الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(1) .
ــ
(1)
ترجم المصنف رحمه الله بهذه الآية الكريمة، التي ابتدأها الله عز وجل بأعلى المقامات التي أجلها عبادة الله وحده، وامتن عليهم بإيجادهم، وما أوجده لأجلهم، فلا يجعلوا له أندادا، أي شركاء ونظراء، يصرفون لهم شيئا مما يستحقه سبحانه وتعالى، فيقعوا في الشرك الأصغر أو الأكبر، وساق في الباب ما ألحق بالأصغر، فإن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ، وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز، بل ربما تجري على لسانه من غير قصد، وإن كانت الآية نزلت في الأكبر، فالسلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس وغيره، وقد قال تعالى في أول الآية بعد أن عدد فرق المكلفين:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 تنجون من عذاب الله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} 2 أي ومن كان هذا وصفه فهو المستحق أن يعبد وحده،:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 أشباها ونظراء، تصرفون أنواع العبادة أو شيئا منها لهم، كحال عبدة الأوثان، الذين كانوا يعبدونها من دون الله،:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4 أنه ربكم لا يرزقكم غيره. قال أبو العالية وقتادة: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 5 أي عدلاء شركاء. وقال ابن زيد: هي الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وقال قتادة ومجاهد: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله، وقال ابن عباس: أي لا تشركوا به شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه ربكم، لا يرزقكم غيره. وقال مجاهد:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. حكاه ابن كثير وغيره، وذكر حديث الحارث الأشعري " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله، بذهب أو ورق، فجعل يعمل =
1 سورة البقرة آية: 21.
2 سورة البقرة آية: 22.
3 سورة البقرة آية: 22.
4 سورة البقرة آية: 184.
5 سورة البقرة آية: 22.
قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل (1)، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي (2)، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص (3) ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص (4)، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت (5)
ــ
= ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا " 1. وهذه الآية دالة على توحيد الله بالعبادة، وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، والآيات الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.
(1)
الصفا الحجر الأملس، ذكر ما مثل به من الشرك؛ لخفائه على الأكثر حتى لا يكاد يفطن له، ولا يعرفه إلا القليل، وضرب المثل لخفائه بما هو أخفى شيء، أي أنه أخفى من دبيب النمل الأسود على الصفا الأسود في ظلمة الليل الأسود، وهذا يدل على شدة خفائه على من يدعي الإسلام، وعسر التخلص منه.
(2)
أي من الشرك الحلف بغير الله كالحلف بحياة المخلوق، والحلف بالمخلوق شرك.
(3)
وفي بعض الأصول: كلبة، وهي واحدة الكلاب، وهي ما تتخذ لحفظ المواشي وغيرها، واللصوص: السراق جمع لص ويثلث.
(4)
البط: من طير الماء، الإوز، واحدته بطة، يتخذ في البيوت، فإذا دخلها غير أهلها استنكره وصاح، والواجب نسبة ذلك إلى الله، فهو الذي يحفظ عباده، ويكلؤهم بالليل والنهار.
(5)
لأن المعطوف بالواو يكون مساويا للمعطوف عليه.
1 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/130 ،4/202) .
وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانا (1)، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم (2) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) "1.
ــ
(1)
أي لا تجعل في مقالتك فلانا، بل لولا الله وحده. ولا تقل: لولا الله وفلان. قال الشارح: ثبت بخط المصنف فلان بلا تنوين.
(2)
أي هذا كله شرك بالله تعالى، وقد وقع هذا اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك، فيجب التنبه لهذه الأمور؛ فإنها أكبر الكبائر، وهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى، وتقدم تفسيره للآية أيضا.
