المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين - حاشية كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌كتاب التوحيد

- ‌باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب ما جاء في السحر

- ‌باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب ما جاء فى النشرة

- ‌باب ما جاء في التطير

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}

- ‌باب قول الله تعالي: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

- ‌باب ما جاء في الرياء

- ‌باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا

- ‌باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

- ‌باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات

- ‌باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}

- ‌باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب قول: ما شاء الله وشئت

- ‌باب من سب الدهر فقد آذى الله

- ‌باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}

- ‌باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌باب لا يقال السلام على الله

- ‌باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب لا يقول عبدي وأمتي

- ‌باب لا يرد من سأل بالله

- ‌باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب قول الله تعالى: {يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}

- ‌باب ما جاء في منكري القدر

- ‌باب ما جاء في المصورين

- ‌باب ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب لا يشفع بالله على خلقه

- ‌باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك

- ‌باب قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

الفصل: ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

(1)

وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1 (2) .

ــ

(1)

أي باب ما جاء من الدليل والبرهان على أن سبب كفر بني آدم أو سبب أول كفر بني آدم، وتركهم دينهم الذي خلقوا له، ولا صلاح ولا فلاح لهم إلا به هو الغلو في الصالحين من الأنبياء والأولياء وغيرهم بالقول والاعتقاد فيهم، وضابط الغلو: تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي خطى الله عنه، ولما ذكر بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، أراد أن يبين السبب في ذلك، ليحذروا الغلو مطلقا لا سيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديما وحديثا، لقرب الشرك بالصالحين من النفوس، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.

(2)

في موضعين من كتابه، أي لا تتعدوا ما حد الله لكم، ولا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، والغلو كثير في النصارى؛ فإنهم غلوا في عيسى فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، واليهود تنقصوه فحطوه من منزلته، حتى جعلوه ولد بغي، فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا، والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فهو تحذير لهذه الأمة أن يفعلوا مع نبيهم ما فعلت النصارى مع المسيح، واليهود مع العزير. قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} 2. ومن تشبه بهم من هذه الأمة وغلا في الدين بإفراط أو تفريط فهو منهم، فعل من دعا نبيا أو وليا من دون الله =

1 سورة النساء آية: 171.

2 سورة الحديد آية: 16.

ص: 146

في الصحيح " عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (1) . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح (2)

ــ

= فقد اتخذه إلها، وضاهى النصارى في شركهم، واليهود في تفريطهم.

وقد نرى الله عن الغلو في كتابه في مواضع، كقوله:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} 1 الآية وغيرها، والغلو شامل لجميع أمور الدين، فشمل الغلو في محبة الصالحين.

(1)

كان هؤلاء أهل دين وفضل وخير، وماتوا في زمن متقارب فأسفوا عليهم، وصاروا يترددون على قبورهم، فأتاهم الشيطان وسول لهم أن يصوروا صورهم؛ ليكون أسهل عليهم من المجيء إلى قبورهم، ولم يكونوا قصدوا عبادتهم، وإنما قصدوا التذكر بهم؛ ليكون أدعى لهم على فعل الخير والتأسي بهم.

(2)

هذا الأثر اختصره المصنف، ولفظ البخاري عنه:" صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، فأما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت، لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين في قوم نوح ". وروى ابن جرير عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروا صورهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم.

1 سورة هود آية: 112.

ص: 147

فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم (1) ، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت " (2) .

ــ

(1)

أي فإذا هلك أولئك الصالحون، وحزن عليهم قومهم حزنا شديدا، وسوس لهم الشيطان، وألقى إليهم أن انصبوا إلى مجالسهم حالة التعليم والتذكير أنصابا على صورهم المعلومة عندكم، جمع نصب، والأمر منه بالكسر، والمراد بالأنصاب هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم؛ ليتذكروا أفعالهم بها، وسموها بأسمائهم حتى لا تنسوهم، وكلما ترونها تذكركم إياهم، وقد أخرج الشيطان لهم هذه الحيلة في قالب المحبة؛ لعدم قدرته عليهم إلا بهذه الدرجة، ومقصوده من بعدهم الذين لم يعرفوا ما نصبت له، ليوسوس لهم أنهم كانوا معبودين في أولاكم.

(2)

أي فعل أولئك ما أوحاه الشيطان إليهم من تصوير صالحيهم، ولم تعبد تلك الصور، لقرب عهدهم بمعرفة الهالكين وما صوروا لأجله، حتى إذا هلك الذين صوروا الأصنام، ونسي العلم الذي فيه بيان الشرك والتوحيد، أو نسي العلم الذي نصبوا لأجله الأنصاب، وهو تذكر العلم الذي كانوا يأخذونه عنهم، والعبادة التي كانوا يفعلونها؛ ليتأسوا بهم فيها، عبدت تلك الصور، وفي رواية: أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء الصالحين، وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين. وفي رواية:"ونسخ" أي درست آثاره بذهاب العلماء، حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنا منهم أنه ينفعهم.

وعبدت تلك الأصنام لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير سلما لعبادتها، ففيه مضرة =

ص: 148

قال ابن القيم: ((قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم)) (1) .

