الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
(1)
وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 (2) .
ــ
(1)
لما ذكر المصنف رحمه الله التوحيد وما ينافيه من الشرك، أو ينافي كماله، أو ما يكون وسيلة إلى ما ينافيه، ذكر أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة بعبادة الأوثان، والوثن يطلق على كل من قصد بأي نوع من أنواع العبادة، من صنم أو قبر أو مشهد أو غير ذلك، لقول الخليل:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} 2، مع قوله:(قالوا نعبد أصناما) . وقال عليه الصلاة والسلام لعدي وفي عنقه صليب: " ألق عنك هذا الوثن "3.
(2)
(ألم تر) ألم تنظر (إلى الذين أوتوا) أعطوا (نصيبا) حظا (من الكتاب) اليهود والنصارى (يؤمنون) يصدقون (بالجبت) الشيء الفشل، الذي لا خير فيه من أمور الدين، وقال الجوهري: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر. (والطاغوت) الشيطان، وسيأتي تمام الكلام فيهما.
وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 4 أي يفضلون الكفار على المسلمين، بجهلهم وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم، وأخرج أحمد وغيره من غير وجه عن ابن عباس وغيره:" أنه جاء حيي بن الأخطب، وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوما، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا، فأنزل الله هذه الآية ". قال =
1 سورة النساء آية: 51.
2 سورة العنكبوت آية: 17.
3 الترمذي: تفسير القرآن (3095) .
4 سورة النساء آية: 51.
ــ
= المصنف: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ أي فالإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هو موافقة أصحابها مع بغضها، ومعرفة بطلانها، كفعل علماء السوء مع أهل الحق، حرفة يهودية، ووراثة غضبية. ومطابقة الآية للترجمة أنه إذا كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، فهذه الأمة التي أوتيت القرآن لا يستنكر ولا يستبعد أن تعبد الجبت والطاغوت؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذه الأمة ستفعل مثل ما فعلت الأمم قبلها.
(1)
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (قل) يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه (هل) أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة، مما تظنونه بنا في قولكم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا شرا من دينكم، وديننا هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله:(من لعنه الله) وأبعده من رحمته وطرده، (وغضب عليه) غضبا لا يرضى بعده أبدا (وجعل منهم القردة) أصحاب السبت (والخنازير) كفار مائدة عيسى. وعن ابن عباس: كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير، وقد " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما فجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " 2 رواه مسلم.
(2)
أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما سول له، قال شيخ الإسلام: الصواب أنه معطوف على قوله: (من لعنه الله وغضب عليه) فهو فعل ماض، معطوف على ما قبله أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد لفظ (من) ؛ =
1 سورة المائدة آية: 60.
2 أحمد (1/390 ،1/395 ،1/396 ،1/421) .
وقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1 (1) .
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم (2) حذو القذة بالقذة (3) ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (4) .
ــ
= لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد، وهم اليهود. وقوله:(أولئك شر مكانا) أي مما تظنون بنا (وأضل عن سواء السبيل) ومطابقة الآية للترجمة أنه إذا كان اليهود ممن عبد الطاغوت، فكذلك يكون في هذه الأمة.
(1)
أي قال ذلك أصحاب الكلمة والنفوذ، في زمن أصحاب الكهف (لنتخذن عليهم مسجدا) ليعرفوا فيقصدهم الناس ويتبركون بهم، ذمهم الله بذلك، تحذيرا لنا أن نتخذ القبور أوثانا، وتقدم لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى لاتخاذهم المساجد على قبور أنبيائهم، وأن مراده تحذيرنا أن نفعل فعلهم، فيجرنا ذلك إلى الشرك، ويأتي إخباره بذلك، وهو وجه الاستدلال بالآية.
(2)
"تتبعن" بضم العين وتشديد النون، أي لتسلكن طرق من كان قبلكم من الأمم، في عبادة الأوثان وغيرها مما ذمهم الله به، وهو الشاهد للترجمة، وبه أيضا تظهر مناسبة الآيات للترجمة.
(3)
بنصب "حذو" على المصدر، أي تحذون حذوهم، و "القذة" بضم القاف واحدة القذذ، وهي ريش السهم، مبالغة منه صلى الله عليه وسلم في الوصف، أي لتفعلن أفعالهم، ولتتبعن طرائقهم، حتى تشبهوهم وتحاذوهم في كل ما فعلوه، كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى وتساويها، لا تزيد واحدة على الأخرى.
(4)
أي لو تصور دخولهم جحر ضب مع ضيقه لدخلتموه، لشدة سلوككم طريق من قبلكم، و "الجحر" بضم فسكون غار الضب. وفي حديث آخر:" حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان فيكم من يفعل ذلك "2. وهذا كله شدة مبالغة =
1 سورة الكهف آية: 21.
