الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة أخرى
قرأت كلمة الأستاذ محمد العربي العلمى في عدد الرسالة (759) يردّ على ما كتبته في قضية الاستقلال الذي تطالب به بلاد المغرب، ومن حق الأستاذ أن يردَّ، ومن حقه أن يعلمني ما أجهل، ومن حقه أن يرشدني إلى وجه الصواب فيما زعمت أو رأيت، كلّ هذا من حقه، ولكن ليس من حقه أن يخرج الكلام عن جادّته، أو أن يستنبط منه أشياء ليست فيه كقوله إني عرضت للوطنيين من أهل المغرب "فاتهمت زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم". فهذا شيء مردُّه إلى ما كتبتُ لا إلى ما يقول به الأستاذ العلمى. والسفه والغفلة وما يشبه ذلك من أنواع التهم! ! كلمات كبيرة لا يحلّ للأستاذ أن يدّعى أنى أردتها بغير برهان من نص كلامي الذي كتبته.
ثم كرر الأستاذ العلمى أن الذي جاء في كلمتى إنما هي أشياء أُلقيت إليّ فحكيتها بلا تحقيق ولا روية، أو ألقيت إليّ فاعتقدتها كل الحقّ وأغفلت ما وراءها. وأظن أيضًا أن هذا شيء غير لائق به أن يقوله، فضلا عن أن يكتبه. ولم أكن أظن أن الأستاذ العلمى يجترئ على أن يصفني بأنى أُذُن تصرفه عن الحق صداقة صديق أو عداوة عدو، ولكنه فعل، فلا أقل من أن أجزيه بالصفح عنه إكرامًا لصديقي الأستاذ محمد بن الحسن الوَزّانى، فهو رسوله وسفيره والنائب عنه.
ثم رأيت الأستاذ أكرمه الله يزعم أنى بما كتبت إنما كنت أحاول أن أحدث في الائتلاف الوطنى المغربى "ثلمة" وأن ألقى حوله "بذرة من بذور الشقاق". وهذا شيء كثير، ولكني أعود فأصفح عن الأستاذ، لا لشيء إلا لأنى أترك الحكم في هذا الأمر لمن يقرأ فيفهم، وما أظن أحدًا ممن يطلع على ما كتبت يستطيع أن يقول إني "حاولت" هذا الذي زعمه الأستاذ.
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 760)، يناير 1948، ص: 103 - 105
ثم رأيت الأستاذ يقول: "ولعلي لا أكون فضوليًا إن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم"، وأنا لم أنسب إليهم شيئًا قالوه إلا قولهم "لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال"، وليس يهمنى أن يكون الأستاذ العلمى فضوليًا أو غير فضولى، ولكن الذي يهمنى ويهمّ قراء الرسالة وسائر العرب والمسلمين هو أن الذي حكيت عن زعماء تونس والجزائر صحيح قد اتفقوا عليه وقيدوه بالكتابة كما جاء في بيان سُمُوّ الأمير الجليل محمد بن عبد الكريم الخطابى الذي نشره في صحيفة الأهرام. وقد جاء فيه أن الأمير أعزّه الله خابر جميع "رؤساء الأحزاب المغربية ومندوبيها" فاتفق رأيهم على تكوين "لجنة تحرير المغرب العربي" من كافة الأحزاب الاستقلالية في كل من تونس والجزائر ومراكش على أساس مبادئ الميثاق التالى: ثم جاء في نص هذا الميثاق "د- لا غاية يسعى لها قبل الاستقلال -هـ- لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر -و- لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال". وقد وقع هذا الميثاق جميع من ذكرتهم في كلمتى ومن لم أذكرهم من رجال الأحزاب المغربية في تونس والجزائر ومراكش، ومن بينهم الأستاذ محمد العربي العلمى، والأستاذ الناصر الكتانى نيابة عن حزب الشورى والاستقلال.
والعجيب الذي لا يقضى منه عجب هو أمر الأستاذ العلمى، فقد كتبت كلمتى للرسالة بعد أن قرأت في الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) تحت عنوان "محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب"، وقد جاء في هذا النبأ ما نصه:"ويقول الحزب في مذكرته إنه يعتزم تحقيق المطالب الوطنية وهي استقلال البلاد -في نطاق وحدته الجغرافية والسياسية، وفي دائرة ملكية دستورية- من طريق المفاوضات، والاتجاه بالمغرب في مرحلة انتقال تسمح له بأن ينظم شئونه تنظيمًا حرًّا وبأسرع الطرق إلى تحقيق سيادته التامة واستقلاله المضمونين بمعاهدة تحالف وصداقة تبرم في ظل الحرية والمساواة بين المتحالفين. ويمكن تهيئة الجو السياسي الملائم لتحقيق ما تقدم، بأن يعلن رسميًا باسم فرنسا حق الشعب المغربي في تدبير شئونه في وقت قريب، وبأن تعتبر مصالح المغاربة ذات أسبقية في بلادهم، مع الصيانة التامة لسيادة البلاد واستقلالها الوطني".
هذا ما جاء في المذكرة التي قدمها حزب الشورى والاستقلال إلى الجنرال جوان المقيم الفرنسى، وهو صريح في النص على تحقيق "استقلال البلاد من طريق المفاوضات"، وهذا هو الذي دفعني إلى كتابة ما كتبت عن حزب الشورى والاستقلال، وهو الذي دفعني إلى أن أتوسل إلى الصديق محمد بن الحسن الوزاني "أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرّ النظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهدًا رافعًا باسم بلاده وحريتها وكرامتها واستقلالها"، كما جاء في آخر كلامي. وقد تحدث الأستاذ العلمي إلى مندوب الأهرام بما يطابق هذا المبدأ، بيد أنى رأيته في اليوم الثاني يوقع على ميثاق لجنة التحرير الذي ينص نصًّا صريحًا على أنه لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال. فهذا تناقض بين لا ينقضى منه العجب، كما لا ينقضى عجب القارئ حين يقرأ كلمته في الرد عليَّ فيراه يقول إني أزعم "أن زعماء تونس والجزائر في القاهرة يرون رأي علال الفاسى في القعود وعدم المفاوضة"، ثم قوله إنه يؤكد لي "أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لا أجد داعيًا لاشتغال قراء الرسالة بها"، ومعنى ذلك أنه يرى أن عدم المفاوضة قعود عن الجهاد، وأن كلمة "لا مفاوضة" كلمة مستحدثة لا عهد لحزب الاستقلال ولا لحزب الشورى والاستقلال بها، ثم يختم مقاله بأن يؤكد لي بأنه "لن يدخل في أية مفاوضات إلا بعد إعلان الاستقلال"! ! فهذا تناقض مُرٌّ شديد المرارة.
