الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تَمَلُّوا
شدَّ ما فزعتُ حين قرأتُ في صدر الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) نبأ تلك المحاولة الجديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب (أي مراكش). وقد آثر الموحي بهذا المقال أن يسمى هذا الأمر "محاولة جديدة" ولكني أعلم أنها ليست سوى "حيلة" أخشى أن تغرر بكثير من قراء العربية، لقلة اطلاعهم على أنباء هذا الشعب الأبي السجين الذي ضربت عليه فرنسا نطاقًا من الكتمان والصمت، لم يضرب على شعب قط في هذه الدنيا، ولا في بلاد السوفيت. وأنا أحب أن أكشف الغطاء عن هذه "الحيلة" التي يُرادُ بها تضليل الناس عن حقائق كالشمس ظاهرة لكل من متعه الله بنعمة البصر. وأحب أن أصفي (1) هذا الكلام لقرَّاء "الرسالة" لأنهم همُ الفئة الحية التي تقرأ لتعلم وتعمل بما تعلم.
فهذا الشيء الذي سماهُ بعضهم "محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب"، ليس شيئًا سوى محاولة من فرد واحد يعاونه قليلٌ من الناس على إحداث خرق في إجماع أمة كاملة، وصدع بنيان مرصوص لم أعلم فيه إلا خيرًا وتماسكا وبقاء على كلمة الحق التي لا تزول، وهي "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال" إن كان ثمة حاجة إلى مفاوضة أو معاهدة.
وبلاد المغرب ثلاثة: تونس، والجزائر، ومراكش، وفي كل قطر من هذه الأقطار الثلاثة حزبٌ له الكثرة الساحقة، بل لا يكادُ يوجد فيه أقلية حتى نقول إن لهذا الحزب كثرة ساحقة، بل الحزبُ هو الأمة، وهو التعبير الصادق عنها. وهذه الأحزابُ لا يمكن أن تسمى أحزابًا بالمعنى المعروف في مصر والذي كان وليد الاحتلال البريطاني الذي فرَّق الكلمة وباغض بين القلوب.
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 758)، يناير 1948، ص: 45 - 48
(1)
أصفيْتُهُ الودَّ: أخلصته مما يكدره ويهجنه.
ففي تونس الحزبُ الدستورى، ورئيسه الحبيب بورقيبة. وفي الجزائر حزبُ الشعب، ورئيسه أحمد مصالى الحاج، ومندوبه في مصر والسودان هو الشاذلي المكى. وفي مراكش حزبُ الاستقلال ورئيسه محمد علال الفاسي. وفي المنطقة الخليفية عن مراكش حزبُ الإصلاح ورئيسه عبد الخالق الطريس. وهذه الأحزابُ هي المعبره عن بلاد المغرب كلها، ورؤساؤها جميعًا مقيمون الآن في مصر، وجميعهم على رأي واحد قد أذاعوه في كل وقت وفي كل بلد، وهو "لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال" وهم جميعًا لايزالون إلى هذه الساعة على هذا الرأي لم يتحوَّل عنه أحدٌ منهم، ولن يتحوَّل بإذن الله. وإجماعُ هؤلاء الرجال هو إجماع أمم المغرب كلها، شعوبًا وأفرادًا. وهؤلاء الرجال هم الذين شرَّدتهم فرنسا أو إسبانيا وَسجنتهم ونفتهمْ واضطهدتهم، وباعدَت بينهم وبين أهليهم وحلائلهم وأبنائهم، وأرادت أن تقصم أعوادهم فلم تجد إلا بأسًا ومضاءً ومصابرة وجهادًا في سبيل الحق الأول لكل شعب وهو الحرية والاستقلال. وهؤلاء الرجال هم الذين بقوا إلى اليوم لا ينخدعون بما انخدعت به أمم من قبلهم من مفاوضات ومعاهدات ومحادثات، وسياسات خربة خراب ذمم اليهود. ومن هؤلاء الرجال وحدهم يؤخذ حديث ما بين فرنسا والمغرب، وعلى هؤلاء الرجال وحدهم يعتمد، وإلى هؤلاء الرجال وحدهم تُلْقِى شعوب تونس والجزائر ومراكش بالمقادة، بعد أن جرَّبتهم وعرَفتهم واطمأن قلبها إليهم وإلى ما يأتون وما يذرون. وهم قوم لا يفتات عليهم، ولا يقضى على شعوبهم وهم غُيَّب. وهم رجال يعملون ولا يدَّعون ولا يتظاهرون، ولا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو بسلطان لهم لم ترضه بلادهم وشعوبهم، وهم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم، ولهم مكاتب في مصر والشام، وفي فرنسا وإنجلترا وأمريكا، لم تزل تتكلم بالكلمة الواحدة التي لا حِوَلَ عنها وهي:"لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال".
