الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
1 (2) .
ــ
(1)
أي أزيل الفزع عن قلوب الملائكة، من الغشية التي تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل بالوحي إلى جبريل، يأمره الله عز وجل فتسمع الملائكة كلامه كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتنفزع عند ذلك تعظيماً لله وهيبة له. قال ابن عطية:((في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا منقادون)) .
(2)
أي قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} 2، فيقولون: قال الحق، فهو سبحانه الحق وقوله الحق ودعوته وحده هي الحق:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3، علو القدر وعلو الشرف وعلو القدر وعلو الذات فله العلو الكامل من جميع الوجوه والكبير الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى. أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عبد من دون الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله وهذه هيبتهم وخوفهم منه وخشيتهم له، فكيف يدعون من دون الله؟ وإذا كانوا -مع ما هم عليه من جلالة القدر- لا يجوز أن يدعوا من دون الله فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد من دون الله. قال المصنف:((وفيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب)) اهـ.
وفيها إثبات صفة القول لله تعالى، وأنه قال ويقول.
1 سورة سبأ آية: 23.
2 سورة سبأ آية: 23.
3 سورة سبأ آية: 23.
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء (1) ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانا لقوله (2) ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك (3) ، {حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم قالوا: الحق وهو العلي الكبير} (4) .
ــ
(1)
أي إذا تكلم الله بالأمر الذي شاء كونه، وذلك بوحيه إلى جبريل به، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى أبو داود وغيره من حديث ابن مسعود:" إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات.. إلخ "1.
(2)
أي لقول الله تعالى، وذلك أن الله إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أرعدوا وخافوا وفزعوا، هيبة وخضعانا لقوله تبارك وتعالى، مع أنهم عباد مكرمون، أعطاهم الله من القوة والعظمة ما لا يعلمه إلا هو تعالى، ومع ذلك يعتريهم هذا الخوف والاضطراب، فعبادتهم من دون الله باطلة، وإذا كان هذا الحال معهم، فبطلان عبادة غيرهم بطريق الأولى، و (خضعانا) بفتحتين، من الخضوع وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه بمعنى خاضعين.
(3)
بفتح الياء وسكون النون وضم الفاء والذال، أي كأن صوت الرب المسموع سلسلة على صفوان، وهو الحجر الأملس، ينفذهم ذلك، أي يخلص ذلك القول ويمضي في قلوب الملائكة حتى يفزعوا منه، وعند أبي داود وغيره:" إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك، حتى يأتيهم جبرائيل "2.
(4)
أي حتى إذا أزيل عنها الخوف والغشي، قالت الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق، فهو =
1 أبو داود: السنة (4738) .
2 أبو داود: السنة (4738) .
فيسمعها مسترق السمع (1) ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه (2) ، فحرفها وبدد بين أصابعه (3) ، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن (4) ،
ــ
= سبحانه الحق، وقوله الحق، (وهو العلي الكبير) الذي لا أعظم منه، ولا أكبر منه تبارك وتعالى.
(1)
أي يسمع مسترق السمع الكلمة التي قضاها الله، وسمعتها الملائكة وتحدثوا بها، ومسترق السمع هو من الشياطين، فإنهم يركب بعضهم بعضا حتى يصلوا إلى حيث يسمعون تحدث الملائكة بالأمر يقضيه الله. وفي صحيح البخاري من حديث عائشة:" إن الملائكة تنزل في العنان، وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم "1. وسماعهم من الذين في العنان لا ينفي سماعهم من الذين في السماء.
(2)
أي وصف ركوب الشياطين بعضهم فوق بعض بما يأتي، وسفيان هو ابن عيينة بن أبي عمران ميمون، الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ حجة، من كبار الأئمة، روى عن عبد الملك بن عمير والسبيعي وخلق، وعنه الأعمش وشعبة وجماعة، مات سنة 198 هـ، وله 91.