وأنا لا أكتب هذا لأرد على الأستاذ العلمي، فإن هذا التناقض العجيب المر الشديد المرارة، جعلني أرى أن لا فائدة من الرد، ولكني آثرت أن أعرض على القراء شيئًا كنت أخشى أن يفوتهم الاطلاع عليه، وهم في حاجة إلى الاطلاع على مثله.
وأما ما جاء في كلامه من ذكر فلان وفلان من رجال المغرب، فلست أنبرى، ولا يحق لي أن أنبرى، للدفاع عنه، لأنى كما قال الأستاذ:"غير متفطن إلى أنى أتحدث عن بلاد لم أرها، وليس لي من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل! ".
بقى شيء واحد يشق على مثلي أن يرضى عنه، وهو إقحام الأستاذ لأسد الريف الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابى في معرض هذا التناقض المر الشديد المرارة. فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبى الذي لا يقبل ضيمًا ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال". فقد هبّ أسد الريف وانطلق يجاهد بالسيف، وأبى أن يسلم للفرنسيس والإسبان شيئًا إلا سيفه بعد أن تقطعت أسباب الجهاد بالسيف، وأعرض عن كل مهادنة بينه ويين الفرنسيس والإسبان، واحتمل بلاء النفي والتعذيب صابرًا راضيًا مستعينًا بالله على أعدائه. أفلم يكن مما يرضى الفرنسيس والإسبان أن يهادنهم هذا الأسد ويفاوضهم ويأخذ منهم شيئًا ويسكت عن أشياء؟ بلى، لقد كان يرضيهم ولا شك، ولكنه لم يفعل، فمعنى ذلك كما فهمناه وكما فهمه الناس هو أن أسد الريف يرى رأيًا واحدًا هو أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، ولذلك احتمل ما احتمل، وصبر صبر المؤمنين الذين لا يفتنهم عن الحق عذاب ولا نفي ولا تشريد. وإذا لم يكن الأستاذ العلمي قد فهم هذا من بطولة أسد الريف، فليحدثنا إذن ماذا فهم؟ وفيم كان صبر أسد الريف وبطل العرب على البلاء الغليظ عمرًا طويلا تحيا فيه رجال وتموت رجال؟ وفيم كان جهاده وقتاله واحتماله رؤية أبنائه وهم يسقطون في ميدان الوغى بين يديه؟ أفعل كل ذلك ليفاوض، فيأخذ شيئًا ويغضى عن أشياء؟ حاشا لله.
أما الأستاذ محمد بن الحسن الوزانى، فأنا لم أرده بإساءة كما أراد الأستاذ العلمي أن يقول، بل كان كل كلامي منصبًا على المبدأ الذي جاء في المذكرة المرفوعة إلى المقيم الفرنسى الجنرال جوان، وهو مبدأ المفاوضة في الاستقلال، وهو مبدأ فاسد لن يسكت قلمي عن هدمه وتقويضه، ولو قال به أعز الناس علي وأكرمهم في قلبي، وهو عندي مذهب أقلية، ولو قالت به أمة بأسرها. وسأبقى ما حييت أدعو الأمم التي ابتليت بالاستعمار إلى مبدأ واحد هو أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، فهو عندي مذهب أكثرية، ولو لم يقل به إلا فرد واحد طريد شريد لا يجد في الأرض مكانًا يؤويه، أو عشيرة تنصره، أو أذنا تسمعه. وكل حزب يدعو إِلى المفاوضة، فهو عندي حزب بغير شعب ولو تبعته الجماهير
المضللة، وكل زعيم يدعو إليها فهو زعيم بغير شعب، وإن استطاع أن يجمع الألوف تصرخ من ورائه مؤيدة وناصرة، وقد كتبت هذا مرات في قضية مصر والسودان، وفي قضية العراق، وفي قضية الهند. فكل ما جاء في كلامي عن حزب الشورى والاستقلال، فهو مبني على هذا الأصل، وأظن أن الأستاذ الوَزَّانى يعرف هذا مما قرأه من كلامي منذ قديم، وأظن أنه فهم من كلامي عنه غير الذي فهم الأستاذ العلمي، وأظن أنه لم يغضب حين قرأ ما كتبت مثل الغضب الذي احتمل الأستاذ العلمي حتى كتب ما كتب، مما كان ينبغي أن ينزه عنه قلمه البليغ الجرئ.
وأنا أختم هذه الكلمة بأن أدعو صديقي محمد بن الحسن الوَزَّانى إلى صراط الحق، إلى أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، وأتوسل إليه مرة أخرى أن ينسى نفسه، وأن يملأ قلبه إيمانًا بالحق الأعظم، وهو حق شعبه وبلاده في الاستقلال والحرية والكرامة، ذلك الحق الذي لا يتجزأ ولا يقبل مفاوضة ولا مهادنة، وأدعوه إلى الجهاد الشديد في سبيل هذا الحق الذي لا تستطيع فرنسا ولا إسبانيا ولا بريطانيا ولا الدنيا كلها مجتمعة أن تمحو منه شيئًا أو تغير منه قليلا أو كثيرًا.
أيها الزعماء كونوا يدًا واحدة، ولتكن دعوتكم واحدة، واصبروا في جهادكم، ولا تفاوضوا عدوكم في حق شعوبكم، ولا تخاذلوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا فتذهب ريحكم، واعلموا أن المفاوضة ليست سوى ملل من طول الجهاد ومشقته، وأن الملل من كواذب الأخلاق، وأن الزعيم لا يكون زعيما إلا بأخلاقه، وقوام أخلاقه الصدق في كل شيء -في العداوة والصداقة، وفي الحب والبغض، وفي الرضى والغضب. سدد الله خطاكم، ومهد لكم سبيل الهدى، وطهر قلوبكم من كل كذب لا خير فيه.
1 -
الفتنة الكبرى
بادرت إلى قراءة كتاب "الفتنة الكبرى" الذي صنفه الدكتور طه حسين، لأنه أول كتاب له عن رجل من رجال الصدر الأول من الإسلام، وهو "عثمان بن عفان" أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعرف للدكتور مكانه من العلم والتحقيق، وحسن تأتيه في تخريج الكلام؛ فمن أجل ذلك أيقنت أنه سيملأ هذا الكتاب علمًا يضارع قدر هذا الرجل، ويوازن خطر الفتنة التي اضطرم سعيرها في آخر خلافته، وانتهى باغتيال خليفة رسول الله اغتيالا لم يعرف تاريخ الإسلام أبشع منه ولا أفظع. وقلت لنفسي قبل أن أتجاوز الكلمة الأولى من الكتاب: إن طه خير من يصور للناس هذه الأحداث المختلطة المضطربة، وخير من يهديهم في شعابها إلى مفصل الرأي ومقطع البيان. وقديمًا ما ضل الناس في بيداء هذه الفتنة المظلمة، وقديمًا ما أخطأ الكتاب فهم هذا الحادث الجلل، وقديمًا ما حار الناس في أمر المسلمين الذين ذبحوا خليفتهم كما تذبح الشاة المظلومة، وقديمًا وحديثًا ما خاض الناس، فما خاضوا إلا مضلة لا يهتدى فيها سار إلى علم يفضى إلى جادة واضحة أو إلى غاية معروفة.
رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب، وأنا على مثل هذه الثقة التي وصفت، وبمثل هذا الأمل الذي أملت، فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي. ولست أحب أن يعرف القارئ لم اختلج الكتاب. فهذا حديث طويل لو بدأت أقصه لما عرفت أين أنتهي، فأنا طاويه عنه؛ لأنى أوثر أن أدع قلبه حيث هو من الاستقرار والأمن والرضى، وأنا أفعل هذا وإن شاء هو أن أنشر هذا الذي طويت، وأفعله وإن كره لنفسه هذا الاستقرار والأمن والرضى. وحسب القارئ أن ينظر معي إلى موضعين في هذا الكتاب، لم ينقض عجبى منهما ولن ينقضى عجبه حين يقف على خبرهما.
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 761)، فبراير 1948، ص: 134 - 138
وأسبق القلم فأزعم أنى أسلم جدلا، كما يقولون، بأن كل الذي أتى به الدكتور طه صحيح في جملته وتفصيله، وأن الصورة التي أراد أن يصور بها تاريخ عثمان رضي الله عنه وتاريخ أصحابه ومعاصريه صحيحة أيضًا في جملتها وتفصيلها، وأزعم فوق ذلك أنى لا أخالفه في شيء منها خلافًا ما، وأنى لو كتبت تاريخ عثمان، وتاريخ الفتنة، لم أقل إلا بما قال إذ ذكر هذه الفتنة الخبيثة فقال ص 109 "فالفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء". وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة "فتنة عربية" و"عامة عربية" لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد غير العرب في دم عثمان، وأنت خليق وحرى وجدور بأن تفعل هذا وأن تتأمل فتطيل التأمل؛ لأنك سوف تلقى بعد قليل شيئا جديدًا كل الجدة، وحسنًا كل الحسن؛ فما تكاد تمضي صفحات حتى ترى بابًا في ص 131 يبدأ هكذا:
"وهناك قصة أكبر الرواة (المتأخرون) من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرًا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبد الله ابن سبأ الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء، حبشي الأم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغرى به ويحرض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعًا". ثم يقول: "وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكامًا، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام".
فأنت ترى من هذا لماذا أصر الدكتور منذ قليل على أن يصف الفتنة بأنها "عربية"، وبأن العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا "عامة عربية" أي أنه
ليس لهذا اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها. وهذا تخريج بين جدًا، لا يخالفنا فيه أحد ولا الدكتور طه نفسه فيما نعلم. ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول بعقب ذلك:"ويخيل إليّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافًا شديدًا. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرًا في (المصادر المهمة) التي قصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه. ولم يذكره البلاذرى في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى (أهم المصادر) لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر". وأُراني مضطرا أن أنقل لك أيضًا ما قاله الدكتور بعد ذلك في ترجيح رأيه وبيان حجته قال:
"ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكني أقطع بأن خطره، إن كان له خطر، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان. . . ولو قد أخذ عبد الله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديًّا فلم يسلم إلا كائدًا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به أحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين (محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة) لولا خوفه من عثمان. . . ولم يكن أيسر من أن يتتبع الولاة هذا الطارئ، ومن أن يأخذوه ويعاقبوه" ثم يقول في ص 134: "فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط. ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديًّا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه". ثم يقول: "هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ". هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة! !
هذا هو الموضع الأول، أما الموضع الثاني فهو أشد الأشياء علاقة بهذا، ولكن الدكتور قطعه عنه قطعًا كريمًا فترك صفحة 134 ومضى على وجهه في هذا البحث الجليل إلى أن بلغ ص 209 لكي يقول:"وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة إن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين. فهذه القصة فيما أرى ملفقة من أصلها"، ثم اختصر قصة الكتاب اختصارًا وقال:"كل هذا أشبه بأن يكون ملهاة سخيفة منه بأن يكون شيئًا قد وقع. والأمر أيسر من هذا. تلقى أهل الأمصار وعدًا من إمامهم فاطمئنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده! فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر وأن لا يعودوا إليه حتى يفرغوا". ثم تبين للدكتور أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والي مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر، ليس يحل الإشكال في عودة الوفد بعد أن فصل عن المدينة راجعًا إلى مصر، وتبين له أيضًا أن الغرض الذي ذهب إليه من أنّ أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي أنه كذب عليهم باللفظ الصريح، شيء غير مستساغ، فإنه سأل نفسه كيف تبينوا أنه كذب عليهم فلم يعرف كيف يجيب، فألقى الغرض كما هو وزاد عليه أنهم أقبلوا ثائرين، "فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد ألقوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال". ولكن رَأَى الدكتور طه، وهو خير من يرى الآراء، أن هذا الغرض مدخول كله إذا لم يعزز بغرض آخر، ففكر وقدر، ثم نظر ثم قال:"وأكاد أقطع بأن قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم، ثم أعلموهم بما عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان". وهذه كلها كما ترى فروض وتخيل، وإقرار أيضًا بما أنكره في أمر عبد الله بن سبأ من تنظيم (الجماعات الخفية) التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذا المبدأ هناك ويقره هنا! ! ثم يمضي الدكتور في فروض، فرضًا من بعد فرض، حتى يريك كيف تعقدت الأمور فجأة إلى أن كان مقتل عثمان، ولكنه يختصر
ذلك اختصارًا غريبًا عجيبًا لم أعرف له مثيلا في كل ما كتب الدكتور وفرض وادعى ثم جزم الرأي وقطع به، مما يعرفه أكثر قراء العربية الذين قرأوا للدكتور منذ أول نشأته في الكتابة.
ولست أحب أن أقف بك عند شيء إلا عند هذين الموضعين فأنا أكره الإطالة في تفلية كلام الدكتور، خشية أن لا أنتهي، فإن تحت كل حرف مما كتب علمًا كثيرًا لابد من تفليته وغربلته ورده إلى وجوه الحق التي زال عنها إلى سواها، وأنت ترى أننا اضطررنا اضطرارًا إلى الإطالة بالنقل، لئلا يفوت عليك شيء من لب حديث الدكتور وعلمه. وقد بدأ الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبد الله بن سبأ فذكر أن "الرواة المتأخرين" أكبروا من شأنها وأسرفوا فيها، وأنها لم ترد في (المصادر المهمة)، وأن (ابن سعد) لم يذكرها وأن البلاذري لم يذكرها في أنساب الأشراف (وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر)، وأن الذي ذكرها هو الطبري "وأخذه عنه المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر" كما يقول الدكتور.
