الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم العدل
يسمع كل عربي ويقرأ أن بلاده في حاجة إلى "الدعاية" لها في بلاد الأجانب، وبخاصة في أمريكا التي صارت اليوم ملتقى الأمم التي يسمونها الأمم المتحدة. وصارت هذه الكلمة حلوة على ألسنة رجال الصحافة العربية وعلى ألسنة رجال السياسة العربية، فكلهم يقول لك أو يكتب لك إننا تعوزنا "الدعاية" لبلادنا في الخارج. ولا بأس في أن يستحلى رجال الصحافة ورجال السياسة كلمة يديرونها على ألسنتهم، ويجدون في طعمها وفي نبرتها وفي جرسها لذة تحملهم على ترديدها واللجاج بها، ولكن البأس كل البأس أن يفضى استحلاء هذه الكلمة إلى استحلاء صب الملامة والتأنيب على أنفسنا، ونحت أَثلْاتنا (1) بالتعنيف على ما نرتكب من تقصير في حق أوطاننا. ولو كان ذلك التقصير حقًّا محضًا لا يعتوره رأي ينقضه، لكان كثرة اللجاج فيه عملا لا خير فيه البتة. ومع ذلك فلنفرض أنَّه حق محض، فما وراء ذلك؟
نعم إنه لحسن أن نظهر الناس على وجه الحق في مطالبنا، وعلى بشاعة الظلم المضروب علينا، وحسن أن ندعو الناس إلى سماع حجتنا؛ وحسن أن نزيل من أوهام أولئك الخلق ما علق بعقولهم عنا؛ وحسن أن نبدي لهم حقيقة أنكروها أو أنكرتها علينا السياسات فصدقوا السياسات وكذبوا أعينهم وأسماعهم. كل ذلك حسن، ولكن ليس بالحسن أن نأخذ الأمور من أقفائها لا من وجوهها، وأن ندع الرأي البين إلى الرأي الخفي، وأن نغفل الحقيقة الواقعة ونبصر الرجاء الَّذي لا يدري المرء أيتحقق له أم لا يتحقق.
فمسألة "الدعاية" تكاد اليوم تكون منصبة كلها على الدعاية في "أمريكا"، إذ لا سبيل إلى الدعاية في روسيا بحال من الأحوال، وبريطانيا هي طرف النزاع
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 722)، مايو 1947، ص: 496 - 498
(1)
أثلاتنا: جمع أثلة، وهي أصل كل شيء.
في مسألة مصر والسودان ومسألة فلسطين وفي سائر المسائل الشائكة التي يعاني العرب منها ما يعانون؛ وكذلك شأن فرنسا في مسألة بلاد تونس ومراكش والجزائر، فلم يبق إلا أمريكا، وهي التي يدور حديث رجال الصحافة ورجال السياسة في وجوب الدعاية لقضايانا في أرجائها.
فلننظر إذن إلى جدوى هذه الدعاية علينا هناك، وفي إمكانها قبل جدواها، وفي حقيقتها قبل جدواها وإمكانها.
فأمريكا لم تزل تزعم منذ الحرب الماضية أنها نصير العدل والحق، وأنها عدو البغي والعدوان، وأنها صديق الأمم المستضعفة، وأنها تبغض أشد البغض كل الاستعمار، أي أنها الحكم العدل الَّذي لا يرى بغيًا ولا عدوانًا ولا مظلمة إلا نبض قلبه إشفاقًا، وتحركت دماؤه اشمئزازًا وأنفة، وأبى إلا أن يكون كما أراده الله أن يكون حكما عدلا لا يرده عن إقرار الحق والعدل جهد يبذله، ولا دم يريقه، ولا مال ينفقه في سبيل الحق والعدل والحرية.
وهي لا تزال تحقق ذلك -فيما ترى بكل ما آتاها الله من قوة وحيلة ومعرفة، فهي تتدسس إلى قلب روسيا لتكشف الغطاء عن هذا الوحش الباغي المستقر بين جنبيها، والذي يخشى أن يكون أشد بغيًا وعدوانا من الفريق الأول الهالك "ألمانيا". وهي تتسلل إلى خفايا السياسات في أرجاء أوربة لتظهر العالم على أساليب روسيا في العمل لإدخال كل أوربة في حوزتها وتحت سلطانها، وهي ترسل جيوشًا لا تحصى من الخبراء والمخبرين ليستطلعوا طلع الحقائق التي تسترها روسيا في كل حنية من حنايا هذه الأرض، وهي تؤوي إليها كل شريد أو طريد ناله عسف الروس وبطشهم وتفسح له صدرها، وتفسح له الصحف أيضًا حتَّى يقول للناس ماذا تحاول روسيا أن تخبأ عن الناس، وكيف تفعل روسيا بالناس، إلى آخر هذا كله.