فما هو إذن "حزبُ الشورى والاستقلال" الذي اتخذ لنفسه رئاسته محمد ابن الحسن الوزاني هداه الله، واحتمل ثقل النيابة عنه محمد العلمي العربي سدَّد الله خطاه، إنه حزب كما تسمى الأحزاب، ولكني أعلم ويعلم كل من وقف
على حقيقة النبأ في بلاد المغرب، أنه حزب لا يتبعه من شعب مرَّاكش أحد إلا من شذ عن إجماع أمة قد جاهدت منذ سنة 1912 وظلت تقاتل فرنسا وإسبانيا إلى سنة 1933، لم تضع السلاح إلا بعد أن فنيت صفوة المجاهدين، وقلَّ الزاد وعزَّ السلاح وحوصروا حصارًا شديدًا أكثر من إحدى وعشرين سنة كاملة.
وما أظن أحدًا نسى جهاد البطل الذي أذلَّ هامات الإسبان والفرنسيس حتى خدعوه وأمّنوه ثم غدروا به، وهو الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابى.
إن هذا الحزب الذي قدَّم إلى المقيم الفرنسى الباغى الجنرال جوان "مذكرة ضافية لتعمل حكومة باريس على تحقيق ما ورد فيها بما يحفظ حسن العلاقات مع فرنسا" لا يعبر البتة عن عزيمة شعب مراكش، بل يعبر عن رأي رئيس الحزب ونائبه وحدهما. فنحنُ نعلم علم اليقين أن حزب الاستقلال، وحزب الإصلاح في مراكش، هما صاحبا الرأي الأول والأخير في هذا الأمر الذي يتعلق بإجماع الشعب المراكشي، وأن الأمة المراكشية كلها من وراء كلمتها:"لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال"، ونحن نعلم أن جلالة محمد الخامس ملك مراكش يعلم أن الشعب جمع على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال، وأنه هو نفسه الذي يتولى قيادة الدعوة إلى أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال.
وقد استطاع نائب حزب الشورى هذا، أعني الأستاذ العلمى أن يوجه نظر الصحافة المصرية إلى هذه البدعة التي مضت عليها شهور منذ قام محمد بن الحسن الوزاني داعيًا إلى الاتفاق مع فرنسا أو على الأصح مظهرًا رغبته في الاتفاق مع فرنسا، بعد ابتعاده عن حزبه الذي نشأ فيه، وهو حزبُ الاستقلال الذي يرأسه محمد علال الفاسى. وقد نجح الأستاذ العلمى مرتين، ولكن هذه الأخيرة هي أشدهما خطرًا. ولو علمت الصحافة المصرية أن شأن حزب الشورى الذي ذكرناه، لا يكاد يكون شيئًا في بلاد مراكش، لطوت هذه الصحيفة مرة واحدة، ولرجعت حديثها عن شأن مراكش إلى رؤساء حزب الاستقلال وحزب الإصلاح وسائر الأحزاب المغربية في تونس والجزائر، ولو فعلت لعلمت أن هذه "المحاولة الجديدة" ليست سوى محاولة برجل زعيم حزب، نعم، ولكن بغير شعب.
وكان حقًّا على هذه الصحف المصرية أن ترجع إلى مكتب المغرب العربي لتقف منه على حقيقة ما تقول. وكان حقًّا عليها أن تعتبر هذا الحزب بأشباهه عندنا من الأحزاب التي لا شعب لها إلا رئيسها، وكان حقًّا على هذه الصحف أن تعرف أن سائر رؤساء أحزاب المغرب مقيمون في مصر منفيون عن بلادهم فكان لزامًا أن ترجع إليهم قبل أن تنشر أشياء تمزق أصحاب الحق على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال. وكان حقًّا عليها أيضًا، إذ نسيت أن تفعل هذا، أن تفكر في شأن حزب الشورى المفاوض الجديد، فهو مقيم تحت ظل السلطان الفرنسى هناك في مراكش، وهؤلاء سائر رؤساء الأحزاب المغربية مشردون منفيون مهاجرون إلى مصر، لكي يخدموا بلادهم ويجاهدوا في سبيلها وهم بنجوة من سلطان فرنسا فأي هذين أولى بأن يكون هو المطالب بحق بلاده؟ وأيهما أولى بأن يؤذن له ويُستمع؟ وأيهما أصدق تعبيرًا عن رغبة الشعب الذي ظل إحدى وعشرين سنة يقاتل في كل بقعة من بقاع المغرب وحيدًا مجهولا حتى تفانى شيوخه وهلك كهوله وذُبِحوا ذَبْحَ فتيانه، وورَّثوا أبناءهم أحقادًا لا تموت على فرنسا وعلى الطغاة من أشباهها.
