخالف بعض رواة العربية ثم الرافعي في أن يلزم أحد هذا الحرفين صاحبَه على كل حالة وفي كل ضرب من ضروب القول.
وبيان ذلك أن لأصحاب العربية في هذا الحرف (قُزَح) ثلاثة أوجه من الرأي:
الأول: أن (قُزَح) اسم شيطان، أو اسم ملك موكل به.
والثاني: أن (القُزَح) هي الطرائق والألوان التي في القوس، والواحدة قُزْحة.
والثالث: أن يكون من قولهم: قزح الشيء، وقحزَ إذا ارتفع.
قلت: وكأنهم أرادوا أن يجعلوه معدولا به عن (قازح)، وهو المرتفع ففي الوجه الأول لا يضير أن ينفصل الحرفان، إذ كان (قوس) اسم جنس، و (قزح) اسم علم بعينه، وأضيف أحدهما إلى الآخر إضافة نسبة. فهو بمنزلة قولك (كتاب محمد). ومن هنا جاز أن يبدلوا تسمية العرب الأوائل فقالوا له:"قوس الغمام" و"قوس السحاب". ويقول ابن عباس رضي الله عنه: "لا تقولوا قوس قُزَح، فإن قزح من أسماء الشياطين. وقولوا (قوس الله) عز وجل. وعلى هذا يجوز قول القائل: "ألقى قُزح قوسه" بإضافة القوس إلى ضميره، على أن الشيطان، أو المَلَكَ الموكل بالقوس قد ألقى (قوسه).
وأما الوجه الثاني والثالث فلا يجوز الفصل معهما البتة على إرادة (الاسم) الذي تعرفُ به هذه الطرائق المتقوّسة التي تبدو في السماء. فإن الحرفين على
حالتهما ينزلان منزلة الكلمة الواحدة إذ ذاك. وللقول في هذا مجال ليس هنا مكانه ولا أوانه.
ونحن نرى أن العقاد قد ذهب -وإن لم يرد ذلك- إلى الوجه الأول، وأن شعره يحمل على رأي جائز في العربية.
هذا، وقد ذهب الرافعيُّ نقد بيت العقاد إلى رأي أصحاب اللغة في امتناع الفصل بينهما، وأن الحرفين كالكلمة الواحدة على تتابعهما. وعلى ذلك لا يقال "ألقى (قُزح) قوسه" وأولى إذن ألا يقال إن (قُزَح) أدبر وانصرف، لأنه ليس بذاته يدُلّ على معنى، أو يقع اسمًا لشيء بعينه، فهو إذن لا يجوز عليه الإسنادُ إسناد الخبر أو الفعل كالإلقاء والإدبار والانصراف. فأين التلاعبُ في هذا الرأي باللفظ اللغويّ؟ ولو قد كان وقع في بعض كلام الرافعي فصل أحدهما عن الآخر لأمكن أن يقال إنه يتلاعب باللفظ، ولكن ذلك لم يكن. .!
وأما الأستاذ العقاد فقد نقد رواية قمبيز في سنة 1932، وجعل من ملاحظاته أن هذه الرواية "لم تخلُ من مخالفة للنحو والصرف في القواعد المنصوص عليها"، وأتى في هذا الموضع من نقده بما خطأ فيه شوقي، وليس بخطأ.
يقول شوقي على لسان أحد المجان (ص 32).
أَلقَدَحَا أَلْقَدَحا
…
الخمر تنفي التَّرَحا
قصرًا أرى أم فَلَكا
…
وشجرًا أم قُزحَا
ثم علق (شوقي) في الوجه (32) نفسه فقال: "قالوا: إن قزح لا يفصل من قوس، ولكن الناظم لم ير بأسًا في فصله لسهولته وكفاية دلالته" انتهي. ونحن نجيز هذا في العربية ولا ننكره.
