الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخيانة العظمى
. . .!
كثرت لجاجة الصحف البريطانية ومراسليها في مسألة مصر والسودان، ولا تزالُ تلحُّ في ترديد الأقوال التي تشكك في عرض قضية الجلاء عن وادي النيل -مصره وسودانه- على مجلس الأمنِ أو أية هيئة دولية يكون من حقّها أن تنظر مثل هذه القضية، ولم تزل هذه الصحف ومراسلوها يدسُّون كلمة "العودة إلى المفاوضة" دسًّا عجيبًا حيث يحتاج إليها الكلام وحيث لا يحتاج، وهذه عادة قديمة وأسلوب عتيق كسائر أساليب بريطانيا في الخُدَع التافهة التي تسمِّيها سياسة. ولسنا ندري على أيّ أساسٍ يبنى هؤلاء المراسلون، أو الموحون إليهم، كلامَهم وثرثرتهم هذه. ولكن الشيء الَّذي لا نشكّ نحنُ فيه ألبتّة، والذي ينبغي أن تعرفه بريطانيا ومن ترسلهم إلى مصر والسودان ليحملوا إليها أنباء هذه البلاد -هو أن الشعب المصريّ السوداني قد قال كلمته منذ اليوم، وقد قَضى على كل سياسيِّ يخرجُ على إجماع الشعب بالخيانة العظمى كما تفهمها الشعوب- لا كما تفهمها الحكومات. وقد انعقد إجماع الشعب على اختلاف الأحزاب التي ينتمى إليها:
1 -
بأن لا مفاوضة بينا وبين بريطانيا بَتةً وقولا واحدًا.
2 -
وأن الجلاء كلمةٌ يرادُ بها أن تجلوَ بريطانيا عن وادي النيل لا عن مصر دون السودان.
3 -
وأن طلَب الجلاء ينبغي أن يعرضَ على هيئة دولية لها شرفٌ تخافُ أن يُثْلَم، ولها مكانة تتحرَّج عن سقوطها في أعين البَشَر.
4 -
وأن التجربة قد دلَّت على أن بريطانيا خِلْوٌ من هذين الشرطين، وهما شرطان لابُدَّ منهما لمن نرتفع إليه بقضيتنا أو من نفاوضه فيها.
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 716)، مارس 1947، ص: 327 - 330
5 -
وأن كل دعوةٍ يُراد بها أن نعود إلى المفاوضة في حقٍّ من الحقوق المكفولة لسائر البشر، ليست إلا خيانة توجب على مُرتكبها ما توجبه سائر الخياناتِ من قصاصٍ.
6 -
وأن مصر والسودان أمةً واحدة، سوف تتولى بنفسها عقاب كل خائن.
هذا مختصر ما ينبغي لبريطانيا وساستها أن يعلموه علم اليقين.
أما مراسلوها وجواسيسها الذين كُلِّفوا بأن يحملوا إليها الأنباء التي تهتدى بها في سياستها التي تخصُّ مصر والسودان فقد كذبوها أفحش الكذب، لا لأنهم يريدون الكذبَ على أُمَّتهم البريطانية، كلا، بل لأنهم جهلوا كلَّ الجهل طبيعة الشعب المصري السوداني، وخدعتهم الظواهرُ عن حقيقة النار المضطرمة في أحشاء مصر والسودان، منذ استيقن شعب مصر والسودان أن بريطانيا أمة من أخلاقها الغَدْر والوقيعة وإخلاف الوعدِ والتلوُّن في ألفاظٍ من بهرج الكلام وزائفه ونحن لن ننصبَ أنفسنا لإفهام هؤلاء القوم ما طبيعة شعب مصر والسودان، ولكنَّا سنحدثهم عن مسألة المفاوضة نفسها كيف كان من أمرها، ولهم بعد ذلك أن يحكموا بما يشاؤون، فإن إخراجَ الغُرور من رأسِ المغرور أعسر من ردّ النور إلى عيْنَي الأكمه (1)؛ ولاسيَّمْا إذا كان غرورًا بريطانيًّا متغطرسًا.