1 -
وبدء الدكتور بقوله: "الرواة المتأخرين" فيه إيهام شديد، متعمد فيما يظهر! ! فإن الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 ومات سنة 310، فهو معاصر (البلاذرى) وفي طبقة تلاميذ (ابن سعد) صاحب الطبقات.
2 -
أن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذا الخبر هو من كبار المؤرخين القدماء، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري، وهو في مرتبة شيوخ (ابن سعد)، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة. فلا يقال عنه ولا عن الطبري أنهما من "الرواة المتأخرين" كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.
3 -
أن ذكر الدكتور (المصادر المهمة) فيه إيهام شديد وإجحاف جارف، فإذا لم يكن. كتاب الطبري من (المصادر المهمة)، فليت شعري ما هي المصادر المهمة التي بين أيدينا؟
4 -
أن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص، وأنه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تام وبعضها ناقص وبعضها مختصر. والدليل على ذلك مما نحن بسبيله أنه ترجم لعمر في 84 صفحة، ولأبي بكر في 33 صفحة فلما جاء إلى عثمان، والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه ويعلم الناس، لم يكتب سوى 22 صفحة، فلما ذكر علي بن أبي طالب والأمر في زمنه أفدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة. هذا على أن في الكلام على طريق ابن سعد في تراجم الرجال شيء آخر غير كتابة التاريخ، فإنه لم يذكر في هذا الفصل إلا قليلا جدًّا مما ينبغي أن يكتب لو أنه ألف كتابه في التاريخ العام لا في الترجمة للرجال. وهذا شيء يعلمه الدكتور طه حق العلم ولا ريب.
5 -
أنه كان من حجة الدكتور في نفي خبر عبد الله بن سبأ اليهودي اللعين أن البلاذرى لم يذكره، وهو فيما يرى (أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا): ثم عاد فنفى أيضًا خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وفد مصر، مع أن البلاذرى ذكره وأطال وأتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره. ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدم ذكره خبرًا ما حجة في نفيه، ثم ينفي أيضًا خبرًا آخر قد ذكره ولج فيه؟
وهذه الخمسة أشياء كنت أستحي أن أحدث الدكتور بها أو أناقشه فيها؛ لأنها من الوضوح والجلاء بحيث لا تخفى على رجل مثله خراج ولاج بصير بالعلم أحسن البصر. ولكن بقى شيء واحد أحب أيضًا أن يتاح لي يومًا ما أن أعرفه، وهو: هل كان في نص البلاذرى قديمًا ذكر عبد الله بن سبأ اليهودي ثم سقط أو أسقط من الكتاب؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا وقفت على نسخة قديمة وثيقة من كتاب أنساب الأشراف، فإن هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طبعت في أورشليم، وطبعها رجل من طغاة الصهيونية، وقدم لها مقدمة لم تكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل باللغة العبرية! وليأذن لنا الدكتور أن نشك أكبر الشك في ذمة هذا اليهودي الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم. فقد رأينا من قبل رجلا آخر حاطه الدكتور طه يومًا ما برعايته وعنايته واستقدمه إلى الجامعة المصرية، وكان يسمي نفسه "أبا ذؤيب" إسرائيل ولفسون، (وهو الآن في فلسطين يجاهد في سبيل الصهيونية)، فألف كتابًا في تاريخ اليهود في بلاد
العرب، وطبع في مصر، وقدم له الدكتور طه مقدمة أثنى فيها عليه ثناء بالغًا، ومع ذلك فقد وجدنا في الذي نقله من الأخبار والأحاديث تحريفًا وبترًا وانقطاعًا من نصوص محفوظة معروفة. أفلا يجوز لنا على الأقل أن نشك في أن اليهودي الآخر طابع كتاب البلاذرى، يفعل مثل هذا؟ إننا على الأقل نشك ونتوقف. هذا إلى أن طريقة التأليف القديمة وبخاصة ما كان على غرار تأليف البلاذرى، قد يترك المؤلف فيها شيئًا في مكان، ثم يذكره في مكان آخر، وكان أولى أن يذكر في المكان الأول، وهذا شيء يعرفه الدكتور كما نعرفه وأحسن مما نعرفه، أفلا يجوز أن يكون البلاذرى قد ذكره مثلا في ترجمة (عمار بن ياسر) أو (محمد ابن أبي بكر) أو (محمد بن أبي حذيفة) أو رجل ممن اشترك في هذه الفتنة؟ وهو يعلم أن الذي وجد من كتاب البلاذرى قسم ضئيل جدًّا طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883، ثم تولى اليهودي الصهيوني طبع جزء آخر هو الذي فيه ترجمة عثمان في سنة 1936، ثم طبع جزء آخر في سنة 1938 قال الناشر في مقدمته المكتوبة بالعربية إن هناك حوادث جرت في عهد يزيد بن معاوية، هي وقعة كربلاء وموت الحسين "ولم تذكر في ترجمة يزيد، بل ذكرهما في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقًا لتسلسل الأنساب" كما قال بنص كلامه. أفلا يجوز إذن أن يكون البلاذرى قد أدمج أمر عبد الله بن سبأ في مكان آخر كما فعل فيما لاحظه وذكره هذا اليهودي؟ كل هذا جائز، ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئًا لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضى عنه، ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره غير متلجلج ولا متوقف.
ثم كيف نسى الدكتور أن من لم يرو خبرًا ما ليس حجة على من روى هذا الخبر، وبخاصة إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذرى والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين وأعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له، وهو الذي روى عنه أنه قال لأصحابه:"أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله! ! ماتت الهمم! ".
ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذا حق، وأن الرجل كان فارغًا للعلم لا يلفته عنه شيء قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذرى لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شيء أن يقال (في عصرنا هذا): إن البلاذرى لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيًا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شيء بين لا يحتاج إلى جدال كثير.
وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبًا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله ابن سبأ، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذرى وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذرى معًا. وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم أنهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضًا، وزعم أنه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم أحسن من رأيهم هم في أنفسهم، فقال في ص 172 من كتابه:
"ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون أكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا، وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا".
