المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ١

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الرافعي

- ‌بين الرافعي والعقاد- 1

- ‌بين الرافعي والعقاد- 2

- ‌بين الرافعي والعقاد- 3

- ‌بين الرافعي والعقاد- 4

- ‌بين الرافعي والعقاد- 5

- ‌من صاحب العصور إلى صاحب الرسالة

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة ذات النطاقين

- ‌منهجي في هذا الباب

- ‌الإصلاح الاجتماعي

- ‌أبو العباس السفاح أمير المؤمنين

- ‌أسواق النخاسة

- ‌معهد الصحراء بيت الحكمة

- ‌الشباب والسياسة

- ‌المرأة والرجل

- ‌أبو العباس السفاح

- ‌التقليد

- ‌صورة النفس

- ‌أبو العباس السفاح

- ‌العيد

- ‌الحرب

- ‌العقل المصري

- ‌المنطلق

- ‌الغذاء العقلي والروحي للشباب

- ‌الدولة والثقافة

- ‌الأغنياء والفقراء

- ‌عناصر الثقافة المصرية

- ‌الفن

- ‌الفن الفرعوني

- ‌تمثال نهضة مصر

- ‌وبشر أيضًا

- ‌الهجرة

- ‌الشباب والأدب

- ‌ناقد يتكلم

- ‌هل يمكن

- ‌الرحلتان

- ‌جناية

- ‌الشعر والشعراء

- ‌شاعر

- ‌قصيدة الزلزال

- ‌إلى بعض القراء

- ‌ابن شُبرمة

- ‌من مذكرات ابن أبي رَبيعة الحقيقة المؤمنة

- ‌غُبَّرات لا غُبارات

- ‌العودة

- ‌كتب

- ‌المستشرقون

- ‌نشر الكتب العربية

- ‌رسالة الشافعي

- ‌الذخيرة

- ‌مباحثهم

- ‌العقاد

- ‌توطئة

- ‌الملاح التائه

- ‌والشعر أيضًا

- ‌ليالي الملاح التائه

- ‌الجندول

- ‌الرأي العام

- ‌التبشير

- ‌فقهاء بيزنطة

- ‌سياسة الإسلام

- ‌نقد

- ‌ التيارات الفكرية

- ‌القرن العشرون

- ‌الحرب

- ‌الحرية

- ‌الفن الفرعوني

- ‌مولده

- ‌أعيادنا

- ‌التعليم

- ‌تعليم العربية

- ‌مشروع

- ‌الأزهر

- ‌إصلاح الأزهر

- ‌المجمع المصري للثقافة العلمية

- ‌آلهة الكعبة

- ‌الأغنياء

- ‌نجوى الرافعي

- ‌ذكرى الرافعي

- ‌مصر المريضة

- ‌إلى أين. . .؟- 1

- ‌إلى أين. . .؟- 2

- ‌إلى أين. . .؟- 3

- ‌ويلك آمن

- ‌هذه هي الساعة

- ‌أخوك أم الذئب

- ‌يوم البعث

- ‌الحضارة المتبرجة

- ‌1 - اقتطف

- ‌2 - باريس

- ‌وزارة المعارف العمومية عُدْوان لطيف

- ‌إمتاع الأسماع

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة أيام حزينة

- ‌الطريق إلى الحق

- ‌أدباء

- ‌من مذكرات ابن أبي ربيعة جريرة ميعاد

- ‌الحرف اللاتيني والعربية

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة صديق إبليس

- ‌من وراء حجاب

- ‌تهجم على التخطئة "السلام عليكم

- ‌وأيضًا تهجم على التخطئة

- ‌هزْل

- ‌بين جيلَين

- ‌اسلمي يا مصر

- ‌بعض الذكرى

- ‌نافقَاء اليَربُوع

- ‌ساعة فاصلة

- ‌احذَرِي أَيتُها العَرَب

- ‌من اسْترعَى الذئب ظَلم

- ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد

- ‌مصر هي السودان

- ‌لا تدابَروا أيها الرجال

- ‌إنه جهاد لا سياسة