وهؤلاء الزعماء الذين ذكرناهم آنفًا هم بقية السيف، وهم المشردون المعذبون، وهم العاملون الصادقون الذين آثروا الجهاد على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم، وخرجوا يطوفون في الدنيا ليؤلبوا العالم كله على بغى فرنسا وطغيانها وعدوانها وظلمها، وقد تركوا وراءهم شعوبًا تدين لهم بالطاعة، ولا ترضى أن تدين لأحد سواهم، لأنهم إنما يعبرون عن سر عزائمها ونياتها، أي عن الجهاد في سبيل بلادهم بلا هوادة، وإلى أن ينالوا حقهم كاملا لم تتخوَّنه (1) مكايد الاستعمار وخُدعه. وقد اتعظ هؤلاء الأبطال الصناديد بما لقى بعض إخوانهم من أمم الشرق، حين زلِقَت أقدامهم فزلوا في المهاوى المظلمة المتشعبة التي تسل القوي من نفس سالكها، ألا وهي هوّة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات، التي ابتدعتها شياطين الاستعمار الذين يعرفون باسم ساسة بريطانيا، ففرقوا بين الأخوين، وباعدوا بين العشيرتين، ومدوا المطامع لخائنة الأعين، (2)
(1) تخوّنه: تنقُّصه.
(2)
خائنة الأَعْيُنِ: ما تُسارِق من النظر إلى ما لا يَحِلَ.
فهب فريق من هنا يقاتل فريقًا من أهله هناك، ووقفت بريطانيا بينهما تنظر وتضحك وتسخر، وتحرك هذه الدمى إلى أن تنقطع الحبال فتهوى في الهوة السحيقة الملعونة، هوَّة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرفوا ذلك فأبوا أن يكونوا طعامًا لمستعمر جبّار يريد أن يتلعَّب بهم، فاختاروا ما هو أهدى لأممهم وأبقى في وحدتها، وأشد لقوتها، وأنأى بها عن العداوات بين بعض الشعب وبعض. لقد عرفوا أن قيادة الثُّوار، تقضى عليهم أن ينظروا إلى خير هؤلاء الثُّوّار قبل أن ينظروا إلى خير أنفسهم، وعرفوا أن الذي هم مقدمون عليه هو الجهاد الذي لا ينتهي حتى ينتهي هذا الاستعمار البغيض، وأن الأمم المجاهدة في سبيل حقها ينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها، وأنه ينبغي أن ينشأ الجيل من شباب الأمة بعد الجيل، وهو يرى أمامه مجاهدين لا يفترون ولا يضعون السلاح، فذلك أحرى أن يملأ قلب الجيل حميّة وأنفة ورغبة في بلوغ الكمال في العلم والمال والسلاح، حتى يجاهدوا كما جاهد آباؤهم وإخوانهم من قبل. وعرفوا أن المهادنة في مثل هذا إنما هي مهادنة تورث الشعب ضعفًا، وتمكن للدساسين والخبثاء أن يتخافتوا بينهم في الدعوة إلى ما يفت القوي ويضعضع العزائم، فلا يلبث أن ينفض عن المجاهدين من تخاذل وآثر الراحة على لأواء الجهاد. وعرفوا أيضا أن الشعب الثائر غير الشعب الذي يتبحبح في مسارح السلم، فأولهما ينبغي أن يظل ثائرًا لا يعرف اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بالأخرى. وفيم يلين أو يسلم أو يأخذ بيد ويعطى بأخرى؟ أفي الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ أنبئوني أي شيء من هذه الثلاثة يتجزَّأ حتى يقبل اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بأخرى، وهو جوهر المفاوضات والمعاهدات والمحادثات.
