الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}
1 الآية (1) .
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به (2) . وقال ابن عباس: يريد من عندي (3) .
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2 قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب (5) وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل (6) .
ــ
(1)
أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان أن زعم الإنسان استحقاقه ما حصل له من النعم بعد الضراء مناف لكمال التوحيد، أي يقول تعالى: ولئن آتينا الإنسان خيرا وعافية وغنى، من بعد بلاء وشدة أصابته، ليقولن: إني كنت مستحقه، فكفر نعمة الله إذا لم ينسبها إليه تعالى.
(2)
أي بكسبي وأنا خليق به وجدير به، رواه عبد بن حميد وابن جرير بنحوه.
(3)
أي يريد بقوله: (هذا لي) هذا من عندي.
(4)
قاله قارون فخسف الله به الأرض عقوبة له.
(5)
رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقال ابن كثير: قال قتادة،:{عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} على خبر عندي.
(6)
قاله السدي والبغوي وابن جرير وغيرهم.
1 سورة فصلت آية: 50.
2 سورة القصص آية: 78.
وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى (2) ، فأراد الله أن يبتليهم (3) ،
ــ
(1)
رواه ابن جرير وغيره، وليس فيما ذكروه اختلاف، وإنما هو أفراد المعنى. ونحو هاتين الآيتين قوله:{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} 1 أي أنه في حال الضر يضرع إليه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى. وقال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} 2 أي لما يعلم الله استحقاقي له، ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا، قال الله:{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 3 أي ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه لنختبره فيما أنعمنا عليه، أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك،:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4 أنه استدراج وامتحان، ليشكر أو يكفر،:{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 5 يعني قارون وأشباهه، فإنه قال:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه: لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي.
(2)
بالنصب بدل من اسم "إن"، والأبرص من به داء البرص، وهو بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج، والأقرع من به قرع، وهو داء يصيب الصبيان في رءوسهم، ثم ينتهي بزوال الشعر أو بعضه، والقرع الصلع. والأعمى من فقد بصره، ولا يقع إلا على العينين جميعا.
(3)
أي يختبرهم بنعمته كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} 6. ولفظ البخاري: "بدا لله" بالباء الموحدة والدال المهملة، وكسر لام الجلالة، قال ابن قرقور: ضبطناه بالهمز يعني ابتدأ، ورواه كثير من الشيوخ بلا همز.
1 سورة الزمر آية: 49.
2 سورة الزمر آية: 49.
3 سورة الزمر آية: 49.
4 سورة الأعراف آية: 187.
5 سورة الزمر آية: 50.
6 سورة الأنبياء آية: 35.
فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به (1) . قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ (2) قال: الإبل، -أو البقر شك إسحاق (3) - فأعطي ناقة عُشَرَاء (4)، فقال: بارك الله لك فيها (5) . قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به (6) ، فمسحه فذهب عنه (7) ،
ــ
(1)
اللون هيئة كالبياض والحمرة، والجلد ظاهر البشرة وهو: غشاء الجسد، و"قذرني" بكسر الذال، أي كرهوا مخالطتي، ونفروا عني، واستأذوا من رؤيتي، وعدوني مستقذرا من أجله.
(2)
لما زال عنه البرص الذي هو أكره منظر، وكان لا يبرأ في العادة، خيره في أنفس الأموال، ليجمع له أكبر النعم البدنية والمالية اختبارا.
(3)
أي ابن عبد الله بن أبي طلحة، راوي الحديث.
(4)
بضم العين وفتح الشين وبالمد، وهي: الحامل التي أتى على حملها عشرة أشهر أو ثمانية، وقيل: يقال لها إلى أن تلد، وهي من أنفس الإبل.
(5)
أي دعا له الملك بالبركة، وهو مجاب الدعوة بإذن الله.
(6)
وعابوني به.
(7)
ولم يكن البرء من عادته غالبا.
وأعطي شعرا حسنا (1)، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا، وقال: بارك الله لك فيها (2) . قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره (3)، قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا (4) ، فأنتج هذان وولد هذا (5) ، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم (6) .
ــ
(1)
بعد أن كان أقرع يقذره الناس.
(2)
أي دعا له الملك بالبركة، كما دعا لمن قبله، وحاملا أي حبلى، ولم يقل حاملة؛ لأن هذا نعت لا يكون إلا للإناث.
(3)
الذي لم يكن البرء من عادته.
(4)
أي ذات ولد. وقال بعضهم: الشاة الوالد التي عرف منها كثرة الولد والنتاج، ودعا له بالبركة.
(5)
أنتج بفتح الهمزة والتاء. وفي رواية: فنتج. وقال غير واحد: بالضم فيها أي تولى صاحب الناقة وصاحب البقرة نتاجهما، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة، وولد بتشديد اللام أي تولى ولادها، وهو بمعنى نتج في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد.
