الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في المصورين
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي (2) ، فليخلقوا ذرة (3) ، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة "1. أخرجاه (4) .
ــ
(1)
أي من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، للمضاهاة بخلق الله، بل هو منشأ الوثنية، وما دخل على القرون قبلنا إنما هو من هذا الباب؛ لأن صورة المألوف تعظيم، وإذا ارتسمت في الحافظة وبقي ذكرها يمر على البصر الناظر إليها من رسمها لا بد أن تستولي على قلبه، وتحل فيه حلول التعبد له.
(2)
أي لا أظلم منه فإن الله له الخلق والأمر، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات على غير مثال سبق، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 2 الآيات. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة، صار مضاهيا لخلق الله، فصار لا أظلم منه، وما صوره يعذب به يوم القيامة.
(3)
تعجيز لهم، أي فليخلقوا ذرة وهي صغار النمل فيها روح تتصرف بنفسها كهذه الذرة التي خلقها الله، وأنى لهم ذلك؟
(4)
تعجيز لهم أيضا، أي فليخلقوا حبة حنطة فيها طعم تؤكل وتزرع وتنبت، ويوجد فيها ما يوجد في حبة الحنطة، وكذا الشعيرة ونحوها من الحب الذي يخلقه =
1 البخاري: التوحيد (7559)، ومسلم: اللباس والزينة (2111) ، وأحمد (2/232 ،2/259 ،2/391 ،2/451 ،2/527) .
2 سورة السجدة آية: 7.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله " 1 (1) .
ــ
= الله، وأنى لهم السبيل إلى ذلك، والمراد تعجيزهم تارة بتكليفهم خلق صورة حيوان، وهو أشد، وتارة بتكليفهم خلق جماد وهو أهون، ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك كله، فإن الله هو المتفرد بذلك لا خالق غيره ولا رب سواه.
(1)
أي يشابهون بما يصنعونه ما يصنعه الله. ولمسلم: "الذين يشبهون بخلق الله". ولهما من حديث ابن عباس: " أشد الناس عذابا المصورون "2. قال النووي: قيل: هذا محمول على صانع الصورة لتعبد وهو صانع الأصنام ونحوها، فهذا كافر وهو أشد الناس، وقيل هو فيمن قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك فهذا كافر أيضا، وله من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره، فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير، لا يكفر كصاحب المعاصي. وقال: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر المتوعد عليها بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام. قال الحافظ: ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: " أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها "3. وفيه ثم قال: " من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "4. قال المنذري: إسناده جيد. وإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله من الحيوان، فكيف بمن سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه وصرف له شيئا من العبادة؟
1 البخاري: اللباس (5954) ، وأحمد (6/36) .
2 البخاري: اللباس (5950)، ومسلم: اللباس والزينة (2109)، والنسائي: الزينة (5364) ، وأحمد (1/375 ،1/426) .
3 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/87) .
4 أحمد (1/87) .
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار (1) يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم "1 (2) .
ــ
(1)
أي لذي روح، لتعاطيه ما يشبه ما انفرد الله به من الخلق والاختراع.
(2)
أي تعذبه نفس الصورة بأن يجعل فيها روحا، والباء بمعنى " في " أو يجعل له بكل صورة شخص يعذب به، وقد قال عليه الصلاة والسلام – لعائشة:" ما هذه النمرقة؟ قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور "2. قال الحافظ: قدم الجملة الأولى اهتماما بالزجر عن اتخاذ الصور؛ لأن الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل لمستعملها؛ لأنها لا تصنع إلا لتستعمل، فالصانع متسبب، والمستعمل مباشر، فيكون أولى بالوعيد، ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، وبين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، معلقة أو مفروشة. قال النووي: لا فرق في ذلك، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصور فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذا استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقما في ثوب، أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملا بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم، وهذا مذهب قوي.
1 مسلم: اللباس والزينة (2110) ، وأحمد (1/308) .
2 البخاري: اللباس (5957)، ومسلم: اللباس والزينة (2107)، ومالك: الجامع (1803) .
ولهما عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ "1 (1) . ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها (2) ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "2 (3) .
ــ
(1)
وفي رواية: "فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ أبدا" أي لا يمكنه ذلك، فيكون معذبا دائما، فالحديث يدل على طول تعذيبه، وإظهار عجزه عما كان تعاطاه، ومبالغة في تحريمه، وبيان قبح فعله، وتقدم قوله:"أحيوا ما خلقتم" أي اجعلوه حيوانا ذا روح كما ضاهيتم به، وهذا أمر تعجيز، ووعيد شديد؛ لأنه مغيا بما لا يمكن، فالمراد به الزجر الشديد والوعيد بعقاب الكافر، ليكون أبلغ في الارتداع. ويستثنى من ذلك ما لا روح فيه، لقول ابن عباس: فإن أبيت فعليك بهذا الشجر. وإذا خص ما فيه روح بالمعنى من جهة أنه مما لم تجر عادة الآدميين بصنعته، وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلا امتنع ذلك في مثل تصوير الشمس والقمر، ويتأكد المنع بما عبد من دون الله، فإنه يضاهي صور الأصنام التي هي الأصل في منع التصوير، لا سيما وقد جاء النهي عن التماثيل.
(2)
وتقدم لأحمد: "ولا صورة إلا لطختها" أي أزلتها ومحوتها. وفيه التصريح ببعثه صلى الله عليه وسلم عليا وغيره لطمس الصور لما فيها من المضاهاة لخلق الله. وأبو الهياج اسمه حيان بن حصين الأسدي تابعي ثقة، روى عن علي وعمار، وكان كاتبا له، وعنه ابناه جرير ومنصور والشعبي وغيرهم.
(3)
مشرفا أي مرتفعا إلا سويته أي بالأرض، ففيه التصريح ببعثه لتسوية القبور، لما في تعليتها من الفتنة بأربابها، وتعظيمها وهو أكبر وسائل الشرك وذرائعه، بل هو الأصل في عبادتها، وصرف الهمم إلى محو هذا وأمثاله من أكبر مصالح الدين =
1 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042)، ومسلم: اللباس والزينة (2110)، والترمذي: اللباس (1751)، والنسائي: الزينة (5358 ،5359)، وأبو داود: الأدب (5024) ، وأحمد (1/216 ،1/241 ،1/246 ،1/350 ،1/359 ،1/360) .
2 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
= ومقاصده وواجباته، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، فكثر التصوير واستعماله، وكثر البناء على القبور وزخرفت، وجعلت أوثانا تعبد من دون الله، وصرف لها خالص التضرع والخشوع، والذبح لها والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور. قال ابن القيم: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له، بحيث لا يجتمعان، فنهى عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد السرج عليها، ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها كما روى مسلم عن أبي الهياج وذكره هو وحديث ثمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضا قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيوت، ويعقدون عليها القباب، وذكر ما نهي عنه من تجصيصها والزيادة على ترابها، والتصريح بتحريم ذلك، وأنه قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، ولا يخفى ما فيه من مشاقة دين الإسلام، والمفاسد التي يعجز عن حصرها، منها اتخاذها أعيادا، والسفر إليها، ومشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها والنذر لها ولسدنتها، واعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء، وتقضى الحوائج وغير ذلك، والشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وإيذاء أهلها، وتفضيلها على خير البقاع، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها وتعفير الخدود على تربتها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فالله المستعان.