الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مذكرات عمر بن أبي ربيعة أيام حزينة
" قال عمر بن أبي ربيعة. . . .": وجاء ابن أبي عَتيق [هو عبد الله بن محمد أبي عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق]، فوالله لَأَن كنتُ بين ضِرْسين من الجبل يدوران عليَّ دَوَرانَ الرَّحَى، أهونُ عليَّ من أن أكون لقيتُ هذا الرجلَ الحبيبَ!
كانَ رجُلًا ضَرْبًا خفيفَ اللَّحم أحْمَر ظاهِرَ الدَّم كأنّ إهابَه شُعْلَةٌ تَشِبُّ (1) وتتلهَّب، أفرعَ فينَانَ الشَّعَر، مخروطَ الوجه، أزهَرَ مُشْرِقًا كأنّ بين عينيه نجمًا (2) يتألّق، يُقْبل عليك حُرُّ وجْهِه بعينين نَجْلاوين قد ظَمِئ جَفْناهما حتى رقَّا، يرسِلُ إليكَ طَرفَهُ فترى الضحكَ في عينيه خِلقَةً لا تكلّفًا، ما أَحسبني رأيتُه مَرة إلّا خِلْتُه دُعابةً قال لها الله: كوني! فكانَتهُ. وكأني به قد دَخَل على أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهي تَكِيد بنفسها (3) -في مرضها الذي ماتت فيه- يَقُول: كيف أصبحت يا أماهُ؟ جعلني الله فِدَاكِ! فتقول عائشة: أجِدُنِي ذاهبةً يا بُنَي! فيقول: فلا إذَنْ يا أمَّ المؤمنين! ! فتتبسم عائشة وتقول: حتى على الموت يا ابن أبي عتيق! ! فيقول: أَرضاكِ الله يا أمَّاه! لو جَاءني الموتُ كأكرهِ ما يأتي على حيٍّ، ما تركتُ له دُعابتي حتى يَستضحكَ، فيرحَل بي عن الدُّنيا بوجْهٍ غير الذي جاء به!
فلو أنّ امرأً من عُرض الناس لا أَعرفه، جاءني فزعم أنّ نجمًا في السماءِ
(*) الرسالة، السنة العاشرة (العدد 449)، 1942، ص: 194 - 196
(1)
الضَّرْبُ: الرجل الخفيف اللحم. الإهاب: الجِلْد.
(2)
الأفرع: الطويل الشعر.
(3)
تكيد بنفسها: تجود بها، وذلك عند الموت.
بكى، وأن القَمَر مَدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكانَ أقربَ إلي منْ أنْ يأتي آتٍ يقول هذا ابنُ أبي عتيق يمشي في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يُعرفُ فيهما البُكاءَ!
رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر إليه من جده [عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر]، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبَّى له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهّج. . . وآب إليه من جده [أبي بكر الصديق] حَنَانُ التقى وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفءَ الأبوّةِ فتأوى إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح لا ينتهي.
وكنتُ أجدُه فيما يتوقَّدُ علي من الكُرَبِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزالُ بي حتى أَنام إلى دُعابته، فإذا آلامي تطوف بي من بعيد كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرةً تتلذّعُ. ولقد أكونُ مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافرًا أبتغي أن أعكفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه (1)، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد:
مَتى تَرَ عَيْنَي مالكٍ وجرَانَه
…
وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر (2)
حِضَجْرٌ، كأمٍّ التَّوْأمَينِ توكلَتْ
…
على مَرفِقَيها مُستهِلَّةَ عاشِر (3)
فينشد أغربَ إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يحرِّك ويشير ويمثِّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يُريني ما يأتي به، إلا نَبَع الضحك من قلبي دفعة حتى ما أتماسك معه.
فكيف به اليوم وقد سكنَ كأنه دمعةٌ خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إليَّ
(1) البُدّ: الصنم الذي يُعْبَد، وهو فارسي معرّب.
(2)
الجران: باطن عنق البعير، واستعاره الشاعر للسخرية.
(3)
الحضجر: العظيم البطن الواسعه، وهو حرف ساخر الجرس والحركة.
كأن أيَّامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحاتٍ، يغض طرفه كأنما يُمسك عبرةً همَّتْ هاربة من الأسر، يطأطئ هامته كأنما يقول للزمن: تَخَطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لإخالُه يجمعُ أطرافَ نفسه لا يزاحمُ أفراحَ الناس بما يريدُ أن يتنفَّسَ من أحزانِه.
لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي النمير: هو سرُّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزَّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَّتْ عنك همدت أرضُك، وظمئ عودُك، وصوَّحَ (1) زَهرُك، وتهاربَ عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمِّ من الفرح والابتسام والرضى!