قال ذلك شوقي في التعليق، ثم جاء الأستاذ العقاد في كتابه (رواية قمبيز في الميزان) يقول ص 15 ". . . . ويقول (قُزَح) ولا تذكر قُزَح إلا مع قوس". وَبينٌ أن كلام الأستاذ العقاد ليس عربي العبارة، فإن أصحاب العربية منعوا (فصل) قُزَح من قوس، ولم يمنعوا (ذكر) قزح إلا مع قوس. والفرق بين اللفظين كبير. وبينٌ أيضًا أن هذا ليس نقدًا فإنه لم يأت بأكثر من تكرار ما ذكره شوقي في تعليقه،
وكان الوجه أن يبين فساد رأي (الناظم) إذ لم ير بأسًا في الفصل للعلة التي ذكرها.
ومع ذلك. . . . فقد كان نقد العقاد في يونية سنة 1932، ولم تمض ستة أشهر أي في يناير سنة 1933 حتى فصل العقاد نفسه بين (قزح) وقوس في شعره هذا! ! فلعل هذا أن يكون بالتلاعب بالألفاظ اللغوية أشبه، وبتصريف النقد على الهوى أمثل. وأما بيتا العقاد:
ألقى لهنَّ بقوسه
…
قزحٌ وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه
…
شتى المطارف والطرف
فقد بنيا على ألفاظ يدفع بعضها بعضا عن معنى يولده -من لفظ (القوس) التي هي من آلات القتال. وكان سبيل التوليد هكذا: القوس من آلات القتال، واستعيرت للطرائق في السماء مضافة إلى (قُزَح)، فيكون ماذا لو أنشأ من لفظ هذا القوس صورة للقتال بين (قُزَح) وبين جميلات شاطئ استانلي؟ ويكون ماذا لو زعم أن الجميلات انتصرن على (قُزَح) صاحب القوس، فألقى سلاحه ثم أدبر وانصرف؟ ويكون ماذا لو جعل ألوان (قوس قزح) أسلابًا كأسلاب المحاربين في القتال ظفر بها الجميلاتُ بعد انهزام (قزح)؟ ويكون ماذا لو زعم أنهنَّ اتخذن هذه الألوان مطارف وطرفا يلبسنها ويتحلين بها؟ وهكذا
وهو توليد كما ترى، وتوليد من لفظ واحد. ونحن لا نرى بأسًا -وإن كنا لا نرتضيه- أن يأتي الشاعر بالمعاني مولدة من ألفاظ اللغة، فإن من بعض اللفظ في العربية لما يُضرم الفكر ويُؤرث المعاني ويستفزُّ الخيالَ إلى أعلى مراتبهِ. على أن هذا لا يتحقق إلا أن تستقيم الطريقة للفكرة، ويتراحب المجال للمعاني، ويسمو المدى بالخيال، على أن تصحَّ المقابلةُ بين معاني اللفظ وسائر الصور التي تتولد منه.
والمقابلة في هذا الشعر فاسدة باطلة. فهي مقابلة بين (قزح) وبين الجميلات على شاطئ استانلي، ثم بين الطرائق المقوسة ذات الألوان في السماء (القوس) وبين ما ترتديه الجميلات من مطارفهن. وكان حق المقابلة أن يكون (قزح) هذا
مشتهرًا بالجمال موصوفًا به، حتى إذا ما ذكر في معرض الكلام عن الحسان الجميلات تمت المقابلة بينه وبينهن. فإن لم يكن ذلك كذلك، فلا أقل من أن يكون في الشعر ما يدل على سبب (حالة الحرب) التي أنشبها الشاعر بين حسان شاطئ استانلي، وبين العم (قزح)، ثم ما كان من علة لإلقاء سلاحه ثم انهزامه وإدباره.
فأما إذ لم يكن (قزح) جميلًا، ولم يأت الشاعر بسياق جيد لهذا التوليد، فقد بطلت الأفعال التي أسندها إلى (قزح) من إلقاء قوس وإدبار وانصراف، وما أضافه إليه من الأسلاب، وصار كله لغوًا لا فن فيه. وهذا الضرب خاصة من ضروب الشعر الذي يتضمن التصوير والوصف لا يأتي جيده إلا على دقة الملاحظة، وتقدير النِّسب بين الألفاظ والمعاني والصور. فلو اقتصر الشاعر فجعل (قزح) يهدى إلى الحسان تحاسين قوسه، فاتخذن منها (شتى المطارف والطرف) لكان أجود وأقرب الى الإتقان. أما إعلان الحرب بينهما فليس جيدًا ولا براعة فيه كما رأيت.