2 الترمذي: الإيمان (2641) .
قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن " 1. أخرجاه (1) .
ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه (2)
ــ
= منه صلى الله عليه وسلم وبيان أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله، لا تترك منه شيئا، وقد أكد هذا الخبر بأنواع من التأكيدات، من ذلك اللام في قوة: والله لتتبعن، ثم بنون التوكيد، ثم بقوله:"حذو القذة بالقذة"، ثم بالغ أشد مبالغة في التشبه بهم، حتى إن اليهود والنصارى لو دخلوا جحر ضب لدخلته هذه الأمة، ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره من السلف:" من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى ".
(1)
أي البخاري ومسلم واللفظ له، و "اليهود" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني، و "من" استفهام تقرير، أي فمن القوم إلا هم، فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ونحوه أن كل ما وقع من أهل الكتاب، مما ذمهم الله به في هذه الآيات وغيرها لا بد أن يقع جميعه في هذه الأمة، وهذا اللفظ وإن كان خبرا، فمعناه النهي عن متابعتهم، وهذا من علامة نبوته صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته، فقد سلك كثير من أمته مسلك اليهود والنصارى في إقامة سائر شعائرهم في الأديان، وفي عاداتهم من تعظيم القبور، واتخاذها مساجد حتى عبدوها، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وملابسهم ومراكبهم، والتسليم بالإشارة، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابا، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على كتب البدع والضلال، وغير ذلك مما نهى الله عنه.
(2)
ثوبان يقال إنه من العرب، من بني حكمي بن سعد، وقيل من السراة، مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه فأعتقه، وخدمه ولازمه إلى أن مات صلى الله عليه وسلم، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة 54 هـ.
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89 ،3/94) .
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها (1) ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها (2) ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض (3) ،
ــ
(1)
أي زواها جميعها، يقال: زويت الشيء، جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها، حتى اطلع عليه صلى الله عليه وسلم اطلاعه على القريب، بأن طويت له، وجعلت مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره، فأبصر ما تملكه أمته من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، وفي رواية أبي داود:" فأريت مشارق الأرض ومغاربها ". قال القرطبي: ((ظاهر اللفظ يقتضي أن الله قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة، فأدرك البعيد من موضعه، كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عنه وهو ينظر إليه)) .
(2)
زوي يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل، وأن يكون مبنيا للمفعول. ولأحمد وغيره:" إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها " 1 وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي: ((هذا الخبر وجد مخبره كما قال صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة، الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه)) .
(3)
بالنصب على البدلية، قال القرطبي: يعني به كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما، وقد قال:" والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " 2 وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم الذهب، وبالأبيض عن كسرى؛ لأن الغالب عندهم الجوهر والفضة، =
1 مسلم: الإمارة (1855) ، وأحمد (6/24)، والدارمي: الرقاق (2797) .
2 أبو داود: الجهاد (2608) .
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة (1) ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم (2)، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد (3) ،
ــ
= وقد وجد ذلك في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر لما فتح بلاده.
(1)
هكذا ثبت بأصل المصنف بالباء، وهي رواية في صحيح مسلم وغيره، وفي بعضها بحذفها، قال القرطبي: وكأنها زائدة؛ لأن عامة صفة السنة، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط سنة، ويجمع على سنين كقوله:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 1 أي الجدب المتوالي.
(2)
أي لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم من الكفار، فيستأصل معظمهم وجماعتهم، وبيضة كل شيء حوزته، وقال الجوهري وغيره: بيضة القوم ساحتهم، سأل الله أن لا يسلط العدو على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بهذه الأوصاف المذكورة، ولو اجتمع عليهم كل من بين أقطار الأرض حتى يقع منهم ما ذكر فقد يسلطون عليهم.
(3)
أي إذا حكمت حكما مبرما نافذا أو معلقا فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال صلى الله عليه وسلم:" ولا راد لما قضيت "، وفي بعض الروايات قال:" دعوت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، وأجابني، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وأجابني، وسألته الثالثة أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا ومنعني هذا، وقال: حتى يهلك بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". وحتى هنا للغاية يعني إذا فعل بعضهم ببعض هكذا سلط عليهم العدو حينئذ، وما داموا مجتمعين على الحق فلا يسلط عليهم، ولكن عند فرقتهم يسلط عليهم عقوبة لهم.
1 سورة الأعراف آية: 130.
وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة (1) ، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها (2) حتى (3) يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا " 1. ورواه البرقاني في صحيحه (4) .