ففي أوائل القرن الماضي قام في مصر فتى ينادي في جنبات هذا الوادي: "بلادي! بلادي" فهبَّتْ مصر والسُّودان تتلفَّت مستجيبة لهذا الداعي النبيل الصوت، الحبيب النداء، القويّ الإيمان. لقد كانت مصر والسودان هي التي تنادي مصر والسودان، فهي دَمُه، وهي أعصابه، وهي نفْسه، وهي جنانه، وهي لسانه، وهي حقيقته التي صار بها هذا الفتى يُدعى بين الناس "مصطفى كامل". ثم أوحت مصر والسودان إلى فتاها أن يقذفَ في وجه بريطانيا ذاتِ البأس بكلمتها الخالدة:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، لأَن حقيقة مصر والسودان المستقرِّة في بنيان هذا الفتى كانت تعلم من سرّ ضميرها أن هذا هو الحق، وأما كلّ شيءٍ
(1) الأكْمَه: الَّذي يُولَد أَعْمَى.
سواه فباطلٌ وقبضُ الريح، كما قال سليمان. نظرت مصر والسودان إلى هذا الفتى الضئيل المعْرُوق وهي تبكى من فَرْطِ لهفتها وتخوُّفها ومن فرط ما كانت تشعرُ به يومئذ من العجز الَّذي استهلكها وأثقلها عن أن تكون مثله توقُّدًا ونشاطًا وقوة وحياةً، ولكنها آمنت به ورضيتْ عنه وجعلت دمعها شهادةَ الإيمان بحقّه وحقّها الَّذي أجراه الله على لسانه.
ونجمت يومئذٍ فئة من خلق الله الذين شاءَ برحمته وحكمته أن يجعلَ مصر والسودان لهم منبتًا ومَباءةٌ كما جعلها منْبتًا ومباءةً لسائر الهوامِّ وخَشَاش الأرض وهَمج الجوّ، وقامت بريطانيا تتعهَّد هذه الفئة وتغذُوها وترضعُها من دَرِّها بُغيةَ أن تشتدَّ فتكون سباعًا وجوارحَ وأعوانًا لها على الفتك بهذا البلد الأمين، وما هو إلا قليلٌ حتَّى خرجَ منها خلقٌ يعْوى في وجه الفتى وينبَحُ ويهرُّ هريرًا لا ينقطعُ، ولكن مصر والسودان أبتْ إلا فتاها فأطاعتْه وأنكرت تلك الفئة التي نبتت أبدانها على شيء غير نيلها وتربة هذا النيل.
ثم قبض الله إليه فتى مصر والسودان، فخرجت مصر والسودان في جنازته تبكي الصوت الَّذي ردَّد الكلمة الخالدة المنبعثة من سرّ أحشائها:"بلادي! بلادي! لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، خرجت مصر والسودان حتَّى سباعُ بريطانيا وعُواتها ونُبَّاحُها يبكون أيضًا، لأن في دمهم شيئًا من مصر كان يحن بهم إلى صوت بلادها ومأتمها ونواحها.
بقيت مصر تذكُر فتاها، وتسمع صدى كلماته من حيثما تلفَّتت، حتَّى جاءت الحرب العالمية الأولى وخشعتِ الأصواتُ لهدّ القنابل ودوي الرصاص، فما كاد يسكتُ ناطق الحرب حتَّى انبعثت مصر بالقوة الدافعة التي جيَّشَها في قلبها هذا الفتى الشاب، وصرخت في وجه بريطانيا الظافرة:"حقّي! حقّي! أيتها الغاصبة". لم تَهبْ بأسها ولا سطوتها ولا جبروت الظفر المسكِر الَّذي ثملت بنشوته.
ثم كان شيءٌ لا ندري كيف كان! !
كان منطق الحوادث يقضي بأن تردّد هذه الجماهير الثائرة كلمة مصر والسودان الخالدة: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، ولكنها اقتصرت يومئذ على
ما يتضمن ذلك النداء الحكيم الَّذي نادى به فتى مصر فجعلت تقول: "الاستقلالُ التام"، وخرجت بريطانيا تُقتِّل بالرصاص جمهورًا ثائرًا مطالبًا بحقه مستبسلًا في سبيله، فكلما انطلقت رصاصة انطلقت معها صيحةٌ واحدة من حناجر أمة بأسرها:"الاستقلال التام"، فكأنها رأتها تغني عن كلمتها:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". فهما عندها كلمتان مترادفتان.
وألحّت بريطانيا في التقتيل والفتك والعُدوان والبغي، وألحت مصر والسودان في الجرأةِ على باطل بريطانيا مطالبة بحقها وهو "الاستقلال التام"، ولم يكن يدورُ بخلدها شيء إلا هذا النداءُ وحده ليلا ونهارًا وبكرة وعشية ويومًا بعد يوم، ولم يكن يجرى في وَهْم الشعب الثائر المطالب بالحق أنَّ أحدًا سوف يقول: تعالى أفاوضكِ يا بريطانيا! فيَحذر عندئذ حذره ويعود إلى ندائه الأول الَّذي هو الكلمة المستكنة المضمرة في دَمِ هذا الشعب الذكي على قلة علمه، القوي على ضعفِ حيلته.
