الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
(1)
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (2)
ــ
(1)
أي باب ذكر ما جاء في أحكام الكهان من التغليظ الأكيد، والوعيد الشديد، وما جاء من الأحكام في نحوهم كالعرافين والمنجمين والرمالين. لما ذكر السحر وأنواعه ذكر أحكام الكهان ونحوهم؛ لمشابهتهم للسحرة، والكهان هم الذين يتعاطون الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعون معرفة الأسرار، ويأخذون عن مسترق السمع. قال الشارح: الكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب بالحصى والمنجم، وقال الخطابي:((الكهان -فيما علم بشهادة الامتحان- قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات)) اهـ.
وكانوا قبل البعثة كثيرين كشق وسطيح، فمنهم من يزعم أن له تابعا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها، من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف، كالذي يدعي معرفة المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وبعد البعثة قل مسترقو السمع؛ لأن الله حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس مما يسمونه كشفا وكرامة وولاية، وقد اغتر بهم كثير من الناس يظنون أنهم أولياء الله وهم من أولياء الشيطان، كما قال تعالى:{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} 1 الآية.
(2)
هي حفصة بنت عمر رضي الله عنها، ذكره أبو مسعود الثقفي في مسندها، وكذلك سماها بعض الرواة.
1 سورة الأنعام آية: 128.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما " 1 (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "2. رواه أبو داود (2) .
ــ
(1)
وفي بعض روايات الصحيح: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"3. قال الشارح: ليس في مسلم "فصدقه بما يقول"، فظاهر الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه، سواء صدقه أو شك في خبره؛ لأن إتيان الكهان منهي عنه، كما في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم "فلا تأتهم"، ولأنه إذا شك في خبره فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله. وقوله: لم تقبل له صلاة أي لا ثواب له فيها، لاقترانها بالمعصية، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه في الدنيا لوجود شروطها وأركانها، فإنها لا تلزمه الإعادة إجماعا، وفيه النهي عن إتيان الكاهن ونحوه، وإذا كانت هذه حال السائل فحال المسؤول أسوأ وأشر وأعظم. قال القرطبي:((يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم)) .
(2)
هذا الحديث مختصر، ولفظه:" من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "4. ورواه أحمد والترمذي والنسائي بنحوه وغيرهم، وله شواهد صحيحة.
1 مسلم: السلام (2230) ، وأحمد (5/380) .
2 الترمذي: الطهارة (135)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
3 مسلم: السلام (2230) ، وأحمد (4/68 ،5/380) .
4 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/408 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن (1) ــ" من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " 1 (2) . ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا (3) .
ــ
(1)
هكذا بيض المصنف لاسم الراوي، والأربعة هم أهل السنن أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا وإسناده على شرط الصحيح، وصححه العراقي في آماليه، وقواه الذهبي، والمصنف تبع فيه الحافظ في الفتح، أو لعله أراد الذي قبله.
(2)
المراد بالمنزل الكتاب والسنة، أي من ارتكب الكهانة فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. وفي الطبراني عن واثلة مرفوعا:" من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، فإن صدقه بما قال كفر ". والأحاديث التي فيها الكفر مقيدة بتصديقه، وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر فلا ينقل عن الملة، أو يتوقف فيه كما هو أشهر الروايتين عن أحمد؟ والذي يصدق العراف أو الكاهن لم يكفر بالطاغوت، بل مؤمن به، وغالب الكهان قبل النبوة إنما يأخذون عن الشياطين.
(3)
أي مثل حديث أبي هريرة موقوفا على ابن مسعود، وأبو يعلى هو الإمام الحافظ محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثني التميمي الموصلي، صاحب التصانيف كالمسند وغيره، روى عن يحيى بن معين وخلق، مات سنة 307هـ. وهذا الأثر رواه البزار أيضا، ولفظه:" من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "2. ومثل هذا له حكم الرفع، وفيه دليل على كفر الكاهن =
1 الترمذي: الطهارة (135)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/408 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
2 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/408 ،2/429 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
وعن عمران بن حصين مرفوعا: " ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سَحَرَ أو سُحر له (1) ، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ". رواه البزار بإسناد جيد (2) .
ــ
= والساحر مع ما تقدم؛ لأنهما يدعيان علم الغيب الذي استأثر الله به، كما أخبر به في كتابه، وذلك كفر والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا؛ لأن الله أمرنا في كتابه بالإيمان به وحده، والكفر بهذه الأمور كقوله تعالى:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1.