- ‌الخيانة العظمى

- ‌الجلاءُ الأعظَم

- ‌نحن العرب

- ‌الحكم العدل

- ‌هي الحرية

- ‌قضى الأمر

- ‌أسد إفريقية

- ‌شعب واحد، وقضية واحدة

- ‌هذه بلادنا

- ‌شهر النصر

- ‌في الماضي

- ‌عبر لمن يعتبر

- ‌اتقوا غضبة الشعب

- ‌مؤتمر المستضعفين

- ‌لا هَوَادة بعد اليوم

- ‌حديث الدولتين

- ‌بَلْبَلَة

- ‌لسان السياسة البريطانية

- ‌لبيك يا فلسطين

- ‌فلسطين: ثلاثة رجال

- ‌إياكم والمهادنة "ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإبْل

- ‌ويحكم هبُّوا

- ‌لا تَمَلُّوا

- ‌كلمة أخرى

- ‌الفتنة الكبرى

- ‌هذا زماننا

- ‌الحرية! الحرية

- ‌لمن أكتب

- ‌على حد منكب

- ‌ذو العقل يشقى

- ‌أعتذر إليكَ

- ‌كلمة تقال

- ‌فيم أكتب

- ‌أبصر طريقك

- ‌باطل مشرق

- ‌غرارة ملقاة

الفصل: ‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد

‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعة حديث غد

. . .

(قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة)(* *): خرجتُ في صفر من سنة أربعين أريدُ المدينة أزورُ فتيانًا من أصحابي بها، وأتحسَّس الأخبارَ أخبار الفتن المشئومة التي توزَّعت قلوب المسلمين، وأنظر ما فعل بُسْر بن أبي أرطاة بِمُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغنا أنه أحدث فيها أحدَاثًا عظامًا.

غادرت مكة يوم غادرتها وهي كالتنور المتوقد، فقد ذابت عليها الشمس، واحتدمَ وَهجُها وبقينا نتنفس بين أخشبيها (1) لظى من فيح جهنم، حتى يحس المرء كأنّ الدمَ يفورُ فورانًا في عروقه، وقد خدر النهارُ من حوله فلا ريحٌ ولا روحٌ، فلكلّ نَفَسٍ لذعة في الخياشيم والصدر تنشف الرِّيق حتى يكادُ اللسان ينشقُّ من فرط جفافه، وحتى يكاد يظن أنه الجنون. ما أصبرنا يا أهل مكة على صياخيدِها (2)، وما أحبها إلينا على شدة ما نلقى من لأوائها! بورِكتْ أرضًا وتعالى من حرَّمها وتقدَّست أسماؤُه.

كان النهارُ حرًّا ماحقًا منعنا التأويب، فكان سيرُنا كله إدلاجًا (3) تحت غواشى الليل إلى أن يُشفِرَ الفجر وطرفًا من النهار. ولشدَّ ما أعجبني الليل وراعني حتى تمنيتُ أيّامئذ أن الدهر ليل كلُّه، فقد كنت أسرى تحت سماءٍ زرقاء ملساءِ صافية كأن النجومَ في حافاتها وعلى صفحتها دُرٌّ يتلألأ على نحرِ غانيةٍ وأنا تحت

(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 705)، يناير 1947، ص: 14 - 17

(* *) كتب عمر هذه الكلمات وهو في السابعة عشرة من عمره، فقد كان مولده ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين يوم مقتل عمر بن الخطاب (شاكر).

(1)

الأخشبان جبلا مكة المطيفان بها، وهما أبو قبيس والأحمر.

(2)

الصياخيد: جمع صَيخود، شدة حَرّ الشمس.

(3)

التأويب: الرجوع بالليل، يعني لا ينزلون ليلا وإنما يسيرون الليل كله، وهو الإدلاج، لأنهم لا يستطيعون السير نهارا لشدة حر الشمس.