(3)
حرفها، بحاء مهملة وراء مشددة: ميلها، و (بدد) أي فرق وباعد بين أصابعه من غير مماسة بعضها لبعض، ولا لصوق بعضها لبعض.
(4)
أي يسمع المسترق وهو الشيطان الفوقاني الكلمة التي سمعت من السماء، فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، ثم الآخر إلى من تحته، وهكذا حتى يلقيها آخرهم على لسان الساحر، أو على لسان الكاهن، وحينئذ يقع الرجم.
1 البخاري: بدء الخلق (3210)، ومسلم: السلام (2228) ، وأحمد (6/87) .
فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه (1) ، فيكذب معها مائة كذبة (2)، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ (3)
ــ
(1)
أي الشهاب، وهو النجم الذي يرمى به، أي ربما أدرك الشهاب المسترق لتلك الكلمة التي سمعت من السماء، قبل إلقائها فأحرقه، وربما ألقى الكلمة قبل أن يدركه، لما لله في ذلك من الحكمة، وإلا فلا يفوته سبحانه شيء، والحديث يدل على أنه كان يرمى قبل البعثة، كما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن ابن عباس:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه، فرمي بنجم عظيم فاستنار، قال: "ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ " قالوا: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت عظيم، قال: " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم يسبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون " 1.
(2)
بفتح فسكون، أي يكذب الساحر أو الكاهن مع تلك الكلمة التي ألقاها إليه وليه من الشياطين مائة كذبة، ويزيد وينقص، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة، ويخبر بالجميع وليه من الإنس فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق، وما خلط فيه فهو كذب، ومع هذا يفتتن الإنس بذلك، ويقبلون ما جاؤوا به مع كثرة الكذب.
(3)
احتجاج من أهل الباطل لباطله، قال الشارح:((وهكذا في نسخة بخط المصنف، كما في صحيح البخاري سواء)) .
1 مسلم: السلام (2229)، والترمذي: تفسير القرآن (3224) ، وأحمد (1/218) .
فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء (1)"1. وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي (3) ،
ــ
(1)
الباء سببية، أي يصدق الساحر أو الكاهن أولياؤه من الإنس، بسبب تلك الكلمة، ويروج معها مائة كذبة. وفي الصحيح عن عائشة:" قلت: يا رسول الله إن الكهان كانوا يتحدثون بالشيء فنجده حقا، قال: تلك الكلمة الحق يخطفها الجني، فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة "2. قال المصنف: ((وفيه قبول النفوس للباطل، يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة)) اهـ.
وفيه أن الشيء إذا كان فيه نوع من الحق، فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل، ليكون أقبل لباطلهم، وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها إثبات علو الله على خلقه، على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء يسمعه الملائكة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.
(2)
بكسر السين، ابن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب العامري الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي وأبوه أيضا صحابي، يقال: وفد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له، وزوجه أخته الكلابية.
(3)
هذا في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى، كما يدل عليه حديث أبي هريرة، والإرادة صفة من صفات الله عز وجل وهي نوعان: إرادة شرعية دينية، مستلزمة لمحبة الله ورضاه. وإرادة قدرية كونية عامة شاملة، وهو سبحانه يريد الخير ويأمر به، وينهى عن الشر ولا يأمر به، وإن كان مريدا له، فكل الأشياء كائنة بمشيئته وقدرته وخلقه، وفيه النص على أن الله يتكلم بالوحي متى شاء، قال المصنف:((وفيه إثبات الصفات خلافا للأشعرية)) .
1 البخاري: تفسير القرآن (4800)، والترمذي: تفسير القرآن (3223)، وابن ماجه: المقدمة (194) .
2 البخاري: الأدب (6213)، ومسلم: السلام (2228) ، وأحمد (6/87) .
