الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشفاعة
(1)
وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى
ــ
(1)
أي بيان الشفاعة وإيضاحها، وبيان حكمها وحقيقتها، وبيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه، ولما كان المشركون في قديم الدهر وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما أخبر الله عنهم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم لما ألقى الشيطان في تلاوته " وإن شفاعتهن لترتجى " رضي المشركون عنه، وسجدوا معه، ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم قاله، وأنه وافقهم على دينهم، من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة. أراد المصنف رحمه الله في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله أنه يشفع كما يشفع الوزير عند الملك، منفية دنيا وأخرى، وإنما الله الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع الشافع ابتداء كما يظنه أعداء الله. والشفاعة: مصدر من الشفع ضد الوتر، وشفع فيه أعانه. وفي النهاية:((هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم)) اهـ.
وهي نوعان: شفاعة منفية، وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
ومثبتة، وهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد، ومقيدة بأمرين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.
والناس في الشفاعة ثلاث طوائف: طرفان ووسط، فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكر الله في كتابه، ولا تطلب إلا من الله، كأن تسأله تعالى أن يشفع فيك نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن الشفاعة محض فضل وإحسان.
رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1 (2)، وقول الله تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 2 (3) .
ــ
(1)
الإنذار الإعلام بأسباب المخافة، والتحذير منها، (أنذر) أي خوف يا محمد بالقرآن (الذين يخافون) يخشون (أن يحشروا) أي يجمعوا ويبعثوا إلى ربهم يوم القيامة، وهم المؤمنون المخلصون، أصحاب القلوب الحية الواعية الذين لم يتخذوا لهم من دون الله وليا ولا شفيعا، بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحد سواه فيما يرون نفعه ويخافون ضره.
(2)
أي لا قريب لهم، ولا شفيع يشفع فيهم من عذابه إذا أراده بهم. قال الزجاج: كل موضع (ليس) نصب على الحال، كأنه قال: متخلين من ولي وشفيع، والعامل فيه (يخافون) . وقال ابن كثير: ليس لهم يومئذ: {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 3 فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، ويتركون التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه.
(3)
اللام للملك، أي هي ملك لله تعالى، فليس لمن تطلب منه شيء منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون ما سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأله لا يصلح إلا له تعالى، وقال قبلها:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 4 فأخبر –سبحانه- أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف عقلا وشرعا، فقوله:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 5 تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فيجب اندراج ملك الشفاعة في ذلك، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها.
قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا لتقربنا إلى الله زلفى، قال الله:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 6. فتعلمون أن من طلبها من غير الله أنه خاسر السعي، وأنها غير حاصلة له؛ لأنه طلبها =
1 سورة الأنعام آية: 51.
2 سورة الزمر آية: 44.
3 سورة الأنعام آية: 51.
4 سورة الزمر آية: 43.
5 سورة الزمر آية: 43.
6 سورة الزمر آية: 44.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 1 (1) . وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2 (2) .
ــ
= من غير مالكها، بل طلبها من غير الله إفك وافتراء، كما قال تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3.
(1)
قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله، وفي هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله، من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها، وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه، فأنكر عليهم، وبين عظيم ملكوته وكبريائه، وأن أحدا لا يتمكن أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له، وأن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كقوله:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّّّّّّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4. فبين –تعالى- أنها لا تقع إلا بشرطين: إذن الرب للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون فيه. وهو سبحانه لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقيه العبد به مخلصا غير مشرك.
(2)
(كم) تكثيرية (لا تغني) أي لا تجدي ولا تنفع (شفاعتهم شيئا إلا من بعد) إذن الرب تبارك وتعالى لمن شاء أن يشفع له، ورضي قوله وعمله، فصار ممن استحق الشفاعة، وذلك لمن سلم من الشرك قليله وكثيره، وهذه الآية كقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 5. وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 6. وإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجى شفاعة هذه الأنداد عند الله؟ سبحان الله ما أعظم شأنه!.
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة النجم آية: 26.
3 سورة الأحقاف آية: 28.
4 سورة طه آية: 109.
5 سورة البقرة آية: 255.