* * *
ودخل ابن أبي عتيقٍ فسلَّم سلام الذاهل المتوَلِّه، ثم جلس كأنما هو يلقى عبئًا ثقيلًا كان يمشي به، ثم نَظَر في عينيَّ بعينين نديَّتين ترى في غَوْرهما ذلك التنُّور المتضرِّم يتقاذفُ شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدامَ النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظر واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقولُ أعزِّيه به أو أُرفِّه عنه، بل كأنما أفرغَ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر.
ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكت له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همِّه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يومًا بعد يوم لصرعتْه. أجلْ! وإن الحزن ليهجُم على النفس كالسَّبُع الضاري، حتى إذا عَبَر إليها وقف يستأنس متلفِّتًا يريد ما يختلج أو يتحرَّك، فما هو إلا أن يُهوِي إليه فيبطش به، أو ينشِب فيه براثنه ينفُضه ثم يقضقضُه حتى يهمَد، وإذا خُلِّي السبع لا يُذَاد ولا يُطْرد يبقى حتى يتأبّد ويستوحش. ولا يزال على عادته يستمرئ كل ساعة فريسته يغمس في دمها أو يَلِغُ، ثم لا يكفُّ حتى تكفَّ الحياة عما ينبض أو يتنفَّس.
(1) صَوَّح: جَف ويبس.
وأخذْت أزوِّر له الأحاديث في نفسي. فلما هممت بها لم أقل إلا ما يقول الناس: عزاءك يا أبا محمد! فوالله كأنما هِجْت بها الطير الجثوم، وظل وجه ابن أبي عتيق يروح الدم فيه ويغدو، وجعلت عيناه ترسلان على نظراتهما الدمعَ الذي لا يسفح، والعَتْب (1) الذي لا يتكلم، وظلّ صامتًا، وراحت نفسي تنخزل عما أقدمت عليه، ولكنه لم يلبث أن زَفَر إليّ زفرةً خلت في نفثاتها شررًا يتطاير. ثم قعد يتململ حتى قال:
إن أيامي -يا أبا الخطاب- قد استحالت تيهًا أمشي فيه على مثل هذه الجَمَرات، ولقد كنت مما عَهِدتُني، والأيام من حولي عُرسٌ لا أعدم فيها ما أُطربُ له. كنت إذا ما حَزِن بعض أيامي، أجد من أفراح الماضي ما أهرب إليه بالذكرى، وأتوهَّم من نشوة الآتي ما أترامي إليه بالأمل، فكنت أعيش بفرحةٍ أحضرُها أو تحضرُني، لا أخاف ولا أجزع ولا أتوهم في الحياة إلا الخير. فأنا وقد أبتْ بغتات القدَر إلا أن تنتزع من كَفَّىَّ ما كنت أضنّ عليه، فهيهات لها بعد اليوم أن تطيقَ انتزاعَه من فكري. آهِ. . . آهِ يا عمر! كانت مِلْء عيني وروحي وقلبي. كنت أعيش تحت نسيمها كالنشوان ذاهلًا عن الألم مهما أمضَّ، مستصغرًا للكبير وإن فَدَح، راضيًا باسمًا متحفِّفًا (2). . . إذ كانتْ هي هي الأمانيُّ تتجدَّد مع أيامى عليّ وتتبلّج مع كل فجر في قلبي، ما كنت جزوعًا ولقد جزعت! كيف قلت: عزاءً يا أبا محمد! ها الله يا ابن أبي ربيعة.
كيف صَبري عن بعض نفسي! وهل يَصبِرُ عن بعض نفسه الإنسان؟
كانت بيني وبين الدنيا، وكانت آية الرفق والفرح، فكنت أرى الدنيا بعينيها مشرقة من تحت غياهب الأحداث، فالآن إذ نامت عني، كيف أرى إلا قِطعًا من الليل تغتالني من كل وجه، أو أشلاءً من الدياجى تجثم لي بكل سبيل؟
ثم رأيت في عينيه الملَل وهو يطوى على نظراته ما نَشَرتْهُ الحياة من همة
(1) العَتْب: الغَضَب.
(2)
متحفف: لم أجد هذا البناء في المعاجم، ولعل أستاذنا نحته من حَفّ، بمعنى مَرَّ، يعني يمشي على رِسْله مهتزا طرِبا.
