الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السن التي هي علة التوقد الدائم والاهتزاز المتتابع تتابع البرق إذا خفق وومض وضرب بعضه بعضًا بسياط من الضوء في عوارض السحاب. . . وأما لغته، فقد ملك منها ما يكفيه بقدر حاجة بعض إحساسه، فإذا امتدت يده إلى خزائن العربية التي لا تنفد، وتداخل في أسرار حروفها بالمدارسة الطويلة، وتآمرت -ثلاثتُها- على تسنية الأبواب له واحدًا بعد واحد، حتى يستطع أن يستوي على سَرارة (1) المرتبة الأولى للشعر غير مدافع.
هذا. . . وإن في كثير من شعره الذي نشره إلى اليوم، ما يجعلني على ثقة -إن شاء الله - من أنه مدرك ذلك لا محالة، فهو قد استولى على كل ما هو به شاعر، ولا أظن ظن السوء بقدر الله أن يكون هو قاطعه دون المنهج الذي تعبَّد بين يديه، ولم يبق له إلا قليل حتى يبلغ الذروة العليا.
قصيدة الزلزال
وقد قرأت قصيدته (*) الأخيرة في "فاجعة تركيا" -كما سماها- ثم سمعتها، فوجدت لزامًا عليّ في هذا الباب أن أثبت بعض رأيي في الشعر والشاعر، ثم في "محمود حسن إسماعيل" خاصة، ثم في هذه القصيدة، وقبيح أن يجهل مريدو الشعر الجيد هذه القصيدة الفذة، التي تكشف عن السر المستكن وراء هذا الشاعر. وإذ قد عرضنا مرة لبعض الشعر الأسود المظلم، فلا بد إذن من أن نمحو آيته ببعض آيات الشعر المشرق المضئ.
وقد كان "زلزال الأناضول" عذابًا من العذاب الأكبر بأهواله، حتى قالوا إنه أشد ما عرف من الزلازل وأخطرها وأفظعها موقعًا وأثرًا، وقد كان ما تنشره الصحف اليومية من أخباره هولًا هائلًا مفزعًا يكاد يجعل الولدان شيبًا. فلا شك إذن أن يكون هذا الرعب الراجف في إحساس شاعر فزِعٍ "كمحمود" رجفة يُرعد بها رِعدة طائرة مدوية مصلصلة مجلجلة.
(1) سرارة كل شيء: أكرمه وخياره.
(*) وهي طويلة تزيد على ثمانين بيتا، فلذلك لم نستطع أن نستوفي الكلام عنها وإنما دللنا على منهاجها وروعتها (شاكر).
وأنت إذا بدأت القصيدة:
هات الشدائد للجريحةِ هاتها
…
فالصبر في الأهوال دِينُ أُساتها
واحشُد صروفك يا زمان فربما
…
لهبُ العظائم شُب من نكباتها
ولعلها خمرٌ تدور فيستقى
…
خَمْرَ الكفاح الشرقُ من كاساتها
رأيت الأمر والنداء، نداء الفزع الطامي بطغيان أمواجه على إحساس الشاعر، فلم يملك إلا إسلام نفسه إلى اليأس، فيستزيد من البلاء ويطلبه فيقول:"هات الشدائد" ثم يعود فيقول: "هاتها" ليثبت إيمانه بالصبر على هذا البلاء، فهو إيحاء، إذ قد يئس أن يصرف عن إحساسه ما طغى به عليه هول ما سمع من صفة الزلزال. ويَدُلُّك على أن هذا المطلع قطعة من اليأس، عودتُه إلى الشك في هذه الشدائد الموقدة بنارها ولهيبها، والتي زلزلتْ أمة من الناس فكانوا كما قال الله تعالى في صفة زلزلة الساعة:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . فكذلك عاد الشاعر يشك بعد طغيان البلاء عليه أن ينقلب كل ذلك الرعب الذي اضطرب به الناس سُكرًا يجزِّئ هذا الشرق المغلوب على الكفاح، في زمن يرمى من أهواله شدائد ترجف بالشرق رجفة كأشد ما رَجفتْ زلزلة الأناضول، فلذلك قال:"ولعلها خمر. . . .".
هي أمةٌ زلزلتَ جَنبَ مِهادها
…
ونفختَ ريحَ الموت في جَنباتها
وهذا البيت يكاد يكون الحد الفاصل بين يأس الشاعر الذي طغى عليه حتى أنساه روح الزلزلة التي كانت في إحساسه، وهو نفسه الذي يردُّه مرة أخرى فزعًا ثائرًا متوثبًا تتقاذقه تهاويل إحساسه في رعب بعد رعب.
شَوَّهتَ صَفحتها بمديةِ جازِر
…
الرحمة انتحرت بحدِّ شَباتِها
مجنونةُ الحدّيْن لو هي لَوَّحتْ
…
لانهَدَّ رُكن الأرض من حركاتها
ذئبية الشهوات جاع حديدُها
…
وأراق جوع الوحش في لَهَواتها
وهنا موضع يوقف عنده، فإن المعنى الذي أراده الشاعر، والصورة التي
نشأت من شدة إحساسه بهول الزلزلة طغتْ فلم يستطع المنطق أن يضبط اللغة على قياسها، فهو يريد أن يقول: إنه ورى هذه المدية الصقيلة الذئبية الجائعة المهلكة المجنونة فيرى على حَدَّيْها وصفحتيها من فِرِندها وضوئها ومائها ما ينسابُ ويتريَّق ويتلألأ ويرمي بأضوائه كأنه ضوء جائع يريد أن يلتهم كل ما يلقاه، وذلك قوله:"وأراق جوع الوحش في لهواتها" فقوله: "وأراق" هنا لا توافق المعنى، وقد أوقعه عليها اختلاط "فرند المُدْيَة" -وهو ماؤها- بالمعنى الذي أراده، ولو قال:"يذكى سعار الوحش في لهواتها" أو ما يقارب ذلك لكان أجود. ثم يمضي الشاعر في تصوير ما تخيله -حين فجأت الزلزلة الأناضول-:
والناسُ غَرْقى في السكون سَجتْ بهم
…
سِنَة يَنامُ الهوْلُ في سَكناتِها
بَيْنا همُ فَوْق المهودِ عَوَالمٌ
…
غشَّى ضبابُ الصمت كل جهاتها
وإذا بقلبِ الأرض يرجفُ رجفةً
…
دُكَّ الصباحُ وذابَ في خَفَقَاتِها
وانشقَّت الدُّنيا لديه فلم يَجِدْ
…
أرضًا يغيثُ النورَ في رَبَواتها
فَطوَى المدائن والقرَى وهَوَى بها
…
في سدْفَة تهوي على ظلماتِها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبنى اللحودَ على المهودِ وهدَّها
…
فَنَضَا ستورَ الموت عن عَوراتها
زأرت جراحُ الأرضِ فاهتاجَ الردى
…
وتنهد الزلزال في ساحاتها
وإذا الذي أتى به في وصف الزلزلة إلى آخر القصيدة شيء هائل مخيف تقشعر