الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في الذبح لغير الله
(1)
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ــ} 1 الآية (2) .
ــ
(1)
أي من الوعيد على ذلك، وبيان أنه شرك أكبر ناقل عن الملة؛ لأنه عبادة من أجل العبادات، وقربة من أفضل القربات المالية، فصرفه لغير الله شرك، كمن يذبح لقبر أو شجرة أو حجر أو ملك أو نبي أو جني أو لطلعة سلطان أو للزيران أو غير ذلك.
(2)
أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين، الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغيره:{إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 2 أي ذبحي، والناسك المخلص لله {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي ما أحيا عليه وما أموت عليه، من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصا لوجهه:{لا شَرِيكَ لَهُ} في شيء من ذلك، ولا في غيره من أنواع العبادة، فالصلاة أجل العبادات البدنية، والنسك أجل العبادات المالية، فمن صلى لغير الله فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، ومطابقة الآية للترجمة أن الله تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم أن يتقربوا إليه بالصلاة، وإذا تقربوا إلى غيره بالذبح فقد جعلوا له شريكا في عبادته، وهو ظاهر في قوله:{لا شَرِيكَ لَهُ} نفى أن يكون لله شريك في هذه العبادات. وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 3 أي من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على قومه، فدلت هذه الآية أن أقوال العبد وأفعاله الظاهرة والباطنة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك، والقرآن كله يدل على ذلك.
1 سورة الأنعام آية: 162-163.
2 سورة الأنعام آية: 162.
3 سورة الأنعام آية: 163.
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 (1) . عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (2) " لعن الله من ذبح لغير الله (3) ،
ــ
(1)
يعني لا لغيره، قال شيخ الإسلام: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى ما أعده، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم إلى ربهم، ولا ينحرون له خوفا من الفقر. ولهذا جمع بينهما في قوله:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 2 والنسك الذبيحة لله ابتغاء وجهه، فالصلاة أجل ما يتقرب به إلى الله، وما يجتمع للعبد في الصلاة من الخشوع والذل والإقبال لا يجتمع له في غيرها، كما يعرفه أهل القلوب الحية، وما يجتمع له عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين، وحسن الظن أمر عجيب، فإنه إذا سمحت نفسه بالمال لله مع وقعه في النفس، ثم أذاق الحيوان الموت مع محبته له، صار بذلك أفضل من بذل سائر الأموال، فدل على أنه عبادة من أفضل العبادات، وكان صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر، وقد تضمنت الصلاة كثيرا من أنواع العبادة، وكذا النسك تضمن أمورا من العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك.
(2)
تطلق الكلمة على الجملة المفيدة كقوله: (كلا إنها كلمة) إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} 3، وعلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، وكهذه الأربع، وعلى الخطبة، وعلى القصيدة.
(3)
اللعن الطرد والإبعاد عن مظان الرحمة ومواطنها، واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة أو دعي عليه بها، واللعن من الخلق السب والدعاء. قال شيخ الإسلام: إن الله يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي على من استحق الصلاة =
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 سورة الأنعام آية: 162.
3 سورة المؤمنون آية: 99.
لعن الله من لعن والديه (1) ، لعن الله من آوى محدثا (2) ،
ــ
= من عباده. وقال في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1 ظاهره أن ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم وقال فيه باسم المسيح أو نحوه، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح ونحوه فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه حرم، وإن قال فيه: بسم الله كما يفعله طوائف من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور، وما يفعل بمكة من الذبح للجن، وذكر المروزي أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله، ووجه مطابقة الحديث للترجمة لعن من ذبح لغير الله، وبدأ بلعنه قبل غيره لغلظ تحريمه.
(1)
فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أنه قال: " من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه " 2 فيكون هو السبب في لعن والديه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده، ويوجد من يباشرهما بالسب، وظاهر الخبر أن يتولى الابن لعنهما بنفسه، فلعن من نطق بسبهما، ولما أخبر أنه إذا سب أبا الرجل سب أباه كان كمن تولى ذلك بنفسه، وفيه دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وهذا الحديث أصل في قطع الذرائع.
(2)
بفتح الهمزة ممدودة وهو الفار المستحق للحد الشرعي، فيحول بينه وبين أن يقام عليه، وفي الحديث:" من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره "3. وفي الحديث: " إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع " 4.=
1 سورة البقرة آية: 173.
2 البخاري: الأدب (5973)، ومسلم: الإيمان (90)، والترمذي: البر والصلة (1902) ، وأحمد (2/164 ،2/195 ،2/216) .
3 أبو داود: الأقضية (3597) ، وأحمد (2/70) .
4 مالك: الحدود (1580) .
لعن الله من غير منار الأرض " 1. (1) رواه مسلم (2) .
ــ
= قال ابن الأثير: ((ويروى بكسر الدال وفتحها، فمعنى الكسر: من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. وبالفتح هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والإقرار عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه)) . قال ابن القيم: ((هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم)) .