ص: 347

أنفاسها كالشارب الثمل. وكيف تفعل هذه البيداء بنا وبقلوبنا؟ قيظٌ يسلخُ جلد الحية ويذيبُ دماغ الضبِّ، لا يلبث أن تنفحنا بعده بنسيمٍ هفافٍ كأن الليل يتنفس به ليخفف عنا بلاء نهارنا، ويفوح من بُرُود الليل شَذا الأقاحيّ (1) فيفغم (2) الفضاءَ كلَّه أحيانًا حتى يخيل إليّ أن البادية المجدبة قد استحالتْ روضة تنفث أزهارُها الطيبَ من حيث استقبلتُ، فأجد لها روحًا على كبدي وواحة فأعبُّ من أنفاسها عبًّا حتى أقول لقد سَكِرتُ من غير سُكرٍ. ثم ما أندى رويحةَ الفجر على قلوب السارينَ في هذه المهامه السحيقة المتقاذفة (3)! فإن عبِيرَها وبَرْدها والنور المشعشع على أرجائها يجعلك تحسُّ حسًّا لا يكذب بأنك تحيى في لذاذات لا ينقضي منها أربٌ ولا يستحيل لها مذاقٌ. ولقد حبب إلى الخروجُ إلى البادية كلما وجدتُ في نفسي طائفًا من سآمة أو مللٍ، فيا بُعدَ ما بين الحاضرةِ وجوّها الكامِد الجاثم ليلا ونهارًا، وبين هذه الرّحاب المتمادية التي يبثُّها النهارُ لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً بما في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برِّها وفاجِرها، وتقف النجومُ على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومِضُ بعضُها لبعضٍ فرحًا بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمةَ.

* * *

كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددتُ فتنةً بليالي الصحراء وتهامُس رمالها وتَناجى كواكِبها، وأسمعُ للَّيل هَسهسةً كأنها أحاديثُ قُلوب عاشقة قد تدانى بها السِّرارُ، فتمضي الساعات والعيسُ ماضيةٌ بنا فلا نملّ ولا نكلُّ ولا نحسُّ وحدة ولا مخافةً، كأنّا قد دخلنا الحرم الآمنَ الذي لا يراع اللائذ به. وجعلتْ نفسي تتجدَّد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوبُ نقاءها شائبة.

(1) الأقاحي: جمع أقْحُوان: نَبت طيب الريح، حواليه ورق أبيض ووسطه أصفر، تُشبه به ثغور النساء.

(2)

يفغم: يملأه برائحة طيبة.

(3)

المهامه: جمع مهمه، وهو الصحراء. المتقاذفة: البعيدة.

ص: 348

وبعد ليال أفضتْ بنا المسالك إلى "الرَّبَذَةِ" التي بها قبر أبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفِها، فقلنا نعوجُ بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلُغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوتَ قارئ قد تأدَّى إلينا من بعيدٍ، فتلمَّسته حتى تبينتُ صوتًا رَاعِدًا تقيًّا كأنه الجبالَ والرمالَ والدنيا كلَّها تهتزُّ على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه يمضي في إهاب الليل المهلهل فيفْريه فريًا ويمزقه بِمُدى من النور، وكأنه يسيلُ في البطحاءِ كالسَّيل المتقاذفِ فتموج فيه رمالها كأمثالِ الجبالِ نُسفتْ من قراراتها، وكأنّ ألفاظهُ هَبَّاتُ عاصفة تفضُّ دُرُوع الليل فضًّا، وكأنّ نغماتِه أنوار مشعشعة تخالطُ هذا كلَّه فتملأ الفجر فجرًا من نُورِها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبيّنْتُه حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} ، إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرضِ كلها مترددًا ظاهرًا كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره.

فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقى حيثُ هو قليلا ثم قام، فأضاءَه لي ذَرْوٌ (1) من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوالٌ جُسامٌ فارعٌ كأنه صعدة (2) مستويةٌ، أصلعُ الرأس شديدُ بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيَّى ثم انفتل راجعًا إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يُصَلِّي. رأيتُه وهو يمشي كأنه قائدٌ يحسُّ

(1) ذَرو: القليل من الشيء. والناهد: الذي بدأ في الظهور.