وهذا حق، ولكن الدكتور يحتج به في معرض الطعن في الصحابة ومعرض القول في نسبة الأخطاء الماحقة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعود فيسقط هذا
الرأي، ولا يبالي به، ويخالفه أشد المخالفة في معرض رد الرواة الذين رووا لنا خبر الفتنة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن سبأ اليهودي. ولماذا يفعل ذلك لا ندري، بل الحق أننا ندري ولكننا نأبى أن نتعجل القارئ بحكم لم نأت فيه بالبينة التي تدفع كل أقوال الدكتور في قضية هذا اللعين ابن السوداء، فللقارئ علينا حق لا يحل لنا أن نخونه فيه، وحقه هو أن يرى حجج الدكتور كلها أولا، ثم حججنا متابعة ثانيًا، ثم نعطيه الحكم ليأخذه أو يدعه على هدى وبصيرة. وموعدنا المقال الآتي بإذن الله.
2 -
الفتنة الكبرى
وإذن، فقد أراد الدكتور طه أن يقول إن الفتنة الكبرى التي أفضت إلى قتل عثمان إنما كانت "فتنة عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء" في ص 109 فمن أجل تحقيق هذه الكلمة الكبيرة ركب كل مركب في تصوير الحياة الإسلامية الأولى بعد الفتوح بالصورة التي تنتهي به إلى هذا الغرض وحده دون سواه، وهو الغنى والمال والسلطان، وتزاحُم الأغنياء على الغنى والمال والسلطان، وحسد العامة العربية لأصحاب الغنى والمال والسلطان. وأنا -كما قلت آنفًا- لن أحاول أن أنقض هذه الصورة، ولن أعمل عملا في الرد عليها إلا بمقدار ما ينبغي في سياق التحقيق التاريخي لناحية من نواحي هذه الفتنة. ولكن الدكتور كشف عن هدف آخر حين جاء معرض هذه الفتنة، فنفى خبر عبد الله بن سبأ اليهودي، وخبر الكتاب الذي كتب فيه الأمر بقتل رؤوس وفد مصر. وهذا الهدف هو أن ينفي عن اليهود الشركة في دم عثمان، والتحريض على قتل الإمام، فركب مركبًا وعرًا خالف فيه أسلوب العلماء في جرح الأخبار، وكذب الرواة في شيء بغير برهان، وصدقهم في شيء آخر بغير برهان أيضًا، وهو نفسه ينعى في كتابه على "الذين يكذبون الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بين الناس من فتنة واختلاف"، فقال في ص 172:"فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا". بيد
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 763)، فبراير 1948، ص: 193 - 196
أن الدكتور طه نفسه، قائل هذا الكلام، قد فعل ذلك فكذبهم حين روى الرواة ما لا يعجبه، وحين رووا ما يؤذيه، وفعل ذلك أيضًا فصدقهم حين رووا ما يروقه، وحين رووا ما يرضيه. فإن الذين رووا أخبار الغنى والمال والسلطان، هم الذين رووا أخبار عبد الله بن سبأ اليهودي وأخبار الكتاب الآمر بقتل وفد مصر، فلم أخذ شيئًا بغير برهان، ونفى أخاه بغير برهان؟
والشيء البيِّن هو أن الدكتور الجليل أراد كما قال في ص 134 أن يكبر المسلمين في صدر الإسلام "عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديًّا، وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا". وهذا قصد حسن ونية جميلة، ولكن الحق أحسن منهما وأجمل. وليس يجمل بنا ولا بالدكتور طه أن يغالط في الحق لشيء يراه هو أو نراه نحن حسنًا جميلا. والتاريخ لا يكتب بالتحكم، وإنما يكتب بالرواية، ثم بالاستدلال، ثم ببذل الجهد في سد الفجوات، وسبيل ذلك أن تأخذ من الماضي أسبابًا وعللا وحوادث ذات خطر، فإن استقامت أن تمتد معك إلى الحاضر الذي تؤرخه، فهي حقيقة بأن تكون شيئًا من التاريخ يوشك أن يكون حقًّا كله أو بعضه.
ولست أحب أن أعلم الدكتور طه، ولكني سأضع بين يديه حقائق لا يدخلها الريب أبدًا، ثم أسأله أن ينظر فيها، وأن يحكم هو بيني وبينه. وسأختصر القول اختصارًا، فإن أكثر مادة هذا الحديث مما لا أظن بالدكتور أن يجهله أو يغفل عنه.
فلنعد إلى حديث قديم كان قبل البعثة بقليل، وكان شديد الخطر في تاريخ العرب، وكان يوشك أن ينتهي إلى حدث جليل في تاريخ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان يسكن هذه البلدة الكريمة بنو أم واحدة وأب واحد من قبائل الأزد بن الغوث: أمهما قيلة، وأبوهما حارثة بن ثعلبة، وهؤلاء هم الأوس والخزرج، وكان يعيش بينهم هذا الجيل من اليهود الذي سكن جزيرة العرب، أو سكن المدينة، فكان من خبر ذلك شيء لم يكن مثله مثلا بين بني هاشم وبني أمية،
وهو الحرب المتطاولة بين هذين الحيين اللذين ولدتهما أم واحدة وأب واحد، ويسكنان معًا بلدة واحدة. وظل هذا القتال بين الحيين متجدد النيران إلى أن كان "يوم بُعاث"، وهو كما قال ابن سعد ج 3 قسم 2 ص 135:"آخر وقعة كانت بين الأوس والخزرج في الحروب التي كانت بينهم. . . وكانت هذه الوقعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قد تنبأ ودعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة".
ونشأة هذه العداوة العجيبة بين الأخوين: الأوس والخزرج، واقتتالهما هذا القتال المر العنيف حقبًا متطاولة، ودخول اليهود في الحلف، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، لا يصيبهم من أذى القتال بين هذين الحيين الأخوين إلا القليل، وتداعيهم باسم اليهودية إذا حزب الأمر، فيكونون يدًا واحدة على هذه العرب، ليس له معني إلا أن تكون هذه اليهود هي التي أرَّثت الحرب والعداوة بينهما لتؤثِّل في هذه الأرض أموالا وآطامًا وحصونًا تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم عن الزراعة والتجارة وتثمير الأموال، وتبقى يهود هي صاحبة الزراعة والتجارة وتثمير الأموال بالربا ومآكل السحت (1). وهذا عمل يهود في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل زمان إلى يوم الناس هذا.
ثم لا يلبث أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا من الخزرج عند العقبة، وكانت يهود كما قال ابن إسحاق، قد عَزُّوهم ببلادهم، أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، فلما دعاهم رسول الله إلى الإسلام قالوا له:"إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك". فيؤلف الله قلوب الأوس والخزرج، وهم الأخوان، على الإسلام فيفشو فيهما فُشوًّا ظاهرًا. ولا يلبث رسول الله أن يهاجر إلى المدينة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه. فيمر
(1) السُّحْت: كل حرام خبيث، وما خَبُث من المكاسب وحَرُم فلَزِمَ عنه العار وقبيح الذِّكْر.