لقد عرف هؤلاء النفر الذين رضي الله عنهم ورضيت عنهم أممهم، أن الذي بينهم وبين فرنسا هو الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، فعلى فرنسا أن تسلم وأن تلين وأن تعطي بيد ولا تأخذ شيئًا، لأنها لن تأخذ إذا أخذت إلا ذلك الذي أعطت. وهذا بداهة العقل، وبداهة النفس الطيبة، وبداهة الفطرة الإنسانية التي لا تنخدع بزيف الكلام ومزوَّقه. إما الحرية والاستقلال، وإما الصراع في سبيل الحرية والاستقلال، ولا مفاوضة على شيء ينبغي أن يتم جميعًا أو لا يتم البتة على
نقصان وتخوُّن وتمزيق، ولا معاهدة لحرّ على ترك شيء من حريته لغاصبه وسالبه والمهيمن عليه بالطغيان والجبروت، فهو إن شاء منع وإن شاء أعطى.
كلا، إنه الحق فلا معاهدة ولا مفاوضة ولا محادثة إلا بعد الاستقلال وجلاء آخر جندي فرنسي وإسباني عن أرض المغرب كله: تونس والجزائر ومراكش. وإن في البلاء الذي ابتليت به مصر والسودان والعراق وشرق الأردن وسواها من البلاد، لعظة لكل امرئ أضاء في قلبه الإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية.
وما الذي يريده حزب الشورى الجديد في مراكش؟ أيريد أن تلقى بلاد المغرب على يده ما لقينا من بلبلة وضياع وهلاك وضعف؟ أيريد أن يرى الشعب المراكشي أحزابًا يأكل بعضها بعضا، ويتشاحن ضعيفها وقويها على مناصب الحكم؟ أيريد أن يرى كل أسرة في بلاد المغرب قد مزقتها الأهواء وعصفت بها عواصف الشهوات الخفية إلى متاع قليل من متاع هذه الدنيا من مال أو سلطان؟ أيريد أن يرى الشعب يتلهف تلهف البائس المسكين على فتات ما تجود به عليه فرنسا في معاهدة يقال له اليوم إنها "معاهدة الشرف والاستقلال" ثم يقال له بعد غد إن هذه المعاهدة نفسها "حماية بالثلث"؟ أيريد أن يرى بعد قليل شباب بلاده وهم يتطاحنون على أسماء رجال لو انكشف الغطاء عنهم لكانوا سوأة في كيان الشعب لو عقل لسترها كما كان يئد أهل الجاهلية بناتهم خشية الخزي والعار؟ أم يريد أن يرى هؤلاء الشباب وهم لا يثقون بأحد من رجالهم بعد كشف الغطاء عن فضائحهم، فيكونون حربًا على بلادهم يطعنون أنفسهم كل طعنة نجلاء بقولهم:"إننا شعب لا يصلح للاستقلال"؟ أيريد هذا الشعب الذي لقيته أمم من قبلهم فاوضت وحادثت وعاهدت، فخرجت من ذلك كله منهوكة مجرحة معذبة تمتهن أشرف شرفها بأخس قول وأرذله؟ ..
حاشا لله أن يريد حزب الشورى لبلاده مثل هذا. وأنا أعرف الوزّانى منذ أكثر من عشرين سنة، فأنا أسأله بالعهد الوثيق أن يفيء إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرِّ النظرين (1)، لا يقربها إلا
(1) بشر النَّظَرَيْن: أي بشر الأمرين في الاختيار. وفي الحديث "مَن ابتاع مُصَرَّاة فهو بخير النَّظَرَيْن"، أي خير الأمرين له، إما إمساك المبيع أو ردُّه، أيهما كان خيرا له واختاره فَعَله.
مقاتلا مجاهدًا رافعًّا باسم بلاده وحريتها واستقلالها وكرامتها. وما خُلق الإنسان إلا للجهاد في هذه الحياة حرًّا كريمًا، فإذا سلب الحرية وذيد عن الكرامة، فعليه أن يجاهد في سبيلهما جهادًا متطاولًا هو وأبناؤه وذراريه لا تداخلهم سآمة ولا ضجر ولا ملل مستعينًا بالله الذي ينصر المستضعفين في الأرض وينصر الذين لم يملوا الجهاد فيلجأوا الى المهادنة أو المفاوضة.
أيها الإخوان الصناديد! جاهدوا وصابروا ورابطوا ولا تملوا حتى يأتيكم نصر الله، ولا تعجلوا على ربكم فإن الله لا يمل حتى تملوا، فإذا مللتم فيومئذ يحيق بكم ما حاق بكل من هادن في حقوق بلاده.