(3)
وفي رواية: " فقد كفر ". وفي رواية: " فقد أشرك ". والصواب عن ابن عمر رضي الله عنهما، وورد مثل هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه بهذا اللفظ، والشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو الكفر بالله، وقد يفرق بينهما، فيخص الشرك بقصد الأوثان وغيرها من المخلوقات مع الاعتراف بالله، فيكون الكفر أعم. وما أورده المصنف يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك، كما جاء مصرحا به عند أحمد:" فقد كفر وأشرك ". ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما قال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقل عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر، كما نص عليه ابن عباس وغيره. لكن ما يفعله عباد القبور، وهو ما إذا طلب منهم اليمين بالله أسرعوا، وإذا طلب منهم اليمين بالشيخ أو حياته ونحوه لم يقدم أحدهم عليه إن كان كاذبا، فهذا شرك أكبر بلا ريب؛ لأنه صار المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله عز وجل وهذا =
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .
رواه الترمذي وحسنه وصححه، الحاكم (1) . وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (2) .
ــ
= ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام، فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ ونحوه فهو أكبر شركا منهم. وفيه دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير الله مطلقا؛ لأنه لم يذكر فيه كفارة، فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد والاستغفار.
(1)
وأقره الذهبي، وكذا أخرجه أحمد من طرق، وأبو داود، وصححه ابن حبان. وقال ابن العراقي: إسناده ثقات. وفي الصحيح وغيره عن ابن عمر مرفوعا: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "1. وعن بريدة مرفوعا " من حلف بالأمانة فليس منا " 2. رواه أبو داود، وتواترت النصوص بالنهي عن الحلف بغير الله، ودلت على أنه شرك، لكنه لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار. وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره، وأما قوله:"أفلح وأبيه"، "أما وأبيك". فقد أجيب عنه بأنه ليس من جنس اليمين المقصودة، بل هو مما يجري على الألسن من غير قصد، كقولهم: تربت يداك، أو أنه كان قبل النهي عن الحلف بغير الله ثم نسخ، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل، حتى ورد النهي؛ يؤيده ما في الصحيح عن ابن عمر وغيره، وقيل غير ذلك.
(2)
رواه الطبراني وابن جرير وغيرهما، قال المنذري: ورواته رواة الصحيح.
وجاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه، وذلك أن الحلف بالله كاذبا كبيرة، والحلف بغير الله شرك وكفر، وإن كان أصغر فهو أكبر من الكبائر بإجماع السلف. قال شيخ الإسلام: ((وإنما رجح ابن مسعود الحلف بالله كاذبا، على الحلف بغيره صادقا، لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغيره، فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب، أسهل من سيئة =
1 البخاري: الأيمان والنذور (6646)، ومسلم: الأيمان (1646)، والترمذي: النذور والأيمان (1534)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) ، وأحمد (2/7 ،2/11 ،2/20 ،2/98 ،2/125 ،2/142)، ومالك: النذور والأيمان (1037)، والدارمي: النذور والأيمان (2341) .
2 أبو داود: الأيمان والنذور (3253) ، وأحمد (5/352) .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان " 1 رواه أبو داود بسند صحيح (1) .
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك، قال ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان (2) .
ــ
= الشرك)) اهـ. فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار، كدعوة غير الله والاستغاثة به، والرغبة إليه وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها.
(1)
ورواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وله شواهد، ومعناه صحيح بلا ريب؛ وذلك لأن العطف بالواو يقتضي المساواة؛ لأنها في وضعها لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وتسوية المخلوق بالخالق في نوع من أنواع العبادة شرك، فإن كان في الأصغر مثل هذا فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كقول الله عنهم:{إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 بخلاف المعطوف بـ (ثم) ؛ فإن المعطوف بها يكون متراخيا عن المعطوف عليه بمهلة، فلا محذور لكونه صار تابعا.
(2)
رواه عبد الرزاق وابن أبي الدنيا، وتقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك، وهذا في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب، فإنه يجوز في حقه ما هو تحت قدرته ووسعه، وأما الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليهم بشيء ما، بوجه من الوجوه، والقرآن يبين ذلك، وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئلوا شيئا من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر، ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسره ابن عباس في الآية.
1 أبو داود: الأدب (4980) ، وأحمد (5/384 ،5/393 ،5/398) .
2 سورة الشعراء آية: 98.