ــ

= فقد العلم، ومضرة الغلو فإن كل ما عبد من دون الله من- قبر أو صنم- فالأصل في عبادته الغلو واندراس العلم، والجهل بحقيقة دين المرسلين، فالله المستعان.

قال الكلبي: ((كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن، فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة، ثم ائت سيف جدة تجد بها أصناما معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب، فأتى جدة فوجد بها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وفي الأصنام التي كانت عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك، فاستثارها عمرو، وحضر الموسم، ودعا إلى عبادتها فأجيب)) اهـ.

وعمرو بن ربيعة وعمرو بن لحي، أول من غير دين إبراهيم، والمعبود في الحقيقة هو الشيطان الذي زين لهم عبادتها، وأمرهم بها كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 1.

(1)

ابن القيم هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، الثقة الحجة الورع الزاهد، المتفنن في سائر العلوم، صاحب التصانيف الرائقة السائرة المقبولة، أخذ عن شيخ الإسلام والمزي وغيرهما، وعد في أكابر السلف، مات -قدس الله روحه- سنة 751 هـ، وما ذكره رحمه الله هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير وغيرهما، إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصوير تماثيلهم، وذلك أعظم الوسائل الموصلة إلى الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة، فإذا كان على القبور صار عكوفهم- تعظيما =

1 سورة يس آية: 60-62.

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

= ومحبة- عبادة لها، وقد تقدم أن العكوف هو البقاء والإقامة على الشيء في المكان عبادة وتعظيما وتبركا، كما كان المشركون يفعلون ذلك عند أصنامهم، لما يعتقدون فيها من البركة. والأمد: الزمان، أي طال عليهم الزمان، ونسوا ما قصده الأولون، فتبين أن مبدأ الشرك هو الغلو فيهم، وأن سبب تلك العبادة ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، وهذا أول شرك حدث في الأرض.

قال القرطبي: ((وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها)) اهـ.

أي فعبدوهم وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، إلى أن دعوا الناس إلى عبادتها، واتخاذها أعيادا ومناسك، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم نقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وعادوا أهل التوحيد، ووالوا أهل الشرك والتنديد، وزعموا أنهم أولياء الله:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1.

قال المصنف: وفيه أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب، وفيه معرفة أن أول شرك حدث على وجه الأرض بشبهة محبة الصالحين، ومعرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وقبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها، وأن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل بأمرين: الأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره. ومنها معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، ومنها مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، ومعرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها ومعرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.

قال حفيده: ((ومنها مضرة التقليد، وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام)) .

1 سورة الأنفال آية: 34.

ص: 150

وعن عمر رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "1. أخرجاه (2) .

ــ

(1)

هو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي العدوي، أمير المؤمنين، وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما، ولي الخلافة بعده عشر سنين ونصفا، فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، استشهد في ذي الحجة سنة 23 هـ، قتله أبو لؤلؤة الخارجي.

(2)

الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام حتى ادعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، وقولوا: عبد الله ورسوله، لا تجاوزوا هذا القول، فأبى المشركون إلا مجاوزة أمره، وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، وناقضوا أمره أعظم مناقضة، وأظهر لهم الشيطان هذا الشرك في قالب التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته، والتوحيد والإخلاص في قالب التنقص، حتى جوزوا الاستغاثة به في كل ما يستغاث فيه بالله، ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، وارتكبوا ما نهوا عنه، وشاقوا الله ورسوله. وفيه أن الألفاظ التي يذكرها بعض الناس في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما لا يحبه صلى الله عليه وسلم، ولا يحب إلا ما جاء الأمر به حتى في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وفيما يثني عليه ويمدح به، ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته، ومحبته إنما يصدقها تجريد التوحيد الذي بعث من أجله، وتجريد المتابعة، وتقديم محبته على النفس والمال والولد والناس أجمعين، والثناء عليه بما أثنى به عليه ربه، أو أثنى به هو على نفسه، من غير غلو ولا تقصير.

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47) .

ص: 151

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (1) " 1 ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون (2) قالها ثلاثا (3) "2.

ــ

(1)

أي التشدد في الدين ومجاوزة الحد، بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك، فهو الداء العضال الذي هلكت به الأمم الماضية، وهذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله غير معزو، وقد رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: هلم القط لي حصيات من حصى الخذف، فلما وضعتها في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين "3. لفظ ابن ماجه، وإسناده صحيح، وشواهده في الكتاب والسنة. وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار. وقال شيخ الإسلام: ((هذا الحديث عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال)) .

(2)

أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون بأقاصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا، أو الغالون في عباداتهم، بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة.

(3)

أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في الإبلاغ والتعليم، وقد بلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وسلم ومطابقة هذا الحديث للترجمة أن التنطع من الغلو والزيادة؛ لما فيه من الخروج إلى ما يوصل إلى الشرك بالله عز وجل. وهذا الحديث رواه أحمد أيضا وأبي داود وغيرهما.

1 النسائي: مناسك الحج (3057) .

2 مسلم: العلم (2670)، وأبو داود: السنة (4608) ، وأحمد (1/386) .

3 النسائي: مناسك الحج (3057) .

ص: 152