الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قول الله تعالى: {يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}
1 الآية.
ــ
(1)
أراد - رحمه الله تعالى - بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله؛ لأنه من واجبات التوحيد. وأول الآية: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ} 2. وهم أهل الإيمان والثبات والتوكل، الجازمين بأن الله ينصر رسوله، ويظهر دينه على الدين كله: {طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 3 لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} 4 وهو التكذيب بالقدر وأن الأمر لو كان إليهم - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعا لهم، يسمعون منهم - لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون بعد نفوذ القضاء والقدر أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء. ولما قيل لعبد الله بن أبي: قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ أي لو كان الأمر إلينا ما أصابهم القتل، فأكذبهم الله بقوله:{قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 5 فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به كتابه السابق، وهذه الآية كقوله:{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} 6 وقد ظن هؤلاء المنافقون أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة.
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 154.
5 سورة آل عمران آية: 154.
6 سورة الفتح آية: 12.
وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} 1 (1) . قال ابن القيم في الآية الأولى (2) : فسر هذا الظن بأنه – سبحانه - لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل (3) ، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته (4) ، ففسر بإنكار الحكمة (5) .
ــ
(1)
أي على الذين يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لا ينصروا على أعدائهم، وأن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، دائرة العذاب تدور عليهم:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 2 وأبعدهم وأقصاهم من رحمته: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} 3 يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلا يصيرون إليه يوم القيامة.
(2)
أي على ما تضمنته وقعة أحد: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} 4 الآية.
(3)
أي يذهب ويتلاشى، حتى لا يبقى له أثر، والاضمحلال ذهاب الشيء جملة، وهذا تفسير غير واحد من المفسرين، وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي وغيرهما، ذكره ابن جرير وغيره.
(4)
ذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك أنهم تكلموا فيه فقال الله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 5 يعني القدر خيره وشره من الله.
(5)
فإن من أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن بالله ظن السوء، ومنها قوله:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} 6 أي يختبر ما فيها من الإيمان: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} 7 أن ينقيها فلو تركت في عافية دائمة لم تخلص من ميل النفوس، وحكم العادات، واستيلاء الغفلة، فاقتضت حكمة الله أن قيض لها من المحن ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتدارك خيف عليه من الهلاك.
1 سورة الفتح آية: 6.
2 سورة الفتح آية: 6.
3 سورة الفتح آية: 6.
4 سورة آل عمران آية: 154.
5 سورة آل عمران آية: 154.
6 سورة آل عمران آية: 154.
7 سورة آل عمران آية: 154.
وإنكار القدر (1) ، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله (2) ، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح (3) ، وإنما كان هذا ظن السوء (4) ؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه (5) ، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق (6) .
ــ
(1)
أي وفسر ظنهم بالله ظن السوء بإنكار القدر من أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا.
(2)
كما أخبر الله به في كتابه بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1 وغيرها من الآيات والأخبار.
(3)
وهي قوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2.
(4)
وظن أهل الجاهلية أيضا وهو المنسوب إلى أهل الجهل.
(5)
وغير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، لأن الذي يليق به سبحانه أن يظهر الحق على الباطل وينصره، فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
(6)
الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، فقد ظن به ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة للمشركين، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته.
1 سورة التوبة آية: 33.
2 سورة الفتح آية: 6.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق (1) ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره (2) ، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك:{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم (4) .
ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده ووعده الصادق (5) ،
ــ
(1)
اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا فقد ظن به ظن السوء؛ لأنه نسبه إلى ما لا يليق بجلاله وكماله.
(2)
أي فذلك ظن السوء؛ لأنه نسبه إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه.
(3)
وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية مطلوبة، هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة، لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا شاءها عبثا، ولا خلقها باطلا،:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2.
(4)
وغالب بني آدم إلا من شاء الله يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربى، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به.
(5)
لأن الله وعد رسوله أن ينصره، ويظهر أمره ودينه على الدين كله، فمن ظن أن دينه سيضمحل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء، ومن قنط من رحمته، وأيس من روحه، أو جوز عليه أن يعذب أولياءه على إحسانهم، =
1 سورة ص آية: 27.
2 سورة ص آية: 27.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء (1) .
ــ
= ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى، أو أنه لا يجمعهم بعد الموت للثواب والعقاب فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح، وأنه يعاتبه بما لا صنع له فيه، وأنه يحسن منه كل شيء، حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه، وترك الحق لم يخبر به، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه وسنة رسوله، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه، دون الله ورسوله وأن الهدى في كلامهم، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يقدر على إيجاده، وأنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، ولا يتكلم ولا يكلم، وأنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه فيدعونهم ويرجونهم فقد ظن به ظن السوء.
(1)
وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سيئ، ومتبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فإنها أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل:
فلا تظنن بربك ظن سوء
…
فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا
…
فكيف بظالم جان جهول
ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا (1) ، فمستقل ومستكثر (2) ، وفتش نفسك هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة3
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيا4
ــ
(1)
اقتراحا عليه وأنه يستحق خلاف ما جرى به القدر، بل يبوحون بذلك ويصرحون به جهارا في كلامهم وأشعارهم، وهذه حالة كما قال ابن الجوزي وغيره قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال، أولهم إبليس، وقال: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظروا ما أعطاهم الله مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم، حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق: لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا. وقال صدقة بن الحسين الحداد - وكان فقيها وعليه جرب -، فقال: ينبغي أن يكون هذا على جمل لا علي. وكثير من العوام إذا رأى رجلا صالحا مؤذى قالوا: هذا ما يستحق، أو هذا ابن حلال كأن الله ظلمه أو يذمه كأنه لا يستحق، قدحا في القدر، وارتفاعا على الخالق جل وعلا في التحكم عليه، حتى كأن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا لله تعالى في ملكه، والله سبحانه هو العليم الحكيم، يضع الأشياء مواضعها.
(2)
من الاعتراض على قدر الله وحكمه.
(3)
أي من أمر ذي مصيبة عظيمة.
(4)
إخال بكسر الهمزة أي لا أظنك ناجيا من الاعتراض على القدر، بل أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء بلسان حاله أو مقاله.