الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الرافعي والعقاد
- 4
-
وبعد، فقد فرغنا في الكلمات السالفة من الحديث فيما هو "بين الرافعيّ والعقاد"، ممّا جاء في كلام الأستاذ الفاضل سيد قطب. ثم رأينا الأستاذ يبدأ ضربًا من القول هو إلى رأيه في كلام الرافعي وحده، ليس يدخله ذكر العقاد إلا قليلا. وقد كان بدء حديثنا محددًا بالرافعي والعقاد معًا. فنحن نرى أن عملنا قد انتهى إلى نهايته في هذا الغرض من القول، ولذلك، ليس يضيرنا الآن أن نسكت إلى حين يفرغ الأستاذ سيد قطب مَمَّا يسر الله له القول فيه مما يسميه نقدًا.
وأول ما يجب علينا أن نقوله للأستاذ الفاضل بعد الذي كتبناه أنه يسئ بنا الظن بلا دليل ولغير عِلة. يتزعم أن في حديثنا (غمزًا ولمزًا وتعريضًا به) وكذا وكذا، ونحن نكرم أنفسنا وقلوبنا وضمائرنا وألسنتنا عن هذا الضرب من القول، ولو أردناه لمضينا على عادتنا من التصريح دون التلويح، ولقلنا له من القول ما هو حق لا كذب فيه .. حق يدافع عن حقيقته بالبيان والحجة والوضوح، والأدب الذي يعفُّ عن دنيات المعاريض وسفاسف الأخلاق.
وليعلم الأستاذ قطب أني إذا أحببت لا أغلُو، ولا أتجاوز حد الحب الذي يصل القلب بالقلب، ويمد الروح بالروح، ويجعل النفس في فرح متصل بسببه، أو حزن آت بعلته، فهذا أخلق الحب أن يخلو من سوء العصبية، وفساد الهوى، وقبح الغرض. فلا يجدني أرفعُ الرافعي عن الخطأ، ولا أجله عن الضعف، ولا أنزهه عما هو في عمل كل إنسان حي ناطق يأمل ويتشهي. مما يسمى بأسمائه حين يعرض ذكره. وفي كل أحد ممن خلق الله على صورة (الإنسان) ضروبه من الشمائل والسجايا والأخلاق والآداب، ليس يطلع طلعها إلا الله -جل
(*) الرسالة، السُّنّة السادسة (العدد 256)، 1938، ص: 902 - 903
جلاله-، ورب رجل صافٍ كنور الفجر يخبأ من ورائه مظلمة من سواد الليل.
ولقد عرفنا الرافعي زمنًا -طال أو قصر- فأحببناه ومنحناه من أنفسنا ومنحنا من ذات نفسه، ورضيناه أبًا وأخًا وصديقًا وأستاذًا ومؤدبًا، فلم نجده إلا عند حسن الظن به في كل أبوته وإخائه وصداقته وأستاذيته وتأديبه. ولقد مات الرافعي الكاتب الأديب وهو على عهدنا به إنسانًا نحبه ولا ننزهه، ثم جاء الأستاذ سيد قطب بحسن أدبه يقول في الرجل غير ما عهدناه. . . . يؤوّل كلامه ويأخذ منه ويدع ويتفلسف ويحلل ويزعم القدرة على التولج في طويات القلوب وغيب النفوس فيكشف أسرارها ويميط اللثام عما استودعن من خبيئاتها، ثم هو في ذلك لا يتورع ولا يحتاط، ولا يَرعى زمام الموت (1)، ولا يوجب حق الحي.
لقد كتب الأستاذ ما كتب، فقرأ كلامه من قرأ، أَفَيجدُ في هؤلاء من يقول له أصبتَ؟ ومن يقول له أحسنت؟ ومن يزعم أن ليس له مندوحة عما اتخذ من اللفظ في ذكر الرافعي وصفته والحديث عنه وعن أدبه وشعره؟ أما يجدر بالأستاذ الفاضل أن يعود إلى بيته هادئ النفس مخلى من حوافز الحياة الدنيا، فيقرأ ما كتب مرة أو مرتين. ثم يرى هذا الذي ترك الدنيا بالأمس وحيدًا، وخَلَّف من ورائه صغارًا وكبارًا من أبنائه وحفدته وأصحابه واللائذين به، ثم يراهم يقرأون ما يكتب عن أبيهم وجدهم وصاحبهم بالأمس، ثم يراهم والدمع يأخذهم بين الذكرى المؤلمة والألم البالغ! ولو فعل، لعرف كيف أخطأ ومن أين أساء، ولوجده لزامًا عليه أن يقدر عاطفة الحي، إن لم يعظِّم حرمة الموت، وهذا أمر لا نطيل القول فيه ولا نكثر من لوم الأستاذ عليه، فإن مرجعه إلى طبيعته وما تضمره نفسه، وإلى تقديره لعواطف الناس.
ومهما يكن من شيء، فسندع الأستاذ سيد قطب يقول ما يقول، ويذكر من رأيه في الرافعي ما يذكر، ويصف أدب الرجل وذهنه وقلبه ونفسه بما يوحى إليه،
(1) زمام الموت: كذا الأصل، والصواب: ذمام (بالذال) وذِمام الموت: حُرمَته.
لا نعقب على شيء منها حتى يفرغ، وحتى يستوفي مادته، ويضع بين أيدينا كل حججه في فن الرافعي. فيوم ينتهي نبدأ نحن القول في الذي قال. . . . لا نرد بذلك عليه قوله، أو نسدد له رأيه، فما لنا بذلك حاجة ولا لنا فيه مأرب، ولكنا نريد إذ ذاك أن نضع رأيه بمنزلة الرأي يقول به فئة من الناس، أو شبهة تحيك في صدر جماعة من الأدباء، فعلينا أن نبين مواضع الخطأ إذا أخطأ، ومكان الصواب إنْ أصاب، وذلك غاية ما نستطيع.
أما ما يوعدنا به الأستاذ الفاضل، وما يسخر به ويتهكم، وما يضمر لنا من (بقايا) كلماته! ! فليقل فيه ما شاء كما يشاء، وسنرده على قدره وفي حد طاقتنا وآدابنا، ولو اجتمع للأستاذ كل سلطان يستطيع به أن يسئ، فأساء إلينا بمثل الذي أساء به إلى الرافعي رحمة الله عليه، فنحن لا نزال -مع كل ذلك- نحترمه. . . . إذ ليس في طاقتنا أن نفعل شيئا إلا أن نحترمه كل الاحترام.