ثم كانَ شيء لا ندري كيف كان! !
كان زعيم هذا الشعب الثائر "سعد زغلول"، وكان رجلا شيخًا، ولكن ناهيك به من شيخ، وكان خطيبًا حسبُك من خطيب، كان يسمعُ الهمهمة التي تدور في دم الشَّعب ولا تجد لها بيانًا، فيصوغ لها بيانًا من عنده ويلقى به إلى الشعب فإذا هو يسمعُ كل ما في ضميره مترجمًا في ألفاظٍ حية تتردَّد في أذنيه. وفُتِن الشعب بسعدٍ، بلسانه الَّذي ينطقُ بأسراره التي تتحيَّر في دمه ولا يعرفُ كيف يبينُ عنها، وأسلم القياد لرجل يهديه ويرشدهُ ويعبِّر عنه، ويلطم بشيخوخته الوقورة الصاحية شبابَ بريطانيا الظافرة الطائشة السَّكرى براحِ النصر.
ثم كان شيء الله يعلم كيف كان! !
فإذا هذا الشعب المأخوذ بسعد، الفائر بالثورة في طلب حقه المتَهَجّم على بريطانية العاتية، المائج من منبع النيل إلى مصبه يطلبُ الحرية من قيوده وآصاره (1) فتتلقَّاه أسنّة الرماح البريطانية ويتخطّف أرواحه رصاصُ الوحوش ذاتُ
(1) الآصار: جمع إصْر، وهو الثِّقَل، وما يقعد بالإنسان فلا يستطيع حِراكا.
المدنية العريقة منذ كان أرسطو إلى هذا اليوم! ! إذا بهذا الشعب المنادى بالاستقلال التام يسمعُ دعوةً إلى مفاوضة بريطانيا لا يدري أحدٌ كيف جاءت وكيف تدسست إليه، وإذا سعدٌ هو المفاوض، فمشت مصر في آثار زعيمها ثقةً به وتسليما لهُ، ورجتْ لحكيمها الشيخ أن يرتدَّ إليها باستقلالها التام. . .
كان هذا ولا يدري أحدٌ كيف كان! !
ولكن بقيتْ في مصر والسودان بقيَّة لم تزلْ تسمع صدَى كلماتِ الفتى الأوَّل، فهبَّت تصرُخ في وجه الشعب المطالب بالاستقلال التام! ! حذَار حذارِ، وألحَّت في صراخها ولكن مات صوتها في دويِّ الأصوات المطالبة بالاستقلال التام! وفي موْج الجماهير، وفي أزيز الرصاص وهديره وقصفه. وأخيرًا وقف رجلٌ يسخر من كلمة مصر الخالدة:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" سُخرية لاذعة ملفَّفة في ثوب الدُّعابة المحبَّبة إلى هذا الشعب منذ قديم الأزمان، والذي يُدَاعب ويحب الدعابة ولا ينساها وهو في حبل المشنقة، أو في سياقِ الموت. وكانت هذه الدعابة أفْعَل من رصاص بريطانيا وحِرَابها ونذالتها جميعًا في قتل كلمة مصر والسودان:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، حتَّى صار من يقولُ بها معدودًا عند أصحاب العصبيات الجاهلية في عداد المجانين والموسوسين والبلهِ والملاحيس.
نعم كان ذلك ولكن لا ندري كيف كان! !
ولكن بقي شيءٌ واحدٌ جهلته بريطانيا وجواسيسُها، وجهله كل مِفراحٍ طيَّاش من أصحاب العصبيات الجاهلية التي غلبت على قلوبهم وأعمت أعينهم. ذلك الشيء الواحد هو أن المفاوضات ظلَّت تجرى منذ بدأت إلى أن كانت سنة 1936، والشعب يتبَعُ المفاوضة بقلبه عسى أن يرجع إليه الرجال المفاوضون بحق مصر كاملا غير منقوصٍ، وهو من ورائهم يدفعهم دفعًا رجاء أن ينفعهم ذلك فينتفع بنفعهم. ولكن. . . ولكن مرة أخرى، وفي الثالثة كان الشعب يفعل ذلك مجتمعًا، فلو سألتَ كل رجل وكل أنثى وكل طفل أيضًا:"هل ترجو من وراء هذه المفاوضات خيرًا؟ " فهو قائل لك: "يا سيدى، ياما جرَّبْنا" ثم يمضي لشأنه يائسًا تكادُ دماؤه التي تجري في عروقه تبكي من الحسرات التي تقطّع قلبه وتنهش ضمير حياته!