ــ
(1)
ولفظ أبي داود: " ولا أهلكهم بسنة عامة " أي أعطاه الله سؤاله لأمته أن لا يهلكها بسنة عامة، وهي الجدب الذي يهلك أخضرهم ويابسهم، فأجاب الله دعاءه، وكان في الأمم السابقة عذاب الاستئصال بخلاف هذه الأمة، فإن الله -وله الحمد والمنة- قد دفع عنها ذلك، ببركة دعاء نبيها صلى الله عليه وسلم.
(2)
أي وإني أعطيتك لأمتك أن لا أسلط عليهم عدوا من سواهم فيتولاهم جميعا، ويهلكهم ويذلهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض. ولفظ أبي داود:"من بين أقطارها "- جوانبها، أي لم يسلطهم الله عليهم، كما فعل بالأمم الماضية المكذبة، وهذا أيضا من خصائص هذه الأمة ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم.
(3)
(حتى) لإنتهاء الغاية، أي أن أمرها ينتهي حتى يوجد ذلك منهم، فإن الله لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم، ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله:" حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا "2. فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم كما وقع، فقد سلط بعضهم على بعض، لكثرة اختلافهم وتفرقهم، ولكن بحمد الله لا تزال طائفة منهم باقية على الحق، تقوم بها الحجة على الخلق، منصورة كما سيأتي.
(4)
البرقاني بفتح الباء، الموحدة وسكون الراء، نسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم، خربت وكانت مزرعة. هو الإمام الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد =
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2889)، والترمذي: الفتن (2176)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/284) .
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587)، ومسلم: الهبات (1623) .
وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين (1) ،
ــ
= ابن غالب الخوارزمي الشافعي، روى عن الدارقطني وغيره، وعنه الخطيب وغيره.
قال الخطيب: كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه، كثير التصانيف. صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة، وهذا المسند هو صحيحه الذي عزا إليه المصنف هذا الحديث. ولد سنة 336 هـ، ومات سنة 425 هـ.
وروى هذا الحديث أيضا بتمامه أبو داود وغيره عن ثوبان.
(1)
أي الأمراء والعلماء والعباد الذين يقتدى بهم الناس، وهم يحكمون في الناس بغير عام فيضلونهم ويضلونهم، فهم ضالون عن الحق، مضلون لغيرهم. قال تعالى:{وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1.
وقال عمر لزياد بن حدير: " يا زياد هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين ". وقال معاذ: " احذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم ".
وقال عبد الله بن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
…
وأحبار سوء ورهبانها
وأتى صلى الله عليه وسلم بإنما التي هي للحصر، بيانا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال، فيوقعوهم في الإثم، لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع، ولم يخف من جدب السنين ولا تسليط العدو.
وروى الدارمي " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين "2.
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته وأنذرهم عن الإحداث في الدين، وابتداع دين لم يشرعه الله ولعن من فعل ذلك، وأخبر الله تبارك وتعالى: أنه أكمل الدين، وأن القول عليه بغير علم رتبة فوق رتبة الشرك، فقال:{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. فكل من أحدث حدثا ليس في كتاب الله، ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون، وحدثه =
1 سورة الأنعام آية: 119.
2 الترمذي: كتاب الفتن (2229)، وأبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4252) ، وأحمد (4/123 ،5/278)، والدارمي: كتاب المقدمة (209) .
3 سورة الأعراف آية: 33.
وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة (1) ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين (2) ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان (3) ،
ــ
= مردود، كما قال عليه الصلاة والسلام:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "1. وقال: " من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " 2. وقال: " كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "3.
(1)
وفي رواية أبي داود: " وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع إلى يوم القيامة "4. وقد وقع كما أخبر، فإنه لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة دون أخرى.
(2)
الحي واحد الأحياء، وهي القبائل، وفي رواية أبي داود:" حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين "5. والمعنى أنهم يكونون معهم، ويرتدون برغبتهم عن الإسلام وأهله، ولحوقهم بأهل الشرك.
(3)
الفئام مهموز: الجماعات الكثيرة. ولفظ أبي داود: " حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان "6 وهو الشاهد للترجمة، وفيه الرد على من أنكر وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة مما هو مشاهد، وفي الصحيحين:" لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات دوس على ذي الخلصة " 7 طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية. وفي صحيح مسلم: " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى "8. وقيل: إن القبر المنسوب إلى ابن عباس في الطائف قبر اللات، فإن قيل: ورد ?"أن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب "9. قيل: قد أجيب عنه بأجوبة منها: أن يأسه غير معصوم، ومنها أنه يئس أن تطبق على عبادة الأصنام.
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
2 البخاري: الحج (1870) والجزية (3180) والفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300)، ومسلم: الحج (1370)، والترمذي: الولاء والهبة (2127)، وأبو داود: المناسك (2034) ، وأحمد (1/119) .