وقد أجاد ابن الرومي -ويقال إنها لسيف الدولة- إذ يقول:
وقد نشرت أيدي الجنوب (مطارفًا)
…
على الجو دُكنًا، والحواشي على الأرض
يطرّزُها (قوس السحاب) بأصفر
…
على أحمر في أخضر وَسط مُبيض
كأذيال خوب أقبَلَت في غلائل
…
مُصَبغة والبعض أقصر من بعض
وهو قريب جيد في الوصف
ونحن لا نذهب مع الأستاذ قطب فيما يتخير من اللفظ لوصف هذا الشعر وما فيه، بذكر (الطرافة) و (الدعابة) و (الخيال) و (الحيوية) و (معرض الجمال)، وما إلى ذلك من ألفاظ لو أقيم ضدها مكانها لقام، إذ كان لا يبين أسبابها ولا يوجه معانيها ولا يأتي كلامه في مثل ذلك إلا على طريقة صاحب كتاب
(الوشى المرقوم في حل المنظوم) إذ يقول: "أولا فَمَنْذا الذي يَغْفُل عن طرافة هذا "الخيال" الذي يتصور "قزحًا" ملقيًا بقوسه لهؤلاء الحسان. . . . إلخ".
وقد وضح الآن أن ليس في كلام الرافعي تلاعب بالألفاظ اللغوية، وأنه ليس في هذه الألفاظ ما يجعلها "تشع في الخيال صورًا طريفة"، وذلك لما ذكرنا من تخالف ألفاظها وتدافعها وبُعد صورها عن جودة التوليد، إذ كانت هذه الصور مولَّدة من اللفظ على غير نسق متصل أو طراز جميل.
ثم .. أتى الأستاذ قطب بالمثال الرابع فقال: "ويسمع العقاد صيحات الاستنكار لِلَهْوِ الشواطئ، وما تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب بالحيوية والجمال:
عيد الشباب، ولا كلا
…
م، ولا ملام، ولا خَرف
فإذا الرافعي يقول: "إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه:
عيد الشباب، فلا كلا
…
م، ولا ملام، (بلا قرف)!
ثم يقول بعدُ إن هذا المثال يغنيه الرافعي عن الحديث فيه "فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم استغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد، وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد، وقيود العُرْف، ولم يجد ما يقوله إلا "بلا قرف" وهو قول لا تعليق لنا عليه".
ثم يعود فيقول: إن هذا يمثل هروب الرافعي "من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف -في رأيه- بنكتة أو تهكم أو شتيمة".
وأنا لا أعجب لكلام الأستاذ سيد قطب، لأنه على طريقته في حل المنظوم، وإن أعجب فعجبي لصاحب "وحي الأربعين" كيف ارتضى أن يثبت البيت في قصيدته، وفي عقب هذه القطعة بالذات، وينتقل من الوصف والتأمل وإمتاع النظر، وإمداد الفكر بأسباب من الجمال، أو كما يقول الأستاذ قطب من الطرافة والدعابة والخيال والحيوية! إلى صيحة الاستنكار والتفزع بقوله: "فلا ملام
ولا كلام" (1) ثم الغضب الذي لا يتورع في قوله: "ولا خرف". إن هذا الانتقال ليس من منطق الفن ولا من نهجه وسبيله.
وما أظن الرافعي أراد أن ينقد البيت -لأنه ليس بسبيل مما يحسن أن يُنقد، وإنما وضعه هكذا للعقاد وهو يريد ما قلناه في كلمتنا الأولى مما جرَّته العداوة التي اضطرمت بينهما.
* * *
وبعد فقد قرأت كلمة الأستاذ الجليل المهذب سيد قطب في البريد الأدبي من العدد السالف من الرسالة، وقد أعلن فيها بعض رأيه فيما نكتب، وحكم بحكمه على ما قلناه، وحاول أن يتهكم، ووعظ وذكر. ونحن ندعه لما به عسى أن يرى يومًا غير هذا الرأي، وله الشكر أحسن أو أساء.
(1) هكذا كتب شيخنا محمود شاكر، أما سياق الكلمات في البيت فهو "فلا كلام ولا ملام".