الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باطل مشرق
لم أكد أفرغ لنفسي، وأنفض عن فكري مثاقل الهم الفادح الذي أتحمله إذا كتبت في شأن هذه الأمم المسلمة -حتى دخلتْ في خلوتى أيام وليالٍ، تعلمنى أن الباطل المشرق، صنو الباطل المظلم البهيم. بل إن الباطل المشرق أضرى وأفتك بالبشر من صنوه وأخيه المظلم. للباطل المظلم ردة، كَرَدَّة الوجه القبيح (1)، يزوى لها الناظر ما بين عينيه، ويرد بصره معرضا عما يرى فيه من قبح. أما الباطل المشرق المضئ، فله فتنة تنادى، كفتنة وجه الحسناء الخبيثة المنبت، تأخذ بعين الناظر، فيقبل عليها ملقيا بنفسه في مهالك هذا الجمال الآسر، وإذا المنبت الخبيث درة مستهلكة في هذا التيار المترقرق من فتن الحسن والهوى.
وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى -والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام، فنسبت إليه؛ ووصفت به- تعيش اليوم في بريق متلالئ من هذا الباطل المشرق. فمنذ أكثر من مئتى سنة، ضربها الغازى الصليبى المستعمر ضربة رابية (2)، حتى خرت عاجزة، ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت. وفي خلال ذلك كان الغازى يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون. وكذلك يقضى قضاء ساحقا على أسباب الحياة الأولى، الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية.
ثم جاء اليوم الذي ظن فيه هذا العالم أنه ارتد إلى الحياة مرة أخرى. ونعم، إنه ارتد إلى حياة مرة أخرى، ولكن أي حياة! ما على الآلاف المؤلفة التي تدب في أرجاء هذا العالم من مثل هذا السؤال؟
(*) الرسالة، السنة الحادية والعشرون (العدد 1022)، 2 فبراير 1953، ص: 164 - 166
(1)
الرَّدَّة: يقال في فلان رَدَّة، أي يرتدّ البصر عنه من قبحه، وأصل الرَّدَّة تَقَاعُس في الذقن.
(2)
رابية: شديدة.
إن حب البقاء في الحي الفرد، أقوى من العقل، أقوى من حب المعرفة، أقوى من حب المال. فإذا ظفر بالبقاء على أمه الأرض، فقلما يبالى بشيء غير هذا البقاء. ولكن الحياة الإنسانية مجتمعة لا تستقيم بحب البقاء وحده. فالاجتماع الذي يضم هؤلاء الأحياء المتشبثين بالبقاء، يحدث لهم ضروبا جديدة من الأماني والآمال والمطامح، تغلب هذا الحب الخفي للبقاء المجرد في الفرد، وتنشيء فيهم حبًّا لبقاء آخر: هو بقاء حياة الجماعة، من حياة أنشأها الإلف والتعود، وحياة تنشئها الأماني في حياة أتم وأكمل وأمجد. والنزاع بين حياة الإلف والتعود، وحياة الأماني في الكمال والمجد، نزاع عنيف، وهو على عنفه أمر غامض في نفوس عامة أفراد المجتمع، لأنه يقوم على أماني مبهمة دائما في أول أمرها. ولا تستبين هذه الأماني إلا في فئة قليلة، تملك من القدرة على النظر، وعلى التأمل، وعلى البيان عن نظرها وتأملها، قسطا يتيح لها أن تحاول التعبير عن هذه الأماني، تعبيرا يخرجها من حيز الأمر المبهم إلى حيز الأمر البين.
فمن هذا المدخل يدخل على الجماهير أحد رجلين: إما رجل عاقل صادق يحسن النظر والتأمل والبيان، وإما رجل ذكى قادر يموه عليهم بالنظر والتأمل والبيان. أحدهما عارف يصدق الناس ولا يبالى، والآخر دجال يلعب بالناس ولا يبالى. أحدهما لا يأخذهم إلا بالوسائل التي تقوم على الصدق والعدل والحق، والآخر يأخذهم بكل وسيلة لا يعبأ بصدق ولا عدل ولا حق. أحدهما يعلم الناس معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، كما ينبغي لكل تَعَلُّم، من جهد ومشقة وحذر وبصر. والآخر يعلمهم معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، بما يستثيره فيهم، وما يستغله من نزوعهم وتلهفهم، لا يأبه لشيء إلا لما يستخفهم إلى اتباعه وطاعته وتمجيده.
