الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهر النصر
كان محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينبأ (1) رجلًا من العرب، ثم كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث (2) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود مثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. ومن يومئذ صار هذا الرجل من العرب رسول الله الذي وجبت على الناس كافة طاعته والامتثال لأمره فيما نهى عنه وما أمر. وذلك أول الإسلام الذي نفض العرب من بواديهم حتى ملأوا الأرض عدلا وإيمانًا وتكبيرًا باسم الله العلي الأعلى.
وقد فجئه الحق وهو بغار حراء في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فيومئذ نزل أول القرآن إذ قال له الملك:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:"لقد خشيت على نفسي! " فقالت خديجة: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لَتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
فكان كما قالت رضي الله عنها، فلم يخزه ربه الذي أرسله بالحق ليهدى الناس إلى صراط مستقيم. وذلك أول الإسلام.
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد 734)، يوليو 1947، ص: 835 - 837
(1)
ينبأ: أي قبل أن يحمل إلى الناس نبأ ربه.
(2)
تحنَّث: تَعَبَّد واعتزل الأصنام.
ثم كانت سنة ثنتين من الهجرة، ففي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى، وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، وأعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله، وكانت فيصلا في تاريخ الإسلام. ويومئذ حقق الله للمؤمنين ما وعدهم إذ يقول:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ثم قال الله تعالى يمن على المؤمنين ما أكرمهم به: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فكانت بدر الكبرى هي المنة العظمى على البشر جميعًا، إذ أتاح الله يومئذ للمسلمين أن يسيحوا في الأرض، وأن ينصروا الله وأن يجعلوا كلمته هي العليا، وأن يردوا العرب إلى شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام وهي الحنيفية السمحة، فانكشفت خلائق العرب بنبلها وكرمها وعدلها وصفائها حتى لم يبقَ على ظهر الأرض من بلغته الدعوة، أو من رأي هؤلاء الأحرار المؤمنين حتى تبع قبلتهم وآثرهم بالحب، فمكن الله للعرب أن يفتحوا الأرض ويثلوا العروش ويملكوا ما أظل ملك كسرى وقيصر في ثمانين عامًا، وأقاموا حضارة قامت على العدل والمساواة والإنصاف والتسامح، وعلى رعاية أهل الأديان وحياطتهم، وعلى رد بغي الباغين وعدوان المعتدين من أي مِلة كانوا.
كان الإسلام فيصلًا حقًا في تاريخ الأديان، وكان أول أمره في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وكانت غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها أهل الإسلام من العرب في يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. ثم شاء الله أن يدور الزمن دورته على مجد العرب وحضارة العرب، وأن تكون مصر والسودان مناط آمال العرب في هذا العصر، وشاء ربك أن ينعقد إجماع مجلس
الأمن على أن تعرض قضية مصر والسودان في يوم الثلاثاء بعد أن تخلو من رمضان ثماني عشرة ليلة من سنة 1366 من الهجرة، وهو اليوم الموافق للخامس من أغسطس سنة 1947 من ميلاد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام. إنها إن شاء الله بشرى الحق بأن الله قد كتب لقضية مصر والسودان أن تخرج من معمعة مجلس الأمن مؤيدة بنصر الله {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} . فهذا شهر مبارك قد عوّد الله فيه العرب والمسلمين أن ينصرهم على عدوهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يؤيدهم بالنصر في ساعة العسرة حيث هم قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس. . .
ولا يستهينن أحد بخطر هذه القضية، فإن مصر والسودان هي قلب إفريقية أولا، ثم هي قلب العالم العربي، ثم هي قلب العالم الإسلامي كله. فالنصر الذي سوف تناله إن شاء الله على بريطانيا هو نصر لهذه الثلاثة واجتماع لكلمتها، وتاريخ جديد لحياة إفريقية وحياة العرب وحياة الإسلام.
إنها ساعة فاصلة في تاريخنا، فعلى كل مصري سوداني أن يعد عدة الجهاد، وأن يملأ منذ اليوم كنانته، وأن ينصر هذا الوفد الذي سافر إلى أمريكا بيده وقلبه ولسانه، وهذا فرض واجب لا يكاد يسقط عن أحد منا من ذكر أو أنثى. فإننا في ساعة يصنع فيها التاريخ، ولن يخطئ المخطئ المتعمد، أو يولى المقاتل المتهيب إلا كان ذلك فَتًّا في أعضاد المجاهدين الذين رموا بأنفسهم في وطيس المعركة.
ونحن نناشد زعماء الأحزاب الذين تعوّدوا الخلاف والنزاع أن يكفوا غرب ألسنتهم عن إخوانهم الذين سبقوهم اليوم إلى جهاد عدوهم، وأن يوجهوا قدرتهم على الطعان إلى نحور القوم الذين اغتصبوا حقنا وآذونا وضربونا بالذل والهوان أكثر من ستين عامًا، ولم يرعوا فينا شيئا من إنسانية أو شرف. وكل كلمة تنال من وفدنا إلى أمريكا هي ضرب من التخذيل يسوء مصر والسودان، ويسر بريطانيا التي تحاول اليوم أن تملأ الدنيا علينا كذبًا، فلا نكونن إذن حربًا على أنفسنا، وعونًا على اهتضام حقها، ونصرًا لأعدائنا على أنفسنا.