(1)
علامات حدودها أي قدم أو أخر ليغتصب من أرض جاره، سميت منارا لإنارتها بين الحقين أي حجزها وتمييزها بينهما، فيكون من ظلم الأرض الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام:" من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة "2. متفق عليه. أو لإنارتها على الطرق، وهي الأعلام التي توضع على السبل، فإذا غيرها ضل السالك. وقال المصنف:((هي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير; وفيه الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعصية على سبيل العموم)) اهـ. فالحديث دليل على جواز لعن أنواع الفساق، كقوله:" لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده "3. وأما لعن الفاسق المعين فقيل: يجوز، اختاره ابن الجوزي. وقيل: لا يجوز اختاره أبو بكر عبد العزيز والشيخ، والشيخ عبد المغيث وصنف في ذلك مصنفا ذكره عنه الشيخ، وأنه المعروف عن أحمد.
(2)
من طرق وفيه قصة، ورواه أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسرّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أسرّ إلى شيئا كتمه الناس، ولكن سمعته يقول. فذكره، وفي آخره:" ولعن الله من غير تخوم الأرض " 4 يعني المنار.
1 أحمد (1/317) .
2 البخاري: المظالم والغصب (2453)، ومسلم: المساقاة (1612) ، وأحمد (6/259) .
3 البخاري: الحدود (6783)، ومسلم: الحدود (1687)، والنسائي: قطع السارق (4873)، وابن ماجه: الحدود (2583) ، وأحمد (2/253) .
4 مسلم: الأضاحي (1978)، والنسائي: الضحايا (4422) ، وأحمد (1/108) .
وعن طارق بن شهاب (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب (2) . قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ (3) قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا (4) ،
ــ
(1)
هو ابن عبد شمس بن هلال بن عوف البجلي الأحمسي أبو عبد الله، قال الحافظ: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل. وروى أبو داود والبغوي أنه قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر)) . وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، توفي سنة 83هـ.
(2)
أي بسبب ذباب ومن أجله، ولعل هذين الرجلين من بني إسرائيل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحدث عنهم.
(3)
كأنهم تقالوا هذا العمل، واستغربوه وتعجبوا منه، كيف بلغ الذباب إلى هذه الغاية التي بسببه دخل رجل الجنة ورجل دخل النار، أو احتقروه كيف كان تقريب الذباب سببا لدخول الجنة أو النار، فاستفهموه ليبين لهم ما استغربوه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما، يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
(4)
وإن قلّ تعظيما لصنمهم، والصنم ما كان منحوتا على صورة وعبد من دون الله، ويطلق عليه الوثن كما مر، وكل ما عبد من دون الله يقال له صنم، بل كل ما يشغل عن الله يسمى صنما، ولا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه حتى يقرب له شيئا.
قالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب (1)، قالوا: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا (2) فخلوا سبيله فدخل النار (3) . وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل (4) ،
ــ
(1)
يعني للصنم، احتج بالعدم فلما عرفوا موافقته بالذبح لغير الله، واعتذر طمعوا فيه، وقنعوا منه بأيسر شيء؛ لأن قصدهم موافقتهم على ما هم عليه من الشرك.
(2)
حصل به موافقتهم، وظاهره أنه لو وجد بدنة لقربها.
(3)
بسبب قربانه الذباب للصنم؛ لأنه قصد غير الله بقلبه، وانقاد بعمله فوجبت له النار. ففيه بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار لقوله:{مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 1. فإذا كان هذا فيمن- قرب ذبابا، فكيف بمن يستسمن الإبل وغيرها، ليتقرب بنحرها لمن كان يعبده من دون الله، من قبر أو مشهد أو طاغوت وغير ذلك؟ وفيه التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري، والحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس: " إنكم تعملون أعمالا هي أصدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ". وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم، وفيه أنه كان مسلما، وإلا لم يقل دخل النار في ذباب، وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
(4)
أبى عليهم، وبادأهم بالإنكار، وعظم عليه أن يقرب لصنمهم شيئا، ونفر من الشرك وصرح بإخلاص العبادة لله عز وجل.
1 سورة المائدة آية: 72.
فضربوا عنقه فدخل الجنة " (1) . رواه أحمد (2) .
ــ
(1)
لامتناعه عن التقريب لغير الله، إيمانا واحتسابا وإجلالا وتعظيما لله، ففيه بيان فضيلة التوحيد والإخلاص وتفاوت الناس في الإيمان. قال المصنف:((وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر، ودل الحديث على أن الذبح عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك، وأن الذابح لغير الله يكون من أهل النار)) .
(2)
وكذا أورده ابن القيم وغيره. ورواه أحمد في كتاب الزهد، وأبو نعيم في الحلية، موقوفا على سليمان بن ميسرة. قال الحافظ: سليمان بن ميسرة الأحمسي عن طارق بن شهاب، وعنه الأعمش وغيره، روى عن طارق وله صحبة، ووثقه النسائي وغيره.