بل أعظم من ذلك أنها لم تتردد لحظة واحدة في أن تبذل -كل البذل لتركيا واليونان حتَّى يتاح لهما أن يصدا عن نفسهما بلاء الروس وبطشهم واضطهادهم، وأن تكونا جبهة مزودة بالقوة التي تعينهما على الجرأة فلا يروعهما تهديد الروس
ولا تخويفهم. ولم تتوان صحف أمريكا عامة عن أن تجعل مسألة تركيا ومسألة اليونان من أعظم المسائل التي تشغل الرأي العام حتَّى يتهيأ للكونجرس أن يؤازر حكومته في سياستها التي أرادتها لدرء خطر الروس عن هذين البلدين.
كان هذا كله ليس يشك فيه أحد، ورأت أمريكا أنها إنما تؤدى بذلك حق الإنسانية عليها، وتؤدى حق المكانة التي تبوأتها عند الناس، وتؤدى ما يجب على الحكم العدل الَّذي لا يبغي إلا إقرار الحق والعدل، وإزهاق الظلم والجور.
ولكن ما الَّذي فعله هذا الحكم العدل في شأننا نحن العرب؟ كان أول ما فعله أنَّه طلب باسم الحق والعدل أن تبيح فلسطين أرضها لصعاليك الأمم فتؤويهم وتمهد لهم أن يقيموا في قلب بلاد العرب دولة يهودية تفعل بهذه العرب ما تشاء، وسكتت باسم الحق والعدل عن المحرضين من يهود بلادها على انتزاع الأرض عامرها وخرابها من يد العرب لتكون في يد صعاليك اليهود، وغفلت باسم الحق والعدل عن شعب يسكن هذه الأرض منذ آلاف السنين تريد اليهودية أن تفقره وتذله وتنتزع منه أرض آبائه وأجداده بالجور والعدوان والنذالة الحديثة التي تسمى قوة المال. ثم أرسل الحكم العدل رسلا من عنده ليدرسوا القضية مع طائفة أخرى من البريطانيين، فخرجت رسل الحكم العدل وهي ترى أن العرب أمة متأخرة، وأنه لابد لليهود من أن يستعمروا هذه الأرض ليرفعوا عن هذه الأمة المتأخرة أساطير الجهل وغشاوة البؤس - ولو أفضى ذلك إلى أن يخوضوا في الباطل خوضًا حتَّى يبلغوا الحق!
ثم جاءت مسألة مصر والسودان، فإذا نحن نموج ونضطرب ونفزع من هول الغدر البريطاني وهذه المظالم الاستعمارية، وإذا الحكم العدل يصم آذانه ويستغشى ثيابه باسم الحق والعدل حتَّى لا تروعه صرخات المظلومين والبائسين، وإذا صحافته تضن بكلمة واحدة أن تقولها في إنصاف هذا الشعب من الظالمين والباغين عليه، بل لعل أكثرها ذهب إلى خلاف هذا وألح فيه.
وليس يقول أحد وهو يَجِدُّ إن هذا الحكم العدل يجهل قضية فلسطين؛ ولو هو كان يجهلها حقًا لكان أول ما تفرضه عليه هذه الحكومة التي تبوأها في
العالم أن يرسل إلى فلسطين رجالا من أهل سياسته، ورجالا من أهل صحافته ليدرسوا وينبشوا وينقبوا ويكشفوا خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية كما يفعلون في روسيا وفي أوربة وفي سواهما من بلاد الله. وليس يقول أحد وهو يَجِدُّ إن هذا الحكم العدل يجهل قضية مصر والسودان، فلو كان حقا يجهلها لفعل مثل ذلك حتَّى يتاح له أن يقف على أسرار هذه القضايا ليحكم بين الناس بالعدل والقسطاس مادام مصرًّا على أنَّه حكم عدل لا يبغي من وراء عدله إلا إقرار الحق وإزهاق الباطل. ولو فعل لرأينا الصحف في بلاده تملأ الدنيا عجيجًا وضجيجًا وبحثًا وتنقيبًا وكشفًا عن خفايا السياسات كما تفعل في مسائل روسيا وأوربة.