(2)

الصعدة: القناة تنبت مستوية، ولما كان الرمح يُصنَع منها سُمّى صَعْدَة.

ص: 349

كأن الجحافِلَ من ورائه تمشي على أثره. وبعد قليل جاءنا رجل كأشد من رأيتُ من الناس نَفاذَ بَصَر، فحيَّانا وقال: من الناس؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومى. قال: ابنُ العِدْلِ (1)؟ رحم الله أباك، فقد شهد معنا المشاهد بعد عام الفتح. قلت: فمن يكون الرجل الذي أوى إلى فسطاطه يرحمك الله؟ قال أو ما عرفته؟ إنه محمد بن مَسلمة الأنصاري صاحبُ رسول الله وصاحب أبي بكر وعمر. قلت: فما جاء به، وقد سمعنا أن رسول الله نهى عن أن يرتدَّ المرءُ أعرابيًا بعد الهجرة، وأنه ذكر ثلاثًا من الكبائر منها "التعرُّبُ بعد الهجرة"، فيعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرًا. قال: صدقت يا بُني، ولكن لذلك خبرٌ:

كانَ محمد بن مسلمة فيمن ثبت مع رسول الله يومَ أُحُد، فأعطاهُ رسول الله سيفًا وقال له:"إنه ستكون فتنة وفُرقة واختلافٌ، فإذا كان ذلك فأت بسَيفِك أُحُدًا فاضربْ به عُرْضَه حتى تقطعه، واكسر نبلك واقطع وتَرَك، واجلس في بيتك حتى تأتيك منيّة قاضية أو يد خاطئة، فإن دَخَلَ عليك أحدٌ إلى البيت فَقم إلى المخدَع، فإن دَخَلَ عليك المخدع فاجثُ على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاءُ الظالمين". وقد فعل حين كانت هذه الفتن بين عليّ ومعاوية فكسر حدّ سيفه وقعد في بيته، وأطاعَ نبيَّه وعصى الشيطان الذي استزل هذه الناس التي يقتل بعضُها بعضًا. ولقد قضى في مكانه هذا ثلاث سنواتٍ يدعو ربه أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين التي جعلت تتفانى على دُنْيا فانيةٍ، وعسى ربك يستجيبُ لدعاءِ هذا الرجل الصالح فتحقن الدماءُ وتوصَل الأرحامُ ويعزُّ بهم دين الله في هذه الأرض.

(قال عمر): فسألتُ الرجل أن يستأذن لي على أبي عبد الرحمن محمد بن مسلمة، فذهبَ ثم جاء يُومئ إليَّ أن أقْبِل. فدخلت على أبي عبد الرحمن

(1) كانت قريش تلقب عبد الله "العدل"، لأن قريشًا كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها من ماله سنة فكان وحده عدلا لقريش جميعًا في ذلك، وكان تاجرًا موسرًا.

ص: 350

فسطاطه فإذا فيه سيف مُعلَّقٌ على جانب منه، فلما سلَّمتُ رد التحية وقال: مرحبًا بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائرٌ إلى مدينة رسول الله يا أبتاه. فدعاني أن أجلس، فوالله لقد أخذتني للرجل هيبَةٌ ما وجدتها لأحد ممن لقيت من صحابة رسول الله، ولا من أمراءِ المسلمين، وكانت عيناهُ تَبِصَّان في سُدْفَة (1) الفسطاط كأنهما قِنْديلان يلوحانِ في ظلامٍ بعيدٍ. وجعلتُ أنظر يمينًا وشمالا فلا ألبث أن أثبت نظري على سيفه المعلق، فلما رأي العجَب في عينيّ قال: لعلك تقول، لقد كسر سيفه، وهذا السيفُ معلق بحيث أرى! ثم قام واستنزل السيف واخترطه (2) فإذا هو سيفٌ من خشب.