فالحرية مثلا سوق تهوى إليه نفوس المستعبدين. كلمة مبهمة تعيش في سر نفوسهم كالقبس المكفوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلم النفوس معنى الحرية، ويكسبها من وسائل تعلُّمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين
الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحي عن إدراك حريته. أما الدجال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كل وسيلة لا تغني شيئًا في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلا وغلظا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق، لأنه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهما غامضًا كريما، فيموه هذا المعنى بما شاء من تمويه، ليسير الناس وراءه كما هم عميًا صمًّا، لا ليعلِّم الناس حقا يطلبونه ويحرصون عليه ويزدادون معه على الأيام بصرًا وإدراكا.
وهذا العالم الإسلامي الذي يموج اليوم موجه، ينبح في نواحيه هذا الباطل المشرق ينبح في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي جماع ذلك كله: في الدين. هو عالم مستغل، يستخفه الدعاة والدجاجلة، يهتبلون غفلته في هذه الحياة التي ظن أنه ارتد إليها بعد همود، ويختلسون نفضة هذا الشوق المضطرم إلى أمان مبهمة غامضة. ويتولى قيادته في كل شأنه ألسنة لا تبالي، تستفزه إلى المغامرة في سبيل الحياة الماجدة الطيبة التي تجيش فيه. تستفزه بالنداء الصارخ باسم هذه المعاني المبهمة في ضميره، وتعطيه وسائل وأساليب يظنها معينة له على إدراك ما يشتاق إليه، وهي في الحقيقة مفضية به إلى التمرغ في حمأة الجهالة والعبودية والغرور الكاذب، إلى أن يقضى الله في الناس بأمره وقضائه.
وأخطر هذه الألسنة التي تستفز هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغوًا على عَذَباتها (1) -لا لأنها أعظم شأنًا وأعز سلطانا من الألسنة الأخرى، ألسنة المموهين باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، بل لأنها تعمد إلى كتاب أنزله الله بلاغا للناس، وحكمة أوحيت إلى رسوله لتكون نبراسا للمهتدين، فتحيلهما إلى معان من أهواء النفوس التي لا تعرف الحق إلا في إطار من ضلالاتها وأوهامها. ثم يتبعهم التابعون الجاهلون اتباعا، هو
(1) العذبات هنا: أطراف الألسنة، وأصل العَذَبَة: طرف السَّوْط.
سَمْعٌ وطاعة، لكن لغير الله ورسوله، بل للزور المدلس على كتاب الله وسنة رسوله. وإذا هؤلاء المتبعون يعدون هذه الضلالة دينا، ويظنون هذا الدين الجديد إحياء للإسلام. وإذا هم يأخذون دينهم من حيث نهوا أن يأخذوا. يأخذونه عن مبتدع في الدين برأيه، محيل لنصوصه بفساد نشأته، مبدل لكلماته بهوى في نفسه، محرف للكلم عن مواضعه بما يشتهي وما يحب، مختلس لعواطف الناس بما فيه من حب اتباعهم له، خادع لعقولهم برفعة الإسلام ومجد الإسلام، وهو لا يبغي الرفعة والمجد إلا لنفسه.
ولقد أنبأنا معاذ بن جبل رضي الله عنه بصفة ما نحن فيه إذ قال يوما لأصحابه: "إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعونى وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعى حتى أبتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة. وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم. وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال له يزيد بن عميرة أحد أصحابه: ما يدرينى رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ: بلى! اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينَّك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع. وتَلَقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا".