3 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه: المقدمة (45) ، وأحمد (3/310)، والدارمي: المقدمة (206) .
4 الترمذي: الفتن (2202)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/284) .
5 الترمذي: الفتن (2219)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278) .
6 أبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/284) .
7 البخاري: الفتن (7116)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) ، وأحمد (2/271) .
8 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2907) .
9 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2812)، والترمذي: البر والصلة (1937) ، وأحمد (3/313 ،3/354 ،3/366) .
وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي (1) ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (2) ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة (3)
ــ
(1)
وفي رواية "دجالون"، والدجل التمويه، والمراد ممن تقوم لهم شوكة وتبدو لهم شبهة، وأما مطلقا فلا يحصون، قال القاضي عياض:((عد من تنبأ ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلاله، فوجد هذا العدد فيهم)) . اهـ.
وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، ممن كان لهم أصحاب يصدقونهم ويأخذون بطريقهم، كمسيلمة باليمامة، والأسود باليمن، وطليحة في بني أسد، وسجاح في تميم، والمختار بن أبي عبيد في عصر ابن الزبير، والحارث في عصر عبد الملك بن مروان، وفي عصر بني العباس جماعة، وصار لكل منهم شوكة. وأما من ادعاها مطلقة فكثيرون، وغالبهم ينشأ فيهم عن جنون وسوداء، وقد أهلك الله من وقع منهم ذلك، واتضح كذبهم، وآخرهم الدجال الأكبر أعاذنا الله من فتنته.
(2)
الخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم، أي "هوصلوات الله وسلامه عليه آخر النبيين، لا نبي يوحي الله إليه بعده إلى قيام الساعة، وقال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1. قال الحسن: الخاتم الذي ختم به، وعيسى إنما ينزل في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته، فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم عيسى بن مريم حكما مقسطا، فليكسر الصليب، وليقتل الخنزير، وليضع الجزية " 2.
(3)
قائمة بالعلم والجهاد والذب عن الدين، قال بعض السلف: هم أهل الحديث. ويحتمل أن تكون هذه الطائفة جماعة متعددة من أنواع المسلمين، منهم محدثون وفقهاء ومجاهدون وآمرون وناهون، والمراد العاملون بكتاب الله وسنة =
1 سورة الأحزاب آية: 40.
2 البخاري: البيوع (2222)، ومسلم: الإيمان (155)، والترمذي: الفتن (2233)، وأبو داود: الملاحم (4324)، وابن ماجه: الفتن (4078) ، وأحمد (2/240 ،2/272 ،2/290 ،2/394 ،2/482 ،2/493 ،2/538) .
لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم (1) حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى (2) " 1.
ــ
= نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يلزم منه أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، ولا في قطر واحد، بل يجوز اجتماعهم في بلد وقطر وجهة، وافتراقهم في بلدان وأقطار وجهات من الأرض. وفي رواية:" لا تزال هذه الأمة قائمة "2 أي على أمر الله، ففيه حماية إجماع هذه الأمة عن أن تزل عن أمر الله، ولا تسمى أمته إلا الذين يعتد بإجماعهم، وفيه أن الإجماع حجة.
(1)
كما أخبر الله بذلك في كتابه بنصره لهم، كما في قوله:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 3. وكقوله: {لِيُظْهِرَهُ} أي يعليه وينصره: {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي على سائر الأديان. وغيرهما من الآيات. قال المصنف: ((وفيه الآية العظيمة أهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة)) .
(2)
ونص شيخ الإسلام وغيره على تواتر " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله " 4 أي إلى قيام الساعة، كما روى الحاكم من حديث عقبة ابن عامر:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "5. ولعل المراد به ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبض ما بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة، وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة; فإن كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما يقع فيه وقع كما أخبر. و (تبارك) كمل وتعاظم وتقدس، جاء بناؤه على السعة والمبالغة من باب مجد، والمجد كثرة صفات الجلال والكمال، والسعة والفضل، فدل على كمال بركته وعظمها وسعتها، ولا يقال إلا لله سبحانه وتعالى كما أطلقه على نفسه في قوله:(تبارك الله رب العالمين) وغيرها، فهو سبحانه المتبارك، وما بارك فيه فهو المبارك. وقوله:(تعالى) أي تعاظم، جاء أيضا على بناء السعة والمبالغة، فهو دال على كمال العلو ونهايته.
1 أبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278 ،5/284)، والدارمي: المقدمة (209) .
2 البخاري: العلم (71)، ومسلم: الإمارة (1037) .
3 سورة الروم آية: 47.
4 مسلم: الإمارة (1920)، والترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: المقدمة (10) ، وأحمد (5/279) .
5 مسلم: الإمارة (1924) .