ثم قال: لقد فعلت ما أمرني به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واتخذتُ هذا أُرْهبُ به الناس.

* * *

(قال عمرُ بعد حديث طويلٍ): قلت له: يا أبتاه والله لقد آنستني وأدنيتني وأطلقت لساني فلو سألتك! قال: سل ما بدا لك يا ابن أخي. قلت: لقد حدَّثتني عن قتلك كعب بن الأشرف اليهودي، وعن قتل يهودَ أخاك محمودًا رضي الله عنه، فهلا حدثتني عن إجلائك يهودَ عن جزيرة العرب في زمان عُمَر؟ فقال:

رحم الله الرجل، فقد كان شديدًا في الحق حافظًا للعهد، ولكن يهودَ قومٌ غُدُرٌ، أساءُوا الجوار وخانوا العهد وتآمروا على المسلمين، فعزمَ عمرُ على أن يجليهم عن أرض العرب ليقطعَ غدرهم ويحسم مادة النفاق في هذه البقعة المباركة. فأرسَلَ إليّ وقال "لقد عهد إليك رسول الله مراتٍ أن تجلى يهود، فأنا أتبع سنته وأعهد إليك أن تجلى لي يهود عن أرض العرب، فلا تظلمهم ولا تؤذِهم، ولكن لا تدعْ منهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا طفلا ولا امرأة حتى تستوثق من جلائهم بجموعهم عن أرضنا. ولئن عشت لأجْلِيَنَّهم عن كل مكان كبَّر فيه

(1) تبصان: تلمعان. السدفة: الظُّلْمة.

(2)

اخترط السيف: استلّه من غمده.

ص: 351

المسلمون لله، فإنهم أهل فسادٍ ونفاقٍ وخَبَث". فخرجتُ إلى طوائف اليهود في خيبر وسقتهم مستقبلًا بهم الشام، فلما بلغنا غايتنا أقبل عليّ رجل من ولد الحارث أبي زينب اليهوديّ ثم قال لي: لقد كنت مسترضعًا فينا يا أبا عبد الرحمن، وكنت أنت وابن الأشرف رضيعي لَبَانٍ، فما لبث أن جاء هذا الدين واتبعتم ذلك النبيّ حتى قتلت أخاكَ ورضيعَك، وها أنت تخرجُنا من ديارنا وأرضِ أجدادنا، وترمينا في ديار الغُربة، فهلا كنت تركت كل ذلك لغيرك أيها الرجل! فقلت له: يا أخا يهودَ، لئن كنت قتلتُ رضيعي فقد قتل قومُك أخي محمود بن مسلمة غدرًا، وعرضتم لحرم رسول الله بالتشبيب والبذاءة والسفَهِ، وأردتم أن تغدروا بنبي الله وتدلوا عليه صخرة لتقتلوه، أفتظن يا أخا يهودَ أنَّا تاركوكُم تعيثون في الأرض فسادًا، وتكفرون النِّعم، ولا ترعونُ حرمة ولا ذِمامًا ولا عهدًا، وتتآمرون على المسلمين تحت الليل، وتعدون عليهم غارِّين آمنين؟ ووالله لقد صبر عليكم عُمَر صبرًا طويلًا، ولو كان حَزَّ رقابكم جزاءً بما تصنعون لقلَّ ذلك لكم.