النفس؛ وتخيلته -حتى كدت أتبينه- شبحًا ينساب في ظُلمة الليل فردًا قد انخلع من الحياة وأسبابها، فهو يضربُ في حَشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستَتِمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرقَّةَ، فخشيتُ أن يَمضِي به الحزن على غُلَوائه، فقلت له:
مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر؟ أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامُك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأ يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمرًا يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا رَيب، شَقِى بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرني يا أبا محمد! هل ابتُلىَ الناس فيما ابتُلوا به بما هو أفظع من فجيعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدُّك الصديق فرد الناسَ إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزنا على صاحبه ورفيقه؛ فعلَّم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يَجور عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالحَ الذي يرى الدنيا بعيني زائلٍ، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأبَّى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟
قال ابن أبي عتيق:
حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمني يا ابن أبي ربيعة إلا ما علمت. لقد عَجمتْ (1) مني الحوادث صخرة مُلملمة لا تضرع. كم سخرت من الدنيا وأحداثها، فجعلْت أطويها في دُعابتي طَىَّ المُلاءة! كنت أتخفَّفُ منها بنشوة
(1) عجمتني: اختبرتني فوجدتني صلبا، وأصله من عَجَم العود، إذا عَضَّه لينظر أَصُلْبٌ هو أم رِخْو، ثم استعاروه للشدائد.
أُحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمِّ لطار فيها كما تطير خافية (1) من جناح، ولكني اليوم. . . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمتُ لله مُقْبِل أمري ومُدْبرهُ يصرِّفه كيف شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المُعَنَّى لا يزال يخفق بالذكرى، أفأنت منكرٌ عليّ يا عمر أن أذكرها نسيمًا رَفْرَفَ بين الجوانح والقلب؟ أنَّى لي أن أَلوِي النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئًا إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أَأَراكَ تَلْحاني (2) على الجَزَع، وما على ظهرِها أشقى ممن يُصبح ليفتقد في نهاره حُلمًا ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومُها كالذي تلوم؟ وكم وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد أصبح وكأنه أديمٌ مرقوم قد تَفَرَّى (3) عاثَ فيه البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتى فيما أريد! أنا كالساري في لُجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يَبحثُ عنها بين الحصى والرمال! . . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود.
ورأيتُ الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فَرَحِمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يَأْوِى لهن (4) فيؤوب إلي كبعض ما كان، قلت: ظلمتَ نفسَك يا ابن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لهان الأمر، ولكنك استُحْفِظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتُك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذِكرًا في شيء هو أكرم وأحب وأرضى عندها منهن، أجْمِلْ يا أبا محمد، أجْمِل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ثم ربا صدره بالزفرات وهو يقول:
(1) الخافية: الريشة تكون في مؤخر جناح الطائر، وهي لينة ضعيفة.
(2)
لحاه: لامه وعذله.
(3)
مرقوم: مُزَيَن مُوَشَّى. تَفَرَّى: تَشَقَّق وتقطَّع.
(4)
أوى له: رقَّ له ورحمه.
لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي!
…
عليكِ الليالي كرَّها وانفتالَها
فأما وقد أصبحتِ في قبضةِ الرَّدَى
…
فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَا لها
. . . لولا علمتَ يا عمر! كيف -بربك- كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهوًا يَتَلَعَّبنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألمًا كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات، وإن إحداهن لتعدو إليَّ تستأوى فأحملها، فكأن قد والله حملتُ بها صخرة مسرفة (1) يُعيى حملها، لولا بقية من رحمةٍ -يا عمر- لنفرتُ عنهن نفرةً واحدة لا أراهن ولا يرينني.
أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا ابن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يُحْتال، فقلت له: أأراك أُنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرق مما يأخذُه من السَّأم. وأنت، أفيغبى (2) على امرئ في مثل عقلك أن يجعل من مفقودٍ يحبه رجاءً يستمسك به؟ انظرها يا ابن أبي عتيق بين عينيك، ولا تدع البَدن الراحل يَغلبُك على ما يحضرُك من روحها. إنك بعينيها ما عشت، فلا تحسبنَّ أحزانك التي تبتغى أن تتسلَّب بها في حياتك، تجعلها تنظر إليك راضية مطمئنة.
لا تشكَّنَّ يا ابن أخي، فوالله إن الجسد ليذهب إلى البلى، وإن الرُّوح
(1) كذا في الأصول. وظني أن الصواب بالشين المعجمة، أي ضخمة.
(2)
غَبِيَ الشيءَ وغبِيَ عنه: لم يفطن له.
لتخلد، فما تُرضِي من يحبك بأمثل من أن تكون في غيْبِه ما كنت في مَحْضَرِه:"إِن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب ربنا" وصدق رسول الله (1). وما ذلك إلا أن نقصر الحزن، وأن نجعل أقوالنا وأفعالنا مرضاة لمن نحب وطاعة. ولا تستطيلنَّ ما بين الحي والميت، فإنما هي ساعات قلَّت وإن أطلت لها. يا أبا محمد! أرض ربك وأرض صاحبتك، واجهد أن تكون كما أحبت لك، فإنك عن قليل تلقاها، فلا يلقاها منك إلا ما تعرفه دون ما تنكره. . .
(1) قال ذلك عندما مات ابنه إبراهيم.