6 سورة سبأ آية: 23.
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 1 الآيتين (1) . قال أبو العباس: (2)
ــ
(1)
أي: {قُلِ} 2 يا محمد لهؤلاء المشركين: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} 3 أنهم آلهة من دون الله، ليكشفوا الضر الذي نزل بكم، ثم وصفهم بقوله:{لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4 من خير وشر، ونفع وضر.:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} 5 لا يملكون شيئا استقلالا، ولا على سبيل الشركة.:{وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 6 عوين يعينه بشيء.: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 7 في الشفاعة، قاله تعالى تكذيبا لهم حيث قالوا:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 8.
قال ابن القيم وغيره في هذه الآية: أنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها، فقد قطع الله بها جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون، على أي وجه كان، فإن المشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من أربع: إمّا أن يكون مالكا لما يريده، أو شريكا للمالك، أو معينا وظهيرا، أو شفيعا، فنفى –سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، ولم يجعل –سبحانه- الاستغاثة بالميت أو غيره سببا لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، لا ما يمنع الإذن، فالمشرك قد أتى بأعظم حائل بينه وبين حصول الشفاعة، فهو كمن استعان في حاجة بما يمنع حصولها.
(2)
هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، العالم الرباني، مفتي الأمة، بحر العلوم، ناصر السنة، قامع البدعة، صاحب المصنفات المشهورة المقبولة، المؤيدة بالكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة، الجديرة بأن تحفظ في أعماق القلوب، من تدبرها علم أنه قد جمع من العلوم النقلية والعقلية، ومن الإحاطة =
1 سورة سبأ آية: 22.
2 سورة سبأ آية: 22.
3 سورة سبأ آية: 22.
4 سورة سبأ آية: 22.
5 سورة سبأ آية: 22.
سورة سبأ آية: 22.
7 سورة سبأ آية: 23.
8 سورة يونس آية: 18.
نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون (1) ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله (2) ، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب (3)
ــ
= بمذاهب أهل الملل والنحل، وآراء المذاهب، وما قالت الفرق، ما لم يعلم مثله عن أحد من العلماء، وبين هذا الدين وعقائده، ورد سائر البدع بما لم يسبق إليه، ترجم له طوائف من الحفاظ، وأثنوا عليه في أسفار، وشهرته وإمامته في علوم الإسلام، وتفننه تغني عن الإطالة في وصفه، قال ابن دقيق العيد:((كأن العلوم بين عينيه، يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء)) . ولد سنة 661 هـ، وتوفي -قدس الله روحه، ونور ضريحه- سنة 728 هـ.
(1)
أي نفى في هذه الآية الكريمة عما سواه -تعالى وتقدس- كل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله، من الملك والشركة والمعاونة والشفاعة، فإن هذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون.
(2)
فنفى الملك بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. ونفى القسط بقوله: (ومالهم) أي لمن يدعون من الملائكة وغيرهم (فيهما) أي في السماوات والأرض (من شرك) . ونفى العون بقوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 2. أي ما لله ممن يدعونهم عوين، فمن ليس بمالك، ولا شريك للمالك، ولا ظهير له، فكيف يدعى من دونه؟ فهو –سبحانه- الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع، فبنفي هذه الأمور عن كل مدعو غير الله- وهي التي لا بد أن يكون المدعو مالكا لأحدها حتى يستحق أن يدعى- بطلت دعوة غير الله؛ إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة.
(3)
وهو سبحانه لا يأذن إلا لأهل التوحيد.
1 سورة سبأ آية: 22.
2 سورة سبأ آية: 22.
كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 1 (1) . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن (2) ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع (3) . وقال له أبو هريرة:" من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 2 (4) .
ــ
(1)
أي لمن رضي الله عنه من أهل الإيمان به وحده، وقال ابن عباس:((إلا لمن قال لا إله إلا الله)) .
(2)
أي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كقول أحدهم: الشفاعة، أو اشفع لي، منتفية دنيا وأخرى كما أخبر الله به في كتابه، ولو طلبها منه على سبيل الشفاعة إلى الله، فهو فعل المشركين الذي كفرهم الله به، فإنهم يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. قال تعالى مكذبا لدعواهم ومكفرا لهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4.