قال ابن الحارث: لشدَّ ما تِهْتُم علينا أيها الناسُ، فوالله ليكونن لهذا اليوم الذي أذللتمونا فيه وفضحتمونا وأجليتمونا عن أرضنا وأرض آبائنا يوم مثله يكون لنا عليكم، فقد جاء في كتبنا أنه سوف يجئ يوم تدخل فيه اليهودُ على أبناءِ يعرب هؤلاء فتذيقهم بأسًا شديدًا وعذابًا غليظًا، حتى ترى اللُّقمة في يد المسلم قد أدناها إلى فيه فإذا على رأسه رجالٌ من أشدَّاءِ يهود تنفِّره حتى يدعَها لهم. ولتدخلنَّ نساؤنا على نسائكم حتى لا تبقى امرأة منكم إلا نامت بشرّ ليلةٍ ممّا تَلْقى من نسائنا، ولنسوقنكم كما سقتمونا حتى نجليكم عن ديار آبائكم وأجدادكم ولنفعلن الأفاعيل حتى تكون لنا الكلمة العليا ونحن يومئذ أحق بها. والله ما نصبر على ما آذيتمونا إلا انتظارًا لما يكون غدًا كما قال لنا أنبياؤنا. وكأني أنظر إلى غدٍ، فأرَى وجوه الأحباب من بني إسرائيل قد سقطت عليكم من كل فج كأنهم جرَادٌ منتشرٌ تأكل يابسكم وطريَّكم، ولا تدعُ لكم موطئ قدم إلا كان تحته مِثْل جَمْرِ النار. وإنكم لتقولون إن الله قد ضرب علينا الذلة والمسكنة. فوالله لئن

ص: 352

صدقتمُ اليوم إذْ أَمِر أمرُكم (1)، لتعرفنّ غدًا أننا شعب الله الذي لا يرضى له الله بالذلة والمسكنة، ولقد كنا ملوك الأرض فدالت دولتنا كما دالت من قبلها دول، ولكن الله بالغُ أمره يوم تدولون كما دُلْنا ويعودُ الأمر إلينا، فنحن قوم أولوا بأس شديد، ونحن أهل الكتاب الأوّل، ونحن أتباع الحقِّ. فإذا جاء ذلك اليوم يا أبا عبد الرحمن فستعلمون أينا أشدُّ تنكيلا. فوالله لنتخذَّنكم لنا أعوانًا على أنفسكم، ولنضربَن غاديكم برائحكم ومقبلكم بمدبركم، ولنوقعنَّ الفتنة بينكم حتى يُصْبح الرجل مِنكم مؤمنا ويمسي كافرًا، وليكوننَّ لنا من أنفسكم رجالٌ يخربون بيوتهم وبيوت آبائهم وهم عنا رضوان ولنا مطيعون!

قال محمد بن مسلمة: فسمعتُ الرجل يقول قولًا كبيرًا، فقلت له: لئن صدقَ أنبياؤكم فكانَ ذلك، فما صدقوا إلا ليصدقوا رسول الله في خبره، فأنتم اليوم أشتاتٌ مبعثرون في جنبات الأرض، وليزيدنكم ربُّكم فُرقةً وشتاتًا، فإذا جاء ذلك اليوم فدخلتم علينا أرضَنا وعلا أمركُم في حيث يشاءُ الله منها، فلكي تتم فيكم كلمة الله وليعذَّبكم وليستأصل شأفتكم من أرْضه، ولتكونوا عبرةً للطاغين من أمثالكم، فقد قال الصادق المصدّق رسول الله:"تقاتلكم يهودُ فتسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهوديّ ورائي فاقتله"، فوالله ليكونن ذلكَ كما أرادَ الله، ويومئذٍ يعض طُغاتكم وطواغيتكُم أطراف البنان من النَّدم، فالعربُ هي ما علمت يا ابن الحارث لا ينامُ ثائرها (2) ولا يُخطم أنفها بخطام.

(قال عمر) قلت: يا أبا عبد الرحمن! وإن ذلك لكائنٌ؟ قال: يا بني، ما علمي بالغيب! ولكنه إذا جاء فليقضيَنَّ الله بيننا قضاءَه، ويكونُ يومئذ فناؤهم على أيدينا، فأمرُ المسلمين إلى ظهور، وأمر يهود إلى حُكم الله الذي ضرَب عليهم الذِّلة والمَسْكَنَة إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس. والله يحكم لا معقِّب لحكمه.

(1) أَمِرَ أمركم: اشتدَّ وقويَ.

(2)

الثائر: الذي لا يُتقى على شيء حتى يُدرك ثأرَه.

ص: 353