وقد فُتِح القرآن، فأخذته الألسنة كلها من مؤمن ومنافق، ومن صغير وكبير، وكل يقول برأيه لا يختشى ولا يرهب ولا يتقى. وظهر في كل أرض من يقول لنفسه: ما للناس لا يتبعونى وقد قرأت القرآن؟ ثم يعود من نحسه وشؤمه، يجمع كل خسيسة من البدع التي تميل إليها نفوس الجاهلين الغافلين، وتهوى إليها أفئدة الذاهلين المفتونين بالحب لكل جديد مبتدع. وهو في كل ذلك يعلم أن المبتدع في كل شيء له لذة الجدة، ويعلم أن الناس يشتاقون إلى أمر مبهم في نفوسهم، هو استعادة مجد دينهم، ونشر كلمته في الأرض، فلا يبالى أن يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فيؤتيهم ما يطابق ما يراه من أشواقهم، ويزين لهم أن بلاغ ما يشتاقون إليه قريب، إذا هم اتبعوه إلى الغاية. وأن شرط بلاغه أن يعطوه
السمع والطاعة له ولمن يصطفيهم من شيعته ودعاته. فإذا تم أن تجتمع عليه طائفة من الناس، وظهر بهم أمره، وظنوا أنهم بلغوا بعض ما مناهم لسانه ولسان شيعته ودعاته، قالوا إن الإسلام هو هذا الذي ندعو إليه، وإن طريق الحق طريقنا وحده، وإن الإسلام في غير الإطار الجديد الذي وضعناه فيه ليس من الحق في شيء، وإن هذا الفهم الجديد للإسلام هو خلاص المسلمين من هذه الذلة التي ضربها عليهم الغازي الصليبي. ثم تنشق رَدَغَة هذا الخَبال (1)، عن صنوف مختلفة من الفساد المهلك، تجعل تاريخ الماضي كله ضربًا من الحياة الفاسدة، لا ينبغي لأحد من الناس أن يتلفت إليه إلا تلفت المزدرى المستنكف. وعندئذ يصبح الدين في أذهان الجماهير المتبعة، رسالة جديدة لها رسولها وحواريوها ودعاتها وشهداؤها. وإلى بيان هذه الرسالة تعود الجماهير، لا إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسوله، نعم، بل إلى تفسير هذا الكتاب وهذه السنة كما يراها لهم طواغيتهم من كهوف التبديل والتحريف والتأويل بالهوى والضلالة. وعندئذ يتم تبديل معنى الإسلام في الناس، ويتم للدجال أن يبتدع بهواه إلى طب في أهوائهم كتابًا غير كتاب الله. ولولا أن الله قد ضمن لنا حفظ نص كتابه، وحفظ نص البيان عنه في سنة رسوله لفعل هذا وأشياعه ما فعل أسلافهم ممن بدلوا كتب الله وحرفوها، ومحوا منها وأثبتوا، ونقصوا فيها وزادوا.
لولا هذا الذي نخافه، بل هذا الذي كان مما نخافه، لما عددت هؤلاء أشد خطرا من الألسنة التي تموه على الجماهير الجاهلة الغافلة باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق. فطريقهما في الحقيقة واحد، ومنشؤهما واحد، ونتائجهما واحدة، في التغرير بالناس، والعبث بعقولهم، والإفساد لفطرتهم، واللعب بعواطفهم، وإيهامهم أن نجاتهم من عبودية الغزاة أمر قريب لا يكلفهم إلا أن يسمعوا لمن يقول لهم: كونوا أحرارا، فإذا هم سادة أحرار كما ولدتهم أمهاتهم!
(1) رَدَغَة الخبال: جاء في الحديث "مَن قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في رَدَغَة الخبال"، أي عُصارَة أهل النار، كما قيل في تفسيره، وأصل الرَّدَغة: الطِّين.
اللهم إني أبرأ إليك مما نحن فيه. اللهم إني أخوف الناس مما خوفهم منه عبدك ورسولك إذ يقول: "أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان". اللهم إني أقول كما قال صاحب رسولك معاذ بن جبل: "الله حكم قسط، هلك المرتابون! ".