لا، بل أكثر من ذلك أن لهذا الحكم العدل رجالا طالت إقامتهم في مصر والسودان، وفي فلسطين والشام، منهم رجال الصحافة ومنهم رجال الجامعتين الأمريكيتين ورجال المدارس الأمريكية، ومنهم رجال الشركات ومنهم غير هؤلاء ممن يُذْكَرون بأسمائهم ومن لا يُذْكَرون. فماذا يفعل هؤلاء جميعًا؟ أي معروف يسدونه إلى البلاد التي طالت إقامتهم بين أهلها فعرفوهم وخبروهم؟ أليس فيهم إنسان واحد فيه قدرة على أن يعرف خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية في بلاد مصر وبلاد الشام وفلسطين؟ أليس لأحد منهم لسان ينطق بالحق دفاعًا عن أمم يكتم الاستعمار حقها ويبطش بها بطشًا وحشيًّا لا رحمة فيه؟ كلا بل فيه، ولكنهم حرب علينا ولايريدون أن يقولوا لبلادهم، وكأن بلادهم لا تريدهم أن يقولوا -وإلا ففيم صمتهم، وفيم ممالأتهم لبريطانيا ويهودها وأفاقيها جميعًا من حثالات الأمم؟ أم ترانا لا نستحق عدل الحكم العدل؟ أم نحن لسنا بأهل لأن تقال في حقوقنا كلمة تجعل الحكم العدل يتنبه إلى أن في الدنيا شعبًا تبلغ عدته أكثر من مائة مليون وعشرين مليونًا من الأنفس البشرية قد ضربه الاستعمار اليهودي والبريطاني والفرنسي ضربات مبيرة مبيدة بغير شرف ولا ورع ولا إنسانية.
أيقال إن رجال الجامعات والمدارس، وهم أهل العلم والثقافة والأدب، ليسوا سوى جماعة يعيشون في سراديب العلم والفلسفة لا يعرفون ما يجري على
أديم هذه الأرض؟ وأنهم لا يخالطون أحدًا ولا يخالطهم أحد؟ وأنهم رجال مقنعون بالأثواب الجامعية من فرع الرأس إلى أَخمص القدم، فهم عمى لا يبصرون إلا نور العلم، وصم لا يسمعون إلا نداء الحقائق الخالدة في الفلسفة؟
كلا كلا! إنهم يسمعون ويبصرون، ولكنهم لا يريدون أن يبينوا عما يسمعون وعما يبصرون، فإذا أبانوا فلن يبينوا عن الحق، بل يبينون عن خلافه مما سمعوه من أعوان بريطانيا وأشياع يهود، ويطعنون فينا كل طعن، ولا يرون بأسًا من تعظيم أخطائنا وإخفاء صوابنا أو حقنا. بل يمنون علينا أن فعلوا لنا وفعلوا، وهم يعلمون علم اليقين أننا لو قد كنا أحرارًا في بلادنا لفعلنا لأنفسنا ما لا يستطيعون هم ولا سواهم أن يفعلوه لنا.
ثم فليخبرونا: أنحن الذين يجب علينا أن نتولى الدعاية لبلادنا في بلادهم؟ أيجب علينا أن نذهب إلى الحكم العدل الَّذي يرسل إلى بلاد الله سوانا من يعرف خبايا أسرارها، فنقول له بألسنتنا إن حجتنا كذا وكذا، وفضائلنا كذا وكذا، ونعدد له مناقبنا ووجوه حقنا ومظالم عدونا، فإذا به يسمع لنا ويقنع بما نقول نحن، وينسى كل ما تقول بريطانيا واليهود، وإذا الرأي العام الأمريكي قد أصبح معنا! !
كلا ليس هذا بمنطق ولا حق، بل الحق هو أن الحكم العدل هو الَّذي يجب عليه أن يتتبع حقائق القضايا ويرسل رجاله ورجال صحافته ليعرفوا ويسألوا، ويجب عليه أن يطالب المقيمين من أهله في بلادنا أن يقولوا الحق غير متجانفين ولا باغين ولا تابعين للأهواء والعصبيات، وأن يتولى هو وصحافته بيان الحق في ذلك كله حتَّى يستطيع أن يحكم بالعدل، وإلا كان حَكَمًا لا يصلح للحُكْم.
أما دعاتنا الذين يحرضوننا على "الدعاية" لأنفسنا في بلاد الحكم العدل، فليعرفوا أن الصحافة هنا لن تقبل منا أن ننشر ما نشاء إلا أن ندفع عليه مالا كثيرًا، وهم ينشرون لنا على أنَّه "إعلان" لا أكثر ولا أقل، وأن القارئ سوف يقرؤه على أنَّه إعلان لا أكثر ولا أقل. فإذا كان لنا أن نرجو خيرًا من الحكم العدل، فهو يوم يلين قلبه ويرق ويشعر أننا أهل لأن ترفع عنا المظالم، ويومئذ يرسل إلينا من يسألنا
ويستخبرنا ويعود لقومه قضاة الحق أن أنصفوا مظلومًا طال ظلمه، وأما قبل ذلك فلا. وإن كان هذا لا يمنع أن نبذل من الجهد ما نرجو أن يوقظ الحكم العدل من سباته الَّذي طال كما طال ظلمنا. وقبل ذلك فلنحذر أن نلوم أنفسنا على تقصير لم يكن، لأنه ليس تقصيرًا بل هو معرفة للحقيقة الظاهرة وهي أن الحكم العدل لا يريد أن يكون معنا نحن العرب دون الناس جميعًا - حكما عدلًا.