أخذت السماوات منه رجفة (1)، أو قال: رعدة شديدة (2) خوفا من الله عز وجل (3) ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا (4) ،
ــ
(1)
(السماوات) مفعول مقدم، والفاعل رجفة، أي أصاب السماوات من كلام الله رجفة، وأصل الرجفة الحركة والاضطراب، أي تحركت واضطربت، وهو صريح في أنها تسمع كلام الله تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال:" إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى، رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة سجدا ".
(2)
شك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم رجفة، أو قال: رعدة شديدة، وهما متقاربان أو متحدان في المعنى، أي رجفة واضطراب خوفا من الله، وهذا من شدة حرص السلف على ألفاظ الحديث، وإن كانت تجوز روايته بالمعنى بشروطها المعروفة.
(3)
هذا ظاهر في أن السماوات لها معرفة وإحساس، تخاف من الله بما جعل فيها من الإحساس والمعرفة بمن خلقها، وقد أخبر الله أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه وتقدسه، كقوله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 1. وثبت سماع تسبيح الطعام وهو يؤكل، والحصى والجذع، وهذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة، ولا يقال بلسان الحال.
(4)
أي يقع منهم الأمران الصعوق، - وهو هنا الغشي- ويقع منهم السجود، والله أعلم أيهما قبل الآخر، وفيه إثبات عظمة الله تعالى، وعلو ذاته وقدرته وقهره، فإذا كانت السماوات على عظمتها وسعتها وما فيها من السكان ترجف ويصعق من =
1 سورة الإسراء آية: 44.
فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل (1) ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد (2) ، ثم يمر جبرئيل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير (3) . فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل (4) ،
ــ
= فيها، هيبة لله وخوفا منه، فالالتجاء إلى غيره، والتعلق عليه من أبطل الباطل وأمحل المحال؛ إذ هو سبحانه بيده أزمة الأمور، وكل من سواه مخلوق مربوب لا يملك نفعا ولا ضرا، وفي الحديث:" أن الأمة لو اجتمعوا أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "1.
(1)
بفتح "أول" خبر "يكون"، مقدم على اسمها، ويجوز العكس، وإنما كان أول من يرفع رأسه جبرائيل؛ لأنه سفير الله وبين رسله وأمينه على وحيه. واسم جبرائيل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء يرجع إلى إيل فهو معبد لله، قاله علي بن الحسين وغيره. وفيه فضيلة جبرائيل، وقد وصفه الله بقوله:(إنه لقول) أي تبليغ: {رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} 2. ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، فإذا كان هذا عظم أحد المخلوقات فخالقها أعظم وأجل وأكبر، بل السماوات والأرض ومن فيهن في كف الرحمن جل وعلا كخردلة في يد أحدنا، فكيف يسوى به غيره في العبادة؟ .
(2)
فيه التصريح بأن الله يوحي إلى جبرائيل بما أراده من أمره كما تقدم.
(3)
فيه إثبات علو الله تعالى وتقدس، وأنه قال ويقول، خلافا للجهمية.
(4)
أي يقولون: قال الحق، وهو العلي الكبير، تبارك وتعالى.
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/293) .
2 سورة التكوير آية: 19-21.
فينتهي جبرئيل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل " (1) .
ــ
(1)
من السماء والأرض، فالآية المذكورة والأحاديث تقرر أن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه، خوفا منه ومهابة، ولا يعلمون إلا ما علمهم به، وترجف منه المخلوقات، لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، وهم بهذه المثابة من هيبته وخشيته. وقصد المصنف الرد على المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، فإنه إذا كان هذا حال الملائكة عند مجرد سماع كلام الله، مع ما أعطاهم الله من شدة القوة، وعظم الخلقة التي لا يعلمها إلا الله، علم أنه لا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لهم، لعجزهم عن النفع والضر، فكيف بمن هو دونهم بمراتب؟ ولكن أهل الشرك لا يفقهون، ثم هو سبحانه قد أرسل الرسل، وأنزل الكتب، تزجرهم عن ذلك الشرك، وأقام البراهين على بطلانه.