(1)
فيه وعيد شديد فيدل على أن هذه الأمور من الكبائر، ولا ينافي ما تقدم من أن الطيرة شرك. وقوله: تطير أي فعل الطيرة، أو تطير له أي قبل قول المتطير له وتابعه، وكذا الكهانة، كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذا من عمل الساحر له السحر، فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها أو عملت له عالما راضيا بذلك فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها إما شركا كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر، فمن رضي بذلك وتابع فهو كالفاعل؛ لقبوله الباطل واتباعه، ويأتي حديث:" ثلاثة لا يدخلون الجنة "2. وذكر منهم: المصدق بالسحر.
(2)
ورواه أبو نعيم من حديث علي، فتعدد طرقه تثبت أن له وجودا في الأصل، وإن كان فيها مقال، وقال المنذري:((إسناد البزار جيد)) . اهـ. والبزار هو الإمام الحافظ المشهور أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، صاحب المسند الكبير سماه البحر الزاخر، صدوق روى عن ابن بشار وابن المثني وخلق، أصله من البصرة ومات في الرملة سنة 292هـ.
1 سورة النساء آية: 51.
2 أحمد (4/399) .
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى " إلى آخره (1) .
قال البغوي: (العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك)(2) . وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل (3) . وقيل: الذي يخبر عما في الضمير (4) .
ــ
(1)
فهو من رواية البزار، وقال المنذري:((إسناد الطبراني حسن)) .
(2)
البغوي هو الإمام الحجة منسوب إلى بغ مدينة بين هراة ومرو، ويقال لها أيضا: بغشور. واسمه الحسين بن مسعود، محي الدين الفراء الشافعي، عالم خراسان وصاحب التصانيف كالتهذيب وشرح السنة والمصابيح والتفسير، سمع عن جماعات منهم القاضي الحسين والمليحي والداودي والصيرفي، وعنه محمد العطاري ومحمد أبو الفتوح الطائي وجماعة، مات سنة 516هـ. وظاهر كلامه أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها وغير ذلك بأسباب ومقدمات، بأقيسة فاسدة يدعي معرفتها بها، وخيالات شيطانية، وربما تنزلت عليه الشياطين، وما زجت أنفاسه الخبيثة أنفاس إخوانه من الشياطين، فإنها تنزل على الكاهن والمنجم والرمال والساحر ونحوهم، وكل من ادعى شيئا من هذه الأمور لقوله تعالى:{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1.
(3)
ويدعي معرفة الأسرار، ويأخذ عن مسترق السمع ونحو ذلك، وسمي عرافا لادعائه المعرفة.
(4)
أي وقيل: الذي يخبر عما في الضمير داخل أيضا في اسم العراف.
1 سورة الشعراء آية: 222.
قال أبو العباس ابن تيمية: (العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم (1) ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق) (2) .
وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد (3)
ــ
(1)
كالحازر الذي يدعي علم الغيب، أو يدعي الكشف. وقال أيضا: والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم هو في معناه. وقال أيضا: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب، وعند آخرين هو من جنس الكاهن وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى. وقال الإمام أحمد:((العرافة طرف من السحر، والساحر أخبث)) . وقال ابن القيم: ((من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا)) .
(2)
فهؤلاء أدخلهم شيخ الإسلام في اسم العراف، والمقصود من هذا معرفة من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو ذلك من علوم الجاهلية أعداء الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب قبل البعثة، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا وعرافا أو ما في معناهما، ومن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد، وكذا الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه، والذي يحل السحر، فإذا كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن فإنه يكفر.
(3)
كتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي جاء فيه الوعيد، وهو الذي يسمى علم الحروف، فيقطون حروف أبجد هوز حطي كلمن سعفص =
وينظرون في النجوم (1) : " ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق "(2) .
ــ
= قرشت ثخذ ضظغ، فيجعلون الألف واحدا والباء اثنين، إلى نهاية الحرف العاشر، ثم يبدءون بالكاف عشرة واللام عشرين، وهكذا إلى الشين مائتين، إلى أن تتم هذه الحروف، وأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به.
(1)
أي ويعتقدون أن لها تأثيرا، فيأخذون أمورهم ومقاصدهم بما يبين لهم على زعمهم الفاسد من النجوم بأعداد وحساب، يزعمون أنهم يدركون بذلك علم الغيب، يعني فهذا النوع أيضا من العرافين.
(2)
لا أرى بالفتح بمعنى لا أعلم، ويجوز الضم بمعنى لا أظن لهم عند الله من نصيب. وهذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا، ولفظه:" رب معلم حروف أبي جاد، دارس في النجوم، ليس له عند الله خلاق يوم القيامة ". ورواه عنه حميد بن زنجويه بلفظ: " رب ناظر في النجوم ". وقد استأثر الله بعلم الغيب كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} 1. وفيه من الفوائد عدم الإغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، والحذر من كل علم لا تعلم صحته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
1 سورة الأنعام آية: 59.