شأس بن قيس ين يهود بني قينقاع -وكان شيخًا عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فيغيظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فيقول:"قد اجتمع ملأ بني قيلة (يعني الأوس والخزرج) بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. فيأمر فتى شابًّا من يهود أن يجلس إليهم فيذكر "يوم بعاث" وما كان قبله، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فيفعل هذا اليهودي، فإذا الجماعة المؤتلفة على الإسلام تتنازع وتتفاخر، فيتواثب رجلان من الأوس والخزرج، فيقول أحدهما لصاحبه: "إن شئتم رددناها الآنَ جذَعة" (1)، ويغضب الفريقان جميعًا ويقولون: "قد فعلنا، موعدكم الظاهرة (يعنون مكانًا بعينه) ويتداعون:"السلاحَ السلاحَ". ويخرجون إلى موعدهم، فيبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فيخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى إذا جاءهم قال:"يا معشر المسلمين! الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم؟ " فيعرف الأنصار، أوسهم وخزرجهم، أنها نزعة من الشيطان (2) وكيد من "عدوهم"، فيبكون ويتعانقون، ثم ينصرفون مع رسول الله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس اليهودي. (عن ابن إسحاق وغيره).
وأنا لست أروى لك هذا إلا لتقف على كيد يهود كيف كان؟ ولتعرف كيف كان ترفقهم إلى إثارة العداوة بين هذين الحيَّين منذ قديم؟ ولتنظر لم كانوا يحبون أن تظل هذه العداوة حية متوقدة ليأكلوا من ثمراتها مالا وغلبة وسلطانًا على العرب؟ ولتقارن هذا كله بما لا يزال يجرى إلى أيامنا هذه على يد هذه الشرذمة الخبيثة من بني إسرائيل!
(1) جَذَعَة: أي كما كانت وكما بدأت، أي الحرب.
(2)
كذا في الأصول بالعين المهملة، والصواب بالمعجمة. نزغ بينهم بنَزْغ: أَغْرَى وَأَفْسَد، وفي محكم التنزيل {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} .
ثم ينزل الله جلت أسماؤه في أمر هذه الفتنة يخاطب المسلمين الذين كان رسول الله بين أظهرهم، لم يمت بعدُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وإذن، فنحن لا نستطيع أن نكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج عن أن يطيعوا فريقًا من اليهود حتى كادوا يردونهم بعد إيمانهم كافرين، ولا أن ننزههم عن ذلك وهم تُتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله! كما فعل الدكتور طه حين أراد أن ينزه أهل الصدر الأول من الإسلام في سنة 35 من الهجرة بعد أن قبض الله إليه نبيه بأكثر من عشرين سنة، وبعد أن نشأت ناشئة من الشباب لا يدَّعى أحد أنهم جميعًا كانوا أحرص على إيمانهم من أصحاب محمد وأنصاره الأولين. وهذا خبر واحد رويته، فإن شئت أن أروي الأخبار كلها لما وسعني كتاب أشرح فيه أمر هذه الفتن التي أرَّثتها اليهود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسعني أن أنص على كل آيات كتاب الله التي نزلت في أخبار هذه الفتن. وحسبى أن أذكر من نسى أن أخبار المنافقين والآيات التي نزلت فيهم، كانت كلها في المدينة لا في مكة، وأن ذلك دليل على أن النفاق كان حيث تكون يهود، وأن "الأعراب" لم يذكروا إلا في السور المدنية مقرونًا بالنفاق والمنافقين، وأن قول الله تعالى في سورة براءة {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} نزلت في بني أسد وغطفان، وهم كانوا حلفاء يهود في الجاهلية وفي زمان الإسلام، وهذا شيء أرجو أن يتذكره الدكتور حتى نعود إليه.
ولم يكن كل هذا المكر والكيد والإيقاع عملا جاء عفو الخاطر من يهود، ولا كان مأتاه من إساءة لحقتهم من حلفائهم الأوس والخزرج من المؤمنين غير المنافقين، بل هو شر انطوت عليه يهود لا يزايلهم ولو أحسن المسلمون إليهم، وهو حقد وضغينة وكفر وعدوان على أهل هذا الدين، وهم كما وصفهم الله أشد الناس عداوة للذين آمنوا بمحمد صلوات الله عليه. ودليل ذلك أن رجالا كثيرًا
من الأوس والخزرج كانوا يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فكانوا يصافونهم المودة بهذه الأسباب، ويستنصحونهم في أمورهم دون أن يشكوا فيهم أو يتوجسوا منهم خيفة. فأنزل الله في محكم كتابه ينهاهم عن فعل ذلك:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . وهؤلاء "الذين قالوا آمنا" هم الذين نزلت فيهم الآية السابقة قبل هذه في سورة آل عمران: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وهذه الآية وسبب نزولها يدل دلالة صريحة على أن أهل الإسلام الأول، كانوا لا يزالون يعدون الحلف بينهم وبين يهود حلفًا صادقًا لا غش فيه، وأن يهود كانت تظهر المودة وتخفي أشد العداوة وأشد الغيظ على هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يتخافتون بهذه العداوة، وأنهم كانوا يخدعون هؤلاء المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، حتى إذا صدَّقهم بعض المؤمنين عادوا فأظهروا الكفر ليفتنوهم ويخدعوهم عن دينهم. فإذا صح هذا، وهو صحيح، ورسول الله بين أظهرهم، فهو أحق بالصحة في سنة 35 من الهجرة، لا نكبر أهل الصدر الأول من الإسلام عن أن يقعوا في مثله وفي أشد منه.
ويستطيع الدكتور طه، ويستطيع كل من أطاق القراءة، أن يقرأ كتب السير والمغازى منذ هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، إلى يوم دعاه ربه إلى الرفيق الأعلى، فسيجد أنه لا تكاد تنتهي وقعة بدر الكبرى بالنصر الأعظم لجند الله حتى يسلم رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول وجماعته من المنافقين، وكانوا أعوان يهود، ومن يومئذ ينفجر النفاق ويستشرى خطره، حتى تنزل فيه الآيات الكثيرة، وحتى يطلع الله رسوله على خبايا نفوسهم وعلى أعيانهم. ومن يومئذ
يجاهر بعض اليهود بنقض العهد الذي كتبه رسول الله بينه وبينهم عند مقدمه المدينة، فيكون مقتل اليهودي أبي عَفَك، ثم تكون غزوة يهود بني قينقاع، ثم استعانة أبي سفيان بن حرب بيهود بني النضير ينقلون إليه أخبار نبى الله. ثم يكون ما كان في يوم أحد من خروج عبد الله بن أبي بن سلول المنافق مع رسول الله حتى إذا بلغ رسول الله أُحُدًا انخزل ابن أبي في كتيبة أشياعه وهو يقول:"أيعصيني ويطيع الولدان؟ "، ثم يهزم المسلمون، فإذا عادوا إلى المدينة شمت بهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقون، وأظهرت اليهود القول السئ، يقولون: ما محمد إلا طالب ملك! ما أصيب هكذا نبى قط! أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه. ثم لا تمضي خمسة أشهر حتى يحاول يهود بني النضير قتل رسول الله غدرًا حين جاء منازلهم، فأتمروا أن يطرحوا عليه صخرة من فوق البيت الذي هو تحته، فجاءه الوحي بما هموا به. ثم يخرج أبو رافع سلام ابن أبي الحقيق اليهودي بعد أشهر إلى "غطفان" ومن حولهم من مشركى العرب، يغريهم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم. . .