(3)
هذا قطعة من حديث الشفاعة، المخرج في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره في أهل الموقف، وهو إخبار منه صلى الله عليه وسلم بتحقيق الشفاعة، وأنه لا يشفع إلا من بعد إذن الله تعالى له في الشفاعة، وفي المشفوع فيهم.
(4)
هذا الحدث رواه البخاري وغيره، قال:" قلت: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه "5. وفي رواية: " خالصا مخلصا من قلبه " 6. والمراد =
1 سورة الأنبياء آية: 28.
2 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
3 سورة الزمر آية: 3.
4 سورة الزمر آية: 3.
5 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
6 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله (1) .
ــ
= مع قوله: محمد رسول الله، لكن قد يكتفى بها لاقتضائها لها، و (خالصا) احتراز من المنافق و (أسعد) أفعل تفضيل، وقيل أي سعيد الناس، أو المخلص أكثر سعادة بها، فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا.
ورواه أحمد وابن حبان وصححه وفيه: " وشفاعتي لمن قال لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه " 1 وفي صحيح مسلم عنه قال: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا "2. فهذان الحديثان ونحوهما مما يبين أنها لأهل التوحيد والإخلاص بإذن الله، وكذا في أحاديث الشفاعة كلها، إنما يشفع في أهل التوحيد كما في الكتاب العزيز.
وقال الحافظ: ((المراد بهذه الشفاعة المسؤول عنها بعض أنواع الشفاعة، وهي التي يقول "أمتي أمتي" "فيقال: أخرج من في قلبه وزن كذا من الإيمان".
وأما الشفاعة العظمى في الإراحة من كرب الموقف، فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة)) اهـ.
وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: الشفاعة الكبرى في أهل الموقف ليقضى بينهم، وشفاعته في أهل الجنة في دخولها، ولقوم من العصاة الذين يدخلون النار بذنوبهم، ويشفع لمن استوجب النار، ولقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم، وبعض الكفار في تخفيف عذابهم.
(1)
فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد لله وحده، لا الالتجاء إلى الأولياء والصالحين وغيرهم، ودعاؤهم وطلبهم الشفاعة، فلا تنال بذلك، بل هو أصل شرك العالم، ولكن كما قال بعض السلف: من جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا يأذن في الشفاعة إلا من رضي قوله وعمله، وهو لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله.
1 أحمد (2/307) .
2 البخاري: الدعوات (6304) والتوحيد (7474)، ومسلم: الإيمان (198 ،199)، والترمذي: الدعوات (3602)، وابن ماجه: الزهد (4307) ، وأحمد (2/426)، ومالك: النداء للصلاة (492)، والدارمي: الرقاق (2805) .
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه (1) وينال المقام المحمود (2) ، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك (3) ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع (4) ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص (5) . انتهى كلامه رحمه الله (6) .
ــ
(1)
أي بالشفاعة فيمن أذن له أن يشفع فيه، فهذا هو حقيقة أمر الشفاعة، لا كما يظنه المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنة، وينجيه من النار، ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم.
(2)
أي الذي يحمده فيه الخلائق كلهم، بل وخالقهم، وهو الشفاعة.
(3)
وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كيا رسول الله اشفع لي.
(4)
كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 1 والآيتين بعدها في الباب، فلما أثبتها في مواضع ونفاها في مواضع علمنا قطعا أنها شفاعتان.
(5)
أي قيدها صلى الله عليه وسلم بقوله: " من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 2؛ لئلا يتوهم المشركون أنها نائلتهم، وإنما تنال الموحدين الذين استحقّوا دخول النار بسبب ذنوبهم، فيشفع لهم في الخروج بعد التطهير، كما تواتر:" أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة- مثقال ذرة، مثقال خردلة- من إيمان "3.
(6)
أي كلام شيخ الإسلام الذي ساقه المصنف هنا، فقام مقام الشرح والتفسير في هذا الباب، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز.
1 سورة البقرة آية: 255.
2 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
3 البخاري: الإيمان (22)، ومسلم: الإيمان (184) ، وأحمد (3/56) .