هكذا كانت مصر والسودان برغم المفاوضات الدائرة، وبرغم مطالبة الشعب مجتمعًا أحيانا بهذه المفاوضة. كانت الدّماءُ تجري في الأبدان المصرية السودانية وتُهَمْهم وتدمدمُ، ولكن الرجُل الَّذي يفهم معنى هذه الهمهمة الخفيَّة لم يكنْ موجودًا، وهي لا تستطيع العبارة عن نَفْسها بلسان ناطقٍ مبين. وبقينا جميعًا ننظُر، لأن عبارة أمثالنا لن تؤدّى إلى شيء، إذ لم يكن لأحدٍ يومئذٍ من قوة الاستجابة لنداء الدم المصري السوداني، ولا من استعداد الأبدان والعقول التي تجري فيها هذه الدماء، ما يجعَل لكلمة مصر الخالدة "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" صدًى يتردّدُ فيستجيب له الوادي كُلّه كما استجاب للفتى الأوّل مصطفى كامل، وبقيت الأبدانُ العاقِلَةُ (والتي هي الشعب بأفراده) في ناحية، والدّم الَّذي يجري في هذه الأبدان نفسها في ناحيةٍ أخرى -وجعلَ الله بأسَنا بيننَا، فكانت إرادة الله ولا رادّ لما أراد.
ثم كان شيءٌ ونحن ندري كيف كان.
فقد سكنتْ زمجرة المدافِع، وعجيج القنابل الذرية، وقامَ رجالٌ يريدون مفاوضة بريطانيا، ولكنهم لم يلبثوا إلَّا قليلًا حتَّى سمعوا صوت الدَّمِ المصري السوداني ينطقُ من كُلّ ناحيةٍ لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" فتمَّت المعجزة التي كان كل امرئ يترقَّبها، وكان لمصر والسودان النَّصْر بعد الهزيمة المنكرة الأولى، وظهرت كلمةُ الحقِّ حتَّى صار أكفَرُ الناس بها هو أشدَّهم إيمانًا، وأجودَهم في سبيلها بروحه وحياته، وعادت مِصْر والسودان إلى حقيقتها المستكنَّة في سِرِّ القلوب والدماءِ والأحشاءِ! "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء": كلمة حكيمة صريحةٌ قوية، ظاهرة المعنى، بيّنة الطريق، كريمة المنْبت لأنها بنت مصر والسودان -لا يسخرُ بها بعد اليومِ أحدٌ إلا كان دَمُه هو أوّل من يسخرُ منه ويزدريه ويلعنُه ويبرأ من الانتساب إليه.
هذا ما كان من أمر المفاوضات بيننا وبين بريطانيا، فليفهمه من شاء كما شاء. وليقُل أصحاب الغرور المتغطرس، وليقل أشياعُهم من المضللين: هذا شعر، وهذه عاطفة، ولكنَّها ليستْ بحقيقة معقولة أو تحليل متّزنٍ. ونقول:
نعم! إذا شئتم، ولكنّ الشعوبَ هي العواطف أوّلًا، وعواطف الشعوب أصدقُ حُكمًا من عقول الساسة!
وأخيرًا، ليعلم من لم يكن يعلَم من المتغطرسين أو من الساسة العقلاء الذين أظلَّتهم سماءُ مِصْر، أن دم الشَّعب قد نطقَ بالكلمة المتحيّرة فيه، وأجمعَ عليها، وكتبَ على نَفْسه أن يَنْفِي الخبثَ عن مصر والسودان. ومعنى ذلك أنَّ كل من خرج على إجماعه فقد خانَ وادي النيل خيانة عُظْمى، وأنّه رهنٌ بالقِصاصِ، وأن قصاصَ الشعوب أبقى على وجه الدهر من قصاص الحكومات.
والكلمة الآن لمِصْر والسودان، لا لفلان الزّعيم ولا لفلان السياسيّ -فمن شاء أن يخالف عن كلمة مصر والسودان فليتقدّم، ولينظر ما هو لاق في غد أو بعد غدٍ.