(6)
أي كان لكل واحد منهم ما يملأ الوادي من الإبل والبقر والغنم.
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته (1)، فقال: رجل مسكين وابن سبيل (2) ، قد انقطعت بي الحبال في سفري (3) ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك (4) ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري (5)، فقال: الحقوق كثيرة (6) .
ــ
(1)
أي أتى الملك في صورة الأبرص التي كان عليها أولا لما اجتمع به، وهو كونه أبرص فقيرا ترقيقا لقلبه، وإنما ذكره حالته الأولى ليكون أبلغ في إقامة الحجة عليه.
(2)
رجل خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنا.
(3)
الحبال بالحاء المهملة والباء الموحدة أي أسباب المعيشة في سفري، وقيل الطريق. وفي رواية لمسلم: بالياء المثناة التحتية جمع حيلة، أي لم يبق لي حيلة أراد أنك كنت هكذا، وليس بتعريض بل هو تصريح على وجه ضرب المثال والإيهام أنه صاحب القصة؛ ليتيقظ المخاطب كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة.
(4)
أي فلا وصول لي إلى مرادي إلا بالله سبحانه ثم بك، إظهارا لشدة حاجته إليه.
(5)
بعيرا منصوب بمحذوف تقديره: أسألك بالذي إلخ، يعني أطلب منك بعيرا أتبلغ به أي أتوصل به، من البلغة وهي الكفاية. وفي البخاري:"أتبلغ عليه" أي أتوصل عليه إلى مرادي، عدد عليه ما أنعم الله به عليه ليكون أرق له.
(6)
أي حقوق المال كثيرة علي، ولا أقدر على أدائها، أو حقوق المستحقين كثيرة فلا يحصل لك بعير، وهو إنما أراد دفعه، وليس بصادق.
فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال (1) ؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر (2)، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت (3) . قال: ثم إنه أتى الأقرع في صورته (4) ، فقال له مثل ما قال لهذا (5) ، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا (6) ،
ــ
(1)
استفهام توبيخ، يذكره ما كان عليه من قبل، وما أنعم الله به عليه، ليعترف لله.
(2)
نصب كابرا بنزع الخافض، أي ورث هذا المال من كبير، ورثه عن كبير آخر في الشرف، فجحد نعم الله عليه مع قرب تجددها، ومع تصريح السائل الخبير، بما وجب عليه لها من الشكر الذي هو أعظم الأسباب في هذه النعم، ومع شدة حاجة السائل، فلم يقر لله بنعمة، ولم ينسبها إليه، ولا أدى حقه فيها، فحل عليه السخط، لمبالغته في جحد النعمة وكفر مسديها.
(3)
أي ردك الله إلى ما كنت عليه سابقا من البرص والفقر، أو رده بلفظ الماضي مبالغة في الدعاء عليه.
(4)
لم يقل وهيئته اختصارا أو اكتفاء.
(5)
أي قال للأقرع مثل ما قاله للأبرص، رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك الشعر الحسن، والجلد الحسن، بقرة أتبلغ بها في سفري.
(6)
أي كرد الأبرص على هذا السائل بقوله: الحقوق كثيرة، فقال له الملك: ألم تكن أقرع يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر.
فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت (1) . قال: ثم إنه أتى الأعمى في صورته وهيئته (2)، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك وأعطاك المال شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل (3) . فقال: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم (4) ، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك ". أخرجاه (5) .
ــ
(1)
أي إلى ما كنت عليه قبل من القرع والفقر.
(2)
وهي أنه أعمى فقير.
(3)
أي لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي. ولفظ البخاري: " لا أحمدك " بالحاء المهملة والميم، أي على ترك شيء أو أخذ شيء مما تحتاج إليه من مالي، ويحتمل: لا أطلب منك الحمد أي لا أمتن عليك.
(4)
يعني أنت ورفيقاك، والمعنى اختبرتم هل تذكرون سوء حالتكم، وتشكرون نعمة ربكم عليكم أولا؟.
(5)
أي البخاري ومسلم وهذا لفظه، فالأعمى اعترف بنعمة الله عليه، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة، لما أتى بأركانها الإقرار بها، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب، وكفر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ......
= صاحباه نعمة الله عليهما، فاستحقا السخط بذلك. قال ابن القيم: الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها فقد كفرها، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، ولكن لم يخضع له، ولم يحبه ولم يرض به وعنه، لم يشكرها أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها، وأقربها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في رضاه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد للشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، وفي هذا الحديث بيان حال من كفر النعم ومن شكرها، وجواز ذكر من مضى ليتعظ به من سمعه، ولا يكون ذلك غيبة فيهم، ولعله السر في ترك تسميتهم.