الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"مدرسة. . . ." إلى آخر هذه الأشياء، وافتتنا بهذه الطاحون التي تدور على دقيق مطحون قد فُرِغ منه -من ذلك اليوم وأنا لا أرى فيما يكتبان إلا استسلامًا للقلم وبدواته وبوادره، واجتلبا في ذلك من الرأي ما لا يستقرُّ ولا يتماسكُ.
وفي هاتين الرحلتين رأيتُ العجب! ! فالدكتور طه مثلًا قد أطال في تحقير مصر والزراية عليها وعلى أرضها بما احتمله عليه الغضب الذي رغب في إنشاء مدرسة له يسميها "مدرسة الغضب". رحل الدكتور طه بالسيارة في الطريق الزراعية فغاظه التراب الذي يثور من حوله فيطلق لسانه بهذه الأسئلة "لماذا ندفع الضرائب" وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشيء الدولة؟ ".
فليخبرنا الدكتور طه عن السبيل الذي نتَّقي به الزراية على أرض مصر! ماذا تصنع الدولة في طريق عن جانبيه تلك الأرض الخصبة الواسعة التي تُسْقَى لتطعم أهل مصر من خيراتها؟ كيف تتقي الدولة مرور الناس والدواب وأرجلهم تحمل أوحال الأرض الخصْبَة فتمرُّ بها على الطريق الزراعي الممهَّد، فتأتي الشمسُ المصرية الملتهبة فتجفف الوحل فيثور ترابًا؟ إن هذا كلام يقال في البلاد الباردة التي لا تفعل الشمس فيها ما تفعل في أرض مصر الغبراء، هناك في "قرية من قرى السفوا أو الدوفنييه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألف الدكتور طه الاعتصام بها إذا أقبل الصيف، والتي فارقها في الصيف وقلبه يتقطع حسرات" أو كما قال. . .! إن مثل هذا يجب أن يلغى من آراء أدبائنا، إن لم يكن من أجل أنفسهم فمن أجل مَن يتولاهم من الشباب. وليس أكثر آراء الأستاذ أحمد أمين في هذا المقال بأقل ابتعادًا عن الحق من الذي عرضنا له.
جناية
! !
والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي، وحقر الشعر الجاهلي، ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا. وأنا كنت هممت أن أؤدى واجبي للأدب العربي بإظهار فساد هذه الآراء التي لم تنضج ثمراتها، ثم رجعت عن ذلك، رغبة أن يترك مثل
هذا الرأي حتى يفني في نفسه، لعلمي -بالاستنتاج- أن الأستاذ ليس أديبًا ناقدًا، والناقد أديب مضاعَف، وقدرته على الأدب أكبر من قدرة الأديب المحض. وقد أحببت أن أقف على كلمة في مقالة الأستاذ أحمد أمين "رحلة" تدلك على أن رأي الأستاذ في الأدب العربي والشعر الجاهلي رأي لا يؤخذ به، فقد قال:"وهاهم أولاء رفقة كأنّ أخلاقهم سكبتْ من الذهب المُصفَّى، وكأن شمائلهم عصرت من قطر المزن" وهي جملة لا ينطلق بها أديب متمكن البتة، فما ظنك بأديب ناقد، وأنا لا أعرف كيف يعصر قطر المزن (أي الماء)، وهو لا يمكن أن يُعصر. ونحن لا نشك في أن الذنب ليس للأستاذ الجليل، وإلا فهو ذنب الشيخ اليازجي صاحب "نجعة الرائد، وشرعة الوارد، في المترادف والمتوارد". . . إلخ، الذي ذكر هاتين العبارتين بنصهما وترتيبهما في فصل "كرم الأخلاق ولؤمها ص 70 الطبعة الثانية، وهما من حشد الشيخ الذي لا يقوم على أصل من البيان والبلاغة.
أَجَلْ، إن كثيرًا مما وقع في كتاب الشيخ اليازجي -على جلالته- إنْ هو إلّا مجازات واستعاراتٌ كأخيلِة المحموم مادَّتها من الهذيانِ اللغويِّ الذي لا يَصِل إلى الحقيقة بأسباب من منطق العقل. والبلاغةُ ليست إلّا حفظ النسبة بين الحقيقة اللغوية والمجاز البياني، فكل ما لم يكنْ كذلك من المجاز والاستعارة فهو لَغْوٌ يتشدقُ به من ليس لَهُ طبعٌ أدبيٌّ رفيع. وجهدُ اليازجيّ كان حشدًا من كلامِ العصور المتقدمة في العربية، فأخذ من الجيد والردئ على غير نقد أو تمييز.
فكان واجبُ الأستاذ أحمد أمين -الزاري على الشعر الجاهلي وواصمه بالجناية على الأدب العربي- أن ينقُد مثل هذه العبارات الضعيفة المتهالكة التي لا تتصل بسبب إلى البلاغة العربية على اختلاف عصورها لا أن ينقلها إلى كلامه. وإلا فلينظر الأستاذ إلى أثر هذه المجازات في بيان الشباب الذي يحبُّه ويعجب بأدبه، ويتلقى كلامه بالإجلال وحب الاقتداء.