وحقيق بمصر والسودان في هذه الساعة الفاصلة التي شاء الله أن يوافق تاريخها الساعات الفاصلة في تاريخ العرب والإسلام -حقيق بها أن تتوجه إلى الرجل العربي الشريف الأصل الكريم المحتد الطاهر النسب، والذي إن شاء كان النصر الأعظم الحاسم لقضية مصر والسودان، وكانت كلمته القضاء الفصل والحجة الدامغة لأباطيل بريطانيا ودعواها، الرجل الذي هو ثانى اثنين (1) في السودان، فشق الإنجليز ما بينهما بالدسيسة والوقيعة والتخذيل حتى فرقوا بين الأخوين.
فإلى الرجل الذي مثلت بريطانيا بجثمان أبيه الطاهر، وإلى الرجل العربي المسلم الذي يؤدي حق ربه وحق عباده خاشعًا متخشعًا لله، وإلى المصري السوداني الذي أراد الله أن يمتحنه بأعظم المحن في هذه الساعة الفاصلة في تاريخنا، وفي هذا الشهر المبارك من شهور الإسلام -إلى السيد المهدي:
إنك أيها الشريف رجل من العرب ثم رجل من المسلمين قد أكرمك الله وأيدك وبارك لك وأعانك، والرجل العربي المسلم لا يتخلف عن نصرة الحق بل هو كما قال له ربه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . والرجل العربي المسلم لا يلدغ من جحر مرتين، وبريطانيا قد لدغتنا جميعًا مرارًا كثيرة. أليس زعمها أنها حريصة على استقلال السودان وكفالة حرية أهله في تقرير مصيرهم، هو نفسه ما كان يوم دخلت مصر زاعمة أنها لا تريد إستعمارا ولا اعتداء، وأنها إنما تريد تثبيت العرش صدقة وتبرعًا، فإن استتب عادت إلى بلادها وجلت عن بلادنا؟ فهل فعلت أيها السيد الشريف العربي المسلم؟ إني لأنزهك عن أن تخدع بكذب بريطانيا فهي أكذب من هذه الحياة الدنيا وأغدر:
وخلائق الدنيا خلائق مومس
…
للمنع آونة وللإعطاء
طورًا تبادلك الصفاء، وتارة
…
تلقاك تنكرها من البَغْضاء
فهذه بريطانيا العدو المحتال الذي من شيمته أن يوقع بين المتحابين ليحطم
(1) يعني بالآخر: السيد الميرغني.
بأسهما جميعًا. وهذه مصر التي ربطها الله بالسودان منذ أقدم الأزل والتي هي قطعة من السودان يراد بترها منه، فإلى أيهما أنت أقرب، وفي هوى أيهما أنت أرغب؟
إننا ندعو الله الذي هدانا وهداك إلى الإسلام أن يهديك إلى الحق ويسددك وينصرك، وأن يوفقك إلى ما يتمناه قلب كل مصري وسوداني: أن تكون ناصر الإسلام وقاهر الأعداء ومُحِقّ الحق ومبطل الباطل، فتضع يدك في يد أخيك السيد الميرغني وتخرجا على بريطانيا مرة أخرى واحدة تعلنان أن مصر والسودان أمة واحدة وأن بريطانيا كاذبة فيما ادعت علينا وعليكم، وأن لا حياة لأحدنا إذا اقتطع عن صاحبه. افعل هذا أيها السيد الشريف العربي، تكن أعظم مجاهد في تاريخ إفريقية وتاريخ العرب وتاريخ الإسلام. افعل هذا في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، والذي نصر الله عباده ببدر وكانوا يومئذ مستضعفين في الأرض يخافون أن يَتَخَطَّفهم الناس. افعل هذا أيها الشريف العربي تنل بكلمة واحدة مجد الأبطال ومجد الملوك، ويصبح اسمك هدى ومنارًا لكل عربي وكل مسلم ما بقى على الأرض عربي أو مسلم. إنني أدعوك باسمي وباسم الصداقة التي كانت بينك وبين أبي رحمة الله عليه. أدعوك دعوة رجل صائم لله وأدعو الله أن يهديك ويؤيدك بنصره ويمكّن لك، وفي هذا الشهر الطاهر المبارك يرجو المسلم أن تستجاب دعوته: فاللهم أعنا وانصرنا بالهدى. اللهم خَذِّل عنا أعداءنا. اللهم أنقذنا وارحمنا وكن عونًا لنا ولإخواننا في الدين والعروبة.
أيها الشريف العربي، إننا وقوف نترقب، ونتوق، ونتلهف. وظني فيك أنك فاعل ما أراد الله من نصرك لأهله، وأنت أهل الخير ومعدن الكرم وابن الصناديد الأماجد من بني قحطان. السلام عليك أيها الرجل سلام أخ وابن أخ.