ولا تزال تمضي من حدث إلى حدث، ومن غدر إلى غدر، ومن نفاق إلى نفاق، واليهود رأس ذلك كله، والعاملون عليه، والموغلون فيه، إلى أن تنتهي إلى خبر اليهودية التي وضعت السم في الشاة ودعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، فأكل من شاتها ثم نبئ أنها مسمومة فلفظها.
فما معنى هذا كله؟ معناه أن اليهود لم يفتر لهم لسان ولا يد ولا غش ولا غدر ولا خديعة ولا ضغن منذ ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الشحناء لم تكن عن إساءة لحقتهم من الذين آمنوا بل كانت عصبية يهودية محضًا، وخليقة مركبة في طباع هذا الجنس من البشر، وأن النفاق كان طرفا من دسائسهم ومتنفسًا لأضغانهم على أهل هذا الدين، وأن الله قد وصفهم وصف الحق إذ يقول تباركت أسماؤه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا
مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.
وهذه الصفة التي وصفهم الله تعالى بها، لم تنقطع ولن تنقطع ما بقى على الأرض مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وسترى في الكلمة الآتية كيف استطاع اليهود أن يفسدوا على المسلمين أمورًا كثيرة، وأن يثيروا فتنة كادت تذهب بالإسلام كله لولا أن الله قد وعد عباده أن يظهر هذا الدين كله ولو كره الكافرون.
3 -
الفتنة الكبرى
كان من البيّن -كما رأيت قبلُ- أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقابًا من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم "بُعاث" الذي كان قبل هجرة نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمرًا جللًا شديدًا على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله:"إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا"، ويهود يومئذ "قد عَزُّوهم ببلادهم" أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يدًا واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شرٌّ كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم:"إن نبيًّا مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم" وشغلت الحرب والعداوة هذنى الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبنى في المدينة وما جاورها آطامًا وحصونًا كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة (1) وعُدة الحرب، وهي شيء كثير جدًّا كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضًا في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد 765)، مارس 1948، ص: 354 - 257
(1)
الحَلْقَة من الناس: الجماعة، يعني تعد الرجال للحرب، أو أراد بالحلقة مطلق السلاح.
يقيمون الحصون والآطام ويجمعون فيها السلاح فيكثرون الجمع، وينشئون لأنفسهم مدنًا أو شبه مدن في هذه النواحي كلها، هي لهم خالصة لا يساكنهم فيها أحد.
نعم، ينشئون المدن والحصون والآطام ويجمعون السلاح، ويحالفون من جاورهم من الأعراب والبدو، ويوقعون بين حلفائهم العداوة والشر، في المدينة وفي غير المدينة من جزيرة العرب. فماذا كانت تريد يهود بإعداد كل هذه العدة من البناء والسلاح وإيقاد البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلا أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي، ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديمًا وفعلهم حديثًا في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثًا في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديمًا وحديثًا حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشيء دولة في المدينة شمالا وفي اليمن جنوبًا كما تريد اليوم أن تنشيء دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضًا.
هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم، ويمتلئ تاريخ الإسلام عنذ ذلك اليوم أيضًا بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا
صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعًا، مقرون ذكرهما معًا. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج 1 ص 84 بإسناده عن ابن عباس:"إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم". ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة "براءة" أو سورة "التوبة"، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد، والتي يقول الله فيها:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} ، والتي سماها بعضهم "الفاضحة" و"المُخْزِية" و"المُنَكِّلَة" و"المُشَرِّدّة" و"المُدَمْدِمة" دلالة على ما جلبت على اليهود والمنافقين من الفضيحة والخزى والتنكيل والتشريد والدمدمة. ثم تكون هي السورة التي يذكر فيها "الأعراب" الذين حول المدينة من حلفاء يهود، ست مرات.
تنزل أول سورة من القرآن (1)، فإذا هي في اليهود والمنافقين، وتنزل آخر سورة من القرآن فإذا هي في اليهود والمنافقين ومَن حول المدينة مِن الأعراب حلفاء يهود، وينزل ما بينهما من القرآن في عشر سنوات متواليات يصف ما كان من أمر هؤلاء، وينذرهم، ويكشف عن دسائسهم وكيدهم، فإذا بك ترى تاريخ الإسلام في هذه الحقبة -منذ هاجر رسول الله إلى أن توفاه الله- حافلا بالغدر والكيد والتأليب ونكث العهود ونقض المواثيق. ويكون أول ذلك أن تسلم طائفة من أحبار يهود سماهم أصحاب السير والتاريخ، يسلمون نفاقًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما فعل كعب الأحبار وعبد الله بن سبأ وغيرهما في عهد عمر وعثمان)، فكانوا يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم
(1) يعني أستاذنا أول سورة نزلت بالمدينة.
ويستهزئون بدينهم، ويحدثنا ابن هشام عنهم فيقول:"فاجتمع يومًا في المسجد ناس منهم، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفًا"، فهل تجد أوضح ولا أبين من هذا في صفة المتآمرين حين يجلسون يتخافتون بينهم أمرًا يكيدون به ويبيّتونه؟ ويظل هذا حال المنافقين وحال اليهود معًا إلى أن يدعو الله إليه رسوله. يأوى المنافقون إلى أشياخ من اليهود يتآمرون يومًا بعد يوم عشر سنوات متواليات، ويكون على رأس هؤلاء المتآمرين رجال كأمثال رفاعة بن زيد ابن التابوت اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فيسميه المسلمون "كهف المنافقين"، لأنهم كانوا يخلون إليه، ويتآمرون فيه بليل، ويستودعون ظلام هذا الكهف السميع البصير سرَّ تآمرهم وخفي كيدهم. ورسول الله في خلال ذلك كله يجاهدهم ويرجو هدايتهم، ويظل يفعل ذلك ثمانى سنوات غير قانط ولا يائس، يصلى على من مات من المنافقين ويستغفر لهم، فإذا طال ذلك أنزل عليه ربه في سورة "براءة" آخر سورة نزلت، أشد آية في القرآن خاطب الله بها عبده ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ثم ينهاه أشد النهي فيقول: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . كلمات قاطعة وأوامر حاسمة كحد السيف! !
عشر سنوات والقرآن ينزل على رسول الله في المنافقين واليهود مقرون ذكرهما معًا! ! عشر سنوات تقرأ تاريخها في كتب السيرة فلا تمضي صفحة واحدة إلا وفيها ذكر لليهود والمنافقين معًا، عشر سنوات واليهود والمنافقون معًا يؤلبون على رسول الله القبائل ويفتنون المسلمين، ويدبرون الكيد للمؤمنين والمؤمنات ولرسول الله، حتى كان ما كان من اليهودية التي دست له ولأصحابه السم في الشاة فينبأ صلى الله عليه وسلم بما فعلت، فيلفظ بضعة اللحم من فمه صلى الله عليه وسلم.
ثم ماذا؟ ثم يحدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فيقول: "كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم أن قال:
"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب". آخر كلمة ينطق بها صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجرى على لسانه وهو يلبى دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروى الرواة هذه الكلمة، ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سر هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعًا كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص 99:"وإنما نُرَاه قال ذلك صلى الله عليه وسلم لنكث كان منهم، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح". رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلا في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيرًا إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعًا كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام:"إنما نراه"(بضم النون) أي إنما نظنَّه ظنا. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثًا بظن من الظنون لم تأت به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟
كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلَّا، فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا. لقد كشف الغطاء ويتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عيانًا من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أَطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها صلى الله عليه وسلم لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه رضي الله عنهم.
ولقد نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء،
يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: "اللهم أعني على سكرات الموت. اللهم أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل" وعنده صلى الله عليه وسلم خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ويقول أيضًا: "لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين"، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت:"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب": أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقى ولا تذر! احذروا يهود الحجاز، واحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيّه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولا لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجمًا بالغيب.
ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولا يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالا إلى يوم الناس هذا:"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم معزى مطرة، في حُش، في ليلة مطيرة، بأرض مَسْبَعَة (1). فوالله، ما اختلفوا في واحدة إلا طار أبي بحظّها وغنائها عن الإسلام". ويحدثنا أيضًا عروة بن الزبير بن العوام: "وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم".
وخليق بي وبك، أن نقف قليلا عند هذا. نقف حيث وقف بنا أمر رسول الله أن:"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"،
(1) الحُش (وبفتح الحاء أيضا): البستان، أو مجتمع النخيل. المَسْبَعَة: الأرض الكثيرة السباع.
نقف حيث وقفت بنا آخر كلمات تكلم بها صلى الله عليه وسلم، وحيث وقف بنا قوله وهو في كرب الموت "لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين"، وحيث وقف بنا قول أم المؤمنين عائشة:"اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب"، وحيث وقف بنا حديث عروة:"ارتدت العرب. . . ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى". ثم نأخذ جميعًا نقرأ تاريخ حروب الردة في كتب القدماء من المؤرخين، وماذا قالوا في أسبابها، ونقرأ تاريخها أيضًا في كتب المحدثين من المؤلفين والمؤرخين، ونقرأ أيضًا كتب المستشرقين الذين يجلّهم الدكتور طه ويرفع بذكرهم رفعًا شديدًا فماذا نجد؟ نجد غموضًا شديدًا كأننا نسير في ليلة مظلمة في بطن واد عميق، عن يمينه جبل شامخ وعن يساره جبل شامخ قد أطبقا عليه جميعًا. وإذا الردة في كتب القدماء أخبار مجموعة كما اتفق لهم أن يجمعوها، لم ينظر أحد في أسبابها، ولا في الحوافز التي أغرت العرب بها، ولا في أمر المرتدين وصفتهم وعلاقة بعضهم ببعض، ولا في وجه الشبه الذي يجمع بينهم قبل أن يرتدوا. وإذا الردة في كتب المحدثين أخبار أيضًا حاول أصحابها أن يرتبوها ما استطاعوا، فلما نظروا في أسبابها، وفي حوافزها، وفي صفة أهلها وفي علاقة بعضهم ببعض، وفي وجه الشبه الجامع بينهم قبل أن يرتدوا -إذا بهم يخلطون خلطًا شديدًا كأنهم يبحثون عن درة في بحر من الوحل. وإذا المستشرقون يملأون كتبهم كعادتهم بالجهل الذي يضرب بعضه في وجوه بعض.
نعم، نقرأ تاريخ الردة في كل هذه الكتب جميعًا، فإذا هي خالية جميعًا من ذكر اليهود ومن ذكر المنافقين إلا كلمة شاردة ككلمة عائشة وكلمة عروة بن الزبير بن العوام تعرض في كتب القدماء، وإذا المحدثون من المستشرقين الخائضين فيما ليسوا له بأهل، لا يكادون يذكرون اليهود والمنافقين في حرب الردة، وإذا هذا عجب من أعجب أمرهم، فهم أشد ولعًا بالبحث عن الأسباب واستقصائها ونبشها من أن تخفي عليهم هذه الحقيقة البينة التي بين أيديهم، حقيقة اليهود والمنافقين وما كاد لهم من خطر في تاريخ الإسلام منذ هاجر رسول الله إلى أن قبضه الله إليه! ! وإذا بك ترى المؤلفين من رجالنا قد ضلوا إلى حيث
أضلهم أساتذتهمِ من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضِي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي عن ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وائتمارهم جميعًا بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وهو في كرب الموت:"لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين"، وأمره لصحابته:"أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشتعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالا وجنوبًا وشرقًا وغربًا -أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئًا في كتب القدماء أو المحدثين -أو المستشرقين إن شئت- ذكرًا لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعُها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يومًا بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة 11 من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حَدَث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام- برئوا من الردة (في سنة 11 من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة 23)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان رضي الله عنه (في سنة 35).
ولكن كيف غاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله: "أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب"؟ وكيف غفل قدماء علمائنا عن معنى هذا الحديث وفيم قيل؟ وكيف ذهل المؤرخون القدماء عن أن يربطوا بين تاريخ الردة وبين تاريخ اليهود والمنافقين؟ وأخيرًا كيف كانت الردة في الإسلام؟ وما آثارها التي تخلفت عنها؟
هذا حديث أحدثك به إن أنسَأ الله في أجلي حتى ألقاك